الفنان التشكيلي طالب دويك: ريشتي تسافر كثيرا لكنها لا ترسم سوى للقدس وعنها

طالب الدويك.. فنان شكلته تفاصيل القدس
طالب الدويك فنان شكلته تفاصيل مدينة القدس وتزخر لوحاته بمشاهدها وأطرافها (الجزيرة)

القدس- منذ عام 1977 تتناثر الألوان المبهجة على لوحات الفنان التشكيلي المقدسي طالب دويك، الذي تربعت المدينة المقدسة على عرش لوحاته، ورغم سفر ريشته إلى بلدان كثيرة حول العالم فإنها ترسم للقدس وعنها كلما التصقت باللوحة.

4 عقود ونصف العقد من مسيرته تخللها كثير من المشاق والعقبات كونه ينحدر من العاصمة المحتلة التي يُكبّل الاحتلال فيها كافة مناحي الحياة ويجعلها أكثر تعقيدا، فلا يتوفر للفنان الجو الهادئ المناسب للإبداع، ورغم ذلك يرفض دويك أن يبث قلقه وحزنه إلى جمهور لوحاته، ويصرُّ على تمرير الفرح وإدخال البهجة على قلوب زائري معارضه الفنية.

على هامش معرضه الأخير "القدس تسكن فينا"، حاورته الجزيرة نت عن مسيرته الفنية وما يعنيه أن يمارس الفن في القدس، وحول أبرز المعوقات التي تواجه الفنانين التشكيليين في المدينة من جهة ومدى المساهمة الفلسطينية والمقدسية في الفن التشكيلي العربي والعالمي من جهة أخرى.

  • دعنا نعود إلى البدايات.. من الفنان التشكيلي طالب دويك؟ وكيف دخل مجال الفن؟

ولدت في "حوش الشاي" في البلدة القديمة بالقدس عام 1952، وترعرعت قريبا من المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، وتذوقتُ جماليات البلدة القديمة من أقواس وقباب وأبواب وحارات وقناطر، وعشتُ على مدار سنوات طفولتي الاحتفالات الاستثنائية في الأفراح التي كانت زفّة العريس بعد صلاة العشاء أبرز طقوسها.

ولدتُ لعائلة فقيرة جدا، إذ أنجبت أمي 13 طفلا، وكان والدي يعمل بائعا متجولا، ورغم الفقر عشنا حياة هادئة قبل مجيء الاحتلال عام 1967، وفي أول يوم من الحرب اقتحم جنود الاحتلال الحوش الذي تسكنه 14 عائلة، وطردونا بالقوة مدّعين أن المكان عبارة عن كنيس يهودي قديم.

طالب دويك يعلم الفتيات بالأقصى.
الفنان الفلسطيني طالب دويك يعلم الفتيات بالأقصى (الجزيرة نت)

رحلة التهجير امتدت سنوات، لكننا لم ننجح في العيش بعيدا عن القدس؛ فعدنا إليها واستقرت أسرتي سنوات في البلدة القديمة ببيت مستأجر قبل أن تنتقل إلى حي رأس العامود القريب من البلدة القديمة.

الفرصة التي أحدثت نقلة نوعية في حياتي هي تمكنني من الحصول على منحة أردنية بعد المرحلة الثانوية لدراسة البكالوريوس بتخصص الفنون في مصر، بعد اجتيازي مقابلة وامتحانا في كل من الأردن ومصر، وعدتُ للعمل مدرسا في مجال الفنون بمدرسة المعهد العربي، وكانت أول مدرسة تُوظف أستاذا متخصصا يحمل شهادة في هذا المجال.

توالت لاحقا المناصب التي تقلدتها، ومنها رئيس قسم الفنون الجميلة في جامعة القدس، وما زلت أعمل مدرسا في مجال الفنون بعدة كليات وجامعات في مدينتي القدس وبيت لحم.

