التلازم الكوني بين السياسي والأخلاقي

الحداثة الأخلاق - السياسة - التقنية - تكنولوجيا
من علامات تخلّق الدولة الحديثة حرية المعارضة وحرية التعبير الذي هو تعبير عن الحرية (شترستوك)

أطلعني الأستاذ عبد الحكيم أحمين على جواب الأستاذ حلاق حول الأسئلة نفسها التي طرحها علي وعلى الأستاذ عبد الرحمن، وربما غيرنا سابقا أو ما يماثلها، طالبا رأيي في جوابه.

لم أفهم الدافع إلا إذا كان عاما، لكن لا يهم فهم العلة من إعلامي، وقد بدا لي وكأنه ينتظر فهم طبيعة الخلاف بين موقفي وموقفه، الذي يشارك فيه الأستاذ عبد الرحمن، في نقد ما بعد الحداثة ورؤيتها للدولة.

لذلك، فجوابي أعتبره تتمة لما سبق أن قلته في وهاء المقابلة بين الخصوصي والكوني في المسألة، ووهاء المقابلة بين حضارات خيّرة وحضارات شريرة، والمقابلة بين شرق وغرب. فالسنن التاريخية لا تختلف من حيث الكونية عن القوانين الطبيعية. وهذا ردي عليه:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فشكرا على إطلاعي على جواب الأستاذ حلاق، وهو جواب يشارك فيه الأستاذ طه عبد الرحمن، وموقفي من رؤيتهما لا يحتاج إلى مزيد شرح بعد تعليقي عليها في عديد المناسبات.

ولا أريد لجوابي أن يكون دخولا في خصومة مع أحد، فلا يعنيني الخصام في المواقف، لأن لكل حقه في الاختلاف. لكن لا بأس من توضيح مآل النقد عندما يتحول إلى موضة في الأقوال يناقضه السلوك في الأفعال.

فموقفهما يبدو لي قد تحول إلى "مانيكييسم" قولي، يناقض تعايشا فعليا "متكيفا ومرتاحا" مع ما يدعيان رفضه ولا يفعلان شيئا لمعارضته، كما يفعل أصحاب النقد الذي يحاكيان قشوره، أعني نقد الحداثة عند الغربيين أنفسهم.

لا أفهم المقابلة بين عصر في التاريخ يمثل الخير والأخلاق، وعصر فيه يخلو منهما، فأهم مفكري الأخلاق عالميا من أرسطو وأفلاطون إلى اليوم يتوزعون بين الشرق والغرب تقريبا بالتساوي

أخطئ رأسي واضرب

فكون هذا النقد لم ينتظرهما بل هو بدأ في الغرب، دليل على أن رؤيتهما لا تطابق أخلاق الغرب، بل هي اعتذار منهما عن عدم القيام بما تقتضيه الأخلاق، أي أن تصحب الأفعال الأقوال.

لم أسمع لحلاق ولا لعبد الرحمن رأيا في ما يجري في بلديهما، ولا التزاما في الإصلاح الواجب فيهما من منطلق ما يزعمانه نقدا ما بعد حداثي للدولة، في حين أنهما كلاهما يعيشان في أفسد الأنظمة بإطلاق، وهما في أحسن حال مع سلطات بلديهما، وسعداء إلى حد كبير بالتصفيق لهما، لأنهما يتكلمان على النقد واللامبالاة بما يجري بدعوى الموقف الصوفي، ليس المقاوم بل المستسلم للأحداث.

لذلك، فإني لا أفهم المقابلة التي يمثلانها بين عصر في التاريخ يمثل الخير والأخلاق، وعصر فيه يخلو منهما، معتبرين ذلك ممثلا لما بعد الحداثة وراجعا إلى معنى الدولة الحديثة العديمة الأخلاق، في حين أن أهم مفكري الأخلاق عالميا من أرسطو وأفلاطون إلى اليوم يتوزعون بين الشرق والغرب تقريبا بالتساوي.

وكان من المفروض أن يفهم الرجلان أن النقد بهذا المعنى لم يبدآه هما، وهما فيه مقلّدان بصورة كاريكاتيرية، لأن نقدهما سطحي يكتفي بشعارات مستوردة لا يصحبها فعل، بل يصحبها الجبن السياسي بمنطق "أخطئ رأسي واضرب" (منطق جحا).