  • حدثنا عن جوانب من حياتك في القدس التي عبرت عنها من خلال أعمالك الفنية؟

يُطلق عليّ اسم "فنان القدس" لشدة تعلقي بهذه المدينة، وتُرجم هذا التعلق باستخدام الألوان بجمالية عالية لنقل فن العمارة الإسلامية في بعض المعالم المهيبة كقبة الصخرة المشرفة مثلا.

القدس أيقونة جميلة يصعب وصفها، لكن يمكن التعبير عنها بطرق مختلفة، والفنان ابن بيئته، فلا يمكنني رسم منطقة نهر المسيسيبي لأنني لستُ ابن تلك البيئة.

يجب أن يعبر الفنان عن المكان والزمان اللذين يعيش فيهما، والقدس توفر لنا تربة خصبة للفن، فكل متر مربع بها مشروع لوحة بالنسبة لي، لم أجد أجمل منها، هي عاصمة العواصم وجوهرة الدول العربية.

ورغم الجمال والمعالم الاستثنائية التي تساعدنا كفنانين فإننا ندفع ضريبة عالية نتيجة إصرارنا على الرباط والعيش بهذه المدينة، فنواجه مضايقات يومية، بالإضافة إلى الضرائب والمخالفات وغلاء المعيشة الفاحش، لكن القدس تستحق أن نقدم لها التضحيات.

الفنان المقدسي طالب دويك.
الفنان المقدسي طالب دويك: ليس من السهل ممارسة الفن في القدس (الجزيرة نت)
  • ما أبرز مراحل مسيرتك الفنية؟

كانت بداية المسيرة محفوفة بالمشاق، فليس من السهل ممارسة الفن في القدس، كنتُ أحمل لوحاتي وأقطع بها مسافة 10 إلى 12 كيلومترا لأشارك في المعارض الفنية، ورغم الصعوبات كنت أصر على الحضور في المعارض، وكثيرة هي الدول التي سافرتُ إليها وشاركتُ في معارضها على حسابي الخاص، لأنني مصمم على التعرف على الفن والفنانين في دول العالم المختلفة.

نشاطي هذا أهّلني لأكون أمين سر رابطة الفنانين التشكيليين الفلسطينيين ولاحقا رئيس الرابطة، وخلال فترة رئاستي نظمنا عدة معارض في دول عدة، أبرزها اليابان وإسبانيا وبلجيكا، بالإضافة إلى عدة دول عربية.

ولاحقا شعر الفنانون المقدسيون بالتيه في ظل تفكك المدن الفلسطينية وفنانيها، وتصرف كل مدينة كدولة منفصلة عن الأخرى، فقررنا الاعتماد على أنفسنا وأنشأنا جمعية خاصة بنا. أقول ذلك بكل ألم وتتحمل مسؤولية هذا التيه والتفكك كافة المؤسسات التي تحصل على دعم باسم الثقافة والفن والأدب ولا تلقي أي اهتمام للفنانين.

  • هذا يقودنا لسؤالك عن أبرز المعوقات التي تواجه الفنانين التشكيليين في القدس؟

عوائق كثيرة لأننا نعيش خارج نطاق السلطة ومنظومة المساعدات المالية الخاصة بها، كونها معدومة السيادة في القدس، فلا يمكننا الحصول على منح مالية ولا أن ندعو وزير الثقافة الفلسطيني لافتتاح معارضنا الفنية بالقدس، وهذا يؤلمنا بلا شك.

نعتمد على جمعيات غير حكومية في تقديم مساعدات محدودة، وهذا دفعنا للاعتماد على أنفسنا في التطوير وإنشاء جمعية تضم الفنانين التشكيليين المقدسيين تحت مظلتها، ومن خلالها نظمنا عدة معارض فنية.

8-الفنان المقدسي طالب دويك.jpg
الفنان المقدسي طالب دويك قال إن رسم لوحات عن القدس يشعره بالانتماء لهذه المدينة المقدسة (الجزيرة نت)
  • كيف تؤثر الحياة في القدس على الجانب الفني؟ هل يلقي الحزن والقلق بظلالهما على أعمالك؟

لا، لأنني أعتبر أن إسعاد الناس واجبي كفنان، وينعكس الفرح والأمل على كل لوحاتي التي تعجُّ بالألوان المبهجة.