ومن علامات ذلك التي لا تكذب، أن النقد في الدولة الغربية الحديثة أساسه هو جوهر الأخلاق، لأنها لا تستطيع منعه بل تلتزم بشرط شروطه، أي شرعية المعارضة السياسية: والمشكل هو إذن في ما يمكن أن يطرأ من تحريف حول أدوات تحقيق هذا الشرط، وليس عدم وجوده.

فمن علامات تخلّق الدولة الحديثة هي حرية المعارضة وحرية التعبير الذي هو تعبير عن الحرية، ولا نقد للسياسة إلا أحد نوعين أو الجمع بينهما، أي النجاعة في شروط سد الحاجات العضوية، والأخلاق في شروط سد الحاجات الروحية.

والدولة الحديثة تعتمدهما، ومن ثَم فهي لا تحول دون نقد السياسة، وبمعايير قيمية وخلقية تنفي كل حججهما، بخلاف الدول التي يزعمونها قد كانت مؤسسة على الأخلاق ثم اندثرت لأن الحديثة عديمتها.

هدفي هنا شرح علة سوء الفهم الذي جعلهما يحولان النقد إلى كاريكاتير و"مانيكييسم". أعتقد أن خطأهما الجوهري يتمثل في الخلط بين منطقين متلازمين في كل الجماعات البشرية:

  • منطق أصحاب السلطة السياسية والنخب التي تضفي الشرعية على سلوكهم المعتمد على تقديم الوسيلة والأداة على الغاية. وغالبا ما تكون النخب المبررة إما فقهاء الآخرة وإما فلاسفة الدنيا، من جنس النخبة الدينية والنخبة العلمانية.
  • ومنطق الجماعات البشرية التي تخضع لهذه السلطة وممثليها من النخب التي تقدم الغاية ومعنى الكرامة على الوسيلة والأداة. فهؤلاء في الغالب هم من ضحايا أولئك. وحرية المعارضة وحرية التعبير -التي هي التعبير عن الحرية- هي التي تمثل أخلاق الجماعة التي تتحرر من إطلاق استبداد الحكام.

الشعوب في النهاية خلال التاريخ المديد تفرض التآخي البشري، فتتحرر بالتدريج من العصبيات الخمس التي ذكرها ابن خلدون واستقرأها من تاريخ الخلافة الإسلامية

النقد القولي علم خيالي

وكلا المنطقين موجود في كل الحضارات، قديمها وحديثها، وما قبل قديمها وما بعد حديثها. ومن هنا جاءت المانيكانية في موقف النقد الشكلي عند الرجلين، والذي لا يتجاوز الأقوال إلى الأفعال، لأنهما مسالمان للظلم والقهر في وطنيهما، وفرحان بالتصفيق للأقوال التي لا تمتحنها الأفعال.

النقد القولي من جنس العلم الخيالي (سينس فكسيون)، لكن العلم الفعلي تمتحنه التجربة: والعمل في الأخلاق هو امتحان النقد، مثل التجربة التي هي امتحان النظرية.

لذلك، ففكر الرجلين لا يتجاوز الكلام عن الأخلاق دون ممارسة امتحان المواقف، لأن الأخلاق لا تتعين في الأقوال بل في الأفعال، مثل العلم الذي لا يتعين في الأقوال بل في التجربة.

عدم فهم ذلك هو علة التبسيط المخل بمفهوم النقد أصلا. وما أعجب له حقا هو أنهما لم يغيرا موقفهما حتى بعد ما أثبته الطوفان، بفضل التغير الثوري الذي حصل في مواقف شباب الغرب والكثير من مفكريه.

فأكثر الشعوب ثورة على منطق السياسة التي جعلت الدول والساسة الغربيين ونخبهما تترك الحبل على الغارب للصهيونية والصفوية، أداتي المافيات المتصارعة في إقليمنا، هي الشعوب الغربية بدافع خلقي وحقوقي. بخلاف القلة من النخب الإسلامية التي لا يحركها دافع خلقي ولا حقوقي، بل مجرد عصبية للأهل أو للعقيدة الدينية. فكان الدافع في الحالتين الغربية والإسلامية مزدوجا بازدواج:

  • منطق السياسي عند الحكام ونخبهم، وهو محكوم بالمصلحة وتقديم الأدوات على الغايات، أي الغاية المصلحية تبرر الوسيلة الشريرة، وهي العنيفة التي يفسر بها ابن خلدون فساد معاني الإنسانية.
  • ومنطق الروابط الإنسانية التي تُعكس، ربما لأنها هي التي تكون في الغالب ضحية هذا المنطق السياسي، رغم كون السياسة -خاصة في الديمقراطيات- تُعلِّله بالدفاع عن "المصلحة الوطنية" ومصلحة الدولة "ريزون ديتا (la raison d’état).