الفلسطينيون منهكون من الحواجز العسكرية والإهانات والتفتيش وغلاء المعيشة والمخالفات، وعندما يقررون زيارة المعارض الفنية فإنهم يريدون الهرب من هذا الواقع الأليم، وأنا أوفر الملجأ الآمن والمفرح للزوار.

لا أريد أن أضاعف هموم الناس، وفي لوحاتنا يجب أن نلتفت للأطفال لنخلق اتزانا نفسيا لديهم، ويجب أيضا أن نحرص على ممارستهم الفن ومشاركتهم في فعاليات الرسم، بالإضافة إلى سماع الموسيقى وحضور المسرحيات كي نخلق جيلا ذواقا يحترم الفن والفنانين.

والفنان يجب أن يعبر عن بلده وهويته والمكان والزمان بطريقة معاصرة لا أن يقلد المدارس القديمة التي تعتمد على المحاكاة، لذا ترون في أعمالي رمزية لها دلالات عالية، وأطلق على نفسي فنانا تعبيريا لا واقعيا ولا سرياليا.

  • كيف يساعدك الفن كمقدسي.. بمعنى هل أنقذك الفن من أحزانك وقلقك وساعدك على تخطي مصاعب الحياة اليومية في المدينة؟

الفن هو العلاج والدواء بالنسبة لكل من يعيش تحت الاحتلال ويعاني من المنغصات اليومية لأنه المتنفس للتعبير عن الهوية والوطنية.

ويدلل الفن على المستوى الثقافي العالي ورقي الشعوب، وفي فلسطين نفتخر كفنانين بأسماء فلسطينية لمعت عالميا وألهمتنا لتنظيم معارض باسمها كالراحل محمود درويش، الذي أطلقنا معرضا يحمل اسم "جواز سفر"، واختار كل فنان قصيدة من قصائده وحولها إلى لوحة.

8-لوحة _باب حطة_ التي اقتناها الرئيس الفلسطيني محمود عباس(الجزيرة نت)
لوحة "باب حطة" التي اقتناها الرئيس الفلسطيني محمود عباس (الجزيرة نت)
  • ما رأيك في الفن الملتزم؟ وهل يضر الجانب النضالي بالقيمة الفنية أم يثريها؟

يثري الجانب النضالي العمل الفني إذا لم يكن مبتذلا، ويفشله إذا بالغ الفنان في تصنع الوطنية والحزن.

المهم أن ينتج العمل من مشاعر صادقة، وفي هذا الإطار أميل إلى فن الطفل لأن فيه جرأة وعفوية وصدقا، والطفل لا يتكلف حتى في اللوحات ويساعدنا في إنتاج عمل فني عميق من الناحية الجمالية، وأعتبر فن الطفل من أجمل الفنون الغنية بالخيال والأفكار.

الخلاصة أن الجانب النضالي يضر في حالة واحدة؛ إذا كان سطحيا وهدفه تغذية العواطف ولفت نظر الناس للفنان، ويمكن النجاح فيه إذا كان بعيدا عن الذاتية ولم يكن مباشرا.

  • كيف ترى التكامل بين الفن والأدب؟

العلاقة بينهما عميقة ولكل منهما دوره ووجهته الخاصة، فالأدب يعبر بالكلمة والفن يعبر بالريشة واللون، والموسيقى تعبر بالأوتار.

يجب علينا أن نسمع الموسيقى الجيدة ونقرأ كثيرا وعميقا كي نفهم ونتذوق اللوحات الفنية ونمحصها لا أن نمر عليها مرور الكرام.

  • ما مدى المساهمة الفلسطينية والمقدسية في الفن التشكيلي العربي والعالمي؟

الفنان الفلسطيني لديه قدرات عالية وحضوره بارز أينما حلّ، وكفنانين مقدسيين كانت آخر مشاركة لنا قبل أشهر بمعرض فني في مدينة أنقرة التركية مع فنانين عالميين، وفي معرض دولي آخر بمدينة العقبة الأردنية.

ندفع أحيانا تكاليف السفر والإقامة من جيوبنا، لكننا لا نتخلف عن المشاركة، ونضطر لذلك في ظل غياب حاضنة رسمية لنا كفنانين مقدسيين.

7-من اللوحات المشاركة في مععرض القدس تسكن فينا وتتحدث عن موسم قطف الزيتون(الجزيرة نت).HEIC
لوحة عن موسم قطف الزيتون شارك بها طالب دويك في معرض "القدس تسكن فينا" (الجزيرة نت)
  • حدثنا عن أبرز معارضك الفنية، ومن بينها المعرض الأخير "القدس تسكن فينا"، وعن الرسائل التي تحملها أعماله؟

"القدس تسكنني" معرض آخر أقمته في المدينة المقدسة عام 2016 وتتشابه التسميات، لأن هذا ما أشعر به وأعبر عنه في لوحاتي دائما.

الأعمال منوعة تتحدث عن القدس في كل من شهر رمضان وفصل الشتاء والثلج والغروب والحياة اليومية والقمر وغيرها، ومن خلالها أريد أن ألفت نظر الزوار لتفاصيل جمالية قد لا يراها ويتأثر بها سوى الفنان في المدينة.

ارتبطت عدة معارض فنية أقمتها بأحداث معينة، فعندما بُني الجدار العازل وحوصرت القدس أقمت معرضي "ما وراء الجدار" و"انتظار"، وتحدثت لوحاتهما عن الأمل المنتظر، أما "آفاق" فتركزت لوحاته على التحرير وحلم العودة. و"شبابيك" معرض فني آخر اختص بالأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، وهنك معرض "شموخ" وتحدث عن المرأة الفلسطينية.

ترتبط أعمالي ومعارضي بأحداث ألتصق بها وأعيشها ولا يمكنني التعبير عنها بريشتي سوى في وقت حلولها أو حدوثها، فمثلا أنا أرى القدس بيضاء في رمضان لأن معظم الرجال يرتدون الأثواب البيضاء، فأرسم لوحة "صلاة التراويح" خلال الشهر ولا يمكنني رسمها بعد 9 أشهر من انقضاء رمضان، وهكذا تكون اللوحات عميقة لأن الإحساس خلال رسمها يكون عاليا.

في موسم قطف ثمار الرمان والزيتون والعنب أرسم اللوحات الخاصة بهذه الأشجار، وأتفاعل بشكل كبير مع الأرض ومواسم الحصاد.

13-بعض-اللوحات-المشاركة-في-معرض-القدس-تسكن-فينا_الجزيرة-نت_
بعض اللوحات التي شارك بها طالب دويك في معرض "القدس تسكن فينا" (الجزيرة نت)
  • أخيرا، حدثنا عن لوحة كانت لها قصة خاصة في مسيرتك الفنية؟

خلال هبّة البوابات الإلكترونية صيف عام 2017 كنتُ أتواجد في يوم النصر أمام باب حطّة الذي أصرّ المصلون على الدخول منه إلى المسجد الأقصى.

تأثرت بالمشهد المهيب لآلاف المصلين المتدافعين نحو المسجد، ولا يمكنني وصف ما شعرتُ به، لكنني عبرتُ عن أحاسيسي بلوحة "باب حطّة"، وبالصدفة شاهد الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس مقابلة لي على تلفزيون فلسطين وأنا أتحدث عن هذا المشهد والعمل المرتبط به، وطلب أن يقابلني ويقتني اللوحة.

منحني خلال لقائي به وسام الثقافة والعلوم والآداب بدرجة الابتكار، ثمّنتُ هذه اللفتة واعتبرتها إحدى إنجازات مسيرتي الفنية.

المصدر : الجزيرة