رأيي إذن هو رفض المانيكييسم، وإثبات تقاسم البشر كلهم نفس المنطقين الذي هو دائما محاولة للتوفيق بين الخير والشر وبين الموقفين:

  • المصلحي، وهو جوهر الفرق بين ما يغلب على التاريخ القصير السريع، وهو تاريخ الحكم.
  • والخلقي، وهو جوهر ما يتجلى في التحولات البطيئة، وهي منطق التاريخ المديد.

بمعنى أن الشعوب في النهاية خلال التاريخ المديد تفرض التآخي البشري، فتتحرر بالتدريج من العصبيات الخمس التي ذكرها ابن خلدون واستقرأها من تاريخ الخلافة الإسلامية:

  1. عصبية الدم والقبلية.
  2. وعصبية الولاء المصلحي والموالي.
  3. وعصبية القومية لصد سيطرة الموالي.
  4. وعصبية العقيدة لتجاوز العصبيات العرقية.
  5. لتصل إلى الأخوة البشرية التي هي غاية العيش المشترك السلمي بين البشر، وخاصة الآن في عصر العولمة.

منطق المقابلة بين الخيرين والشريرين ظاهرة كونية، ولا ينبغي أن نطلق الأحكام فنعتبر الخير مقصورا على الشرق والشرّ على الغرب

مافيات دين العجل

ويمكن القول إن أهم ما حققه طوفان الأقصى بعد هزيمة ما يسمى بالجيش الذي لا يقهر، هو ما بدأ يتجلى في رؤية الشباب الغربي والكثير من النخب الفكرية الغربية الحالية التي بدأت تفهم أن الحكام في الغرب لا يختلفون عن حكام العالم الثالث:

فهم تحكمهم المافيات المتجاوزة لحدود الدول، وهي في الغالب صاحبة دين العجل، أي مافيات الصهيونية والصفوية التي تجمع بين نوعي التبرير العرقي والطائفي مثلنا.

فالجمع بين الفاشيات الدينية والعرقية خاصية مشتركة بين السياستين الإسرائيلية والإيرانية في العالم -شعب الله المختار، وأسرة الله المختارة- تعتبر بقية الشعوب عبيدا لديها، فالجوهيم عند المافيا الصهيونية تناظرها الناصبية في الصفوية.

لكن ذلك لا يقول به كل اليهود ولا كل الإيرانيين: لذلك فمنطق المقابلة بين الخيرين والشريرين ظاهرة كونية. فمن اليهود من هم أكثر دفاعا عن حقوق الفلسطينيين من الكثير من حداثيي العرب، وكذلك من الإيرانيين، ولا ينبغي أن نطلق الأحكام فنعتبر الخير مقصورا على الشرق والشرّ على الغرب.

ذلك أني لا أعتقد أن سنن التاريخ تختلف عن قوانين الطبيعة من حيث الكونية، وأن الخصوصيات التي يتكلم حلاق وعبد الرحمن عنها ليست إلا الفلكلور الشعبوي الذي تستعمله هذه المافيات لتبرير أفعالها.

لكن ذلك ليس هو أخلاق الشعوب، وخاصة بعد أن أدرك الشباب الغربي -بفضل نقد بعض النخب الغربية الإنسانية النزعة- أن ما يحدث في العالم الثالث يحدث عندهم، وأنهم ضحايا مثلنا لمافيا المال الفاسد ولمافيا الإعلام الذي يخدمها، أي الإعلام المضلل.

وكلاهما يمثل أحد بعدي دين العجل: أي سلطان العملة (معدن العجل)، وسلطان الكلمة (خوار العجل). ومن يزعم أن المسلمين بمنأى عن ذلك يكذب، فحكامهم مافيات أهلية تابعة للمافيات الغربية. وهذه على الأقل لا تستطيع أن تمنع حرية النقد، لكن تلك تحول دونه.

لذلك، فحلاق وعبد الرحمن كلاهما أعجز من أن ينقد سلطات بلاده، والحياد في مثل هذه الحالات جبن ونفاق. فالحياد في الأفعال مع ادعاء الجرأة في الأقوال يعبران عن جوهر النفاق الخلقي، لأنه يجمع بين حماية المصلحة الذاتية بحياده، ويدعي الدفاع عن القيم ليخادع العامة: وهي النجومية المضاعفة عند الخاصة من أصحاب الجاه وعند العامة من أصحاب الغفلة.

المصدر : الجزيرة