الروائي الجزائري واسيني الأعرج: "ألف ليلة وليلة" نديمي وتاريخ البشر مصنوع بالدم

واسيني الأعرج(صفحة الكاتب على فيسبوك)
الروائي الجزائري والأستاذ الجامعي واسيني الأعرج (من صفحته على فيسبوك)

أخذ اسمه من قبيلة بني واسين، حيث رأت والدته التي كانت تنجب البنات الولي الصوفي "سيد محمد الواسيني" في الحلم يرتدي الزي الأبيض، ويقول لها: ستنجبين ذكرا ولكن عليك أن تسميه باسمي وإلا سآخذه، أي أنه سيموت، وانصاعت الوالدة لذلك وسمي "واسيني"، وهي تسمية أمازيغية في الأصل وتعني "الاستقامة".

كما يقول واسيني الأعرج، الروائي الجزائري والأستاذ الجامعي، الذي يعد واحدا من الأقلام الروائية العربية المهمة على امتداد القرنين الـ20 والـ21، ولد عام 1954 من أصول أندلسية، في قرية سيدي بوجنان الحدودية في مدينة تلمسان الجزائرية، فعاصر في طفولته آخر فترات الاستعمار الفرنسي لبلاده، كما أنه شب يتيما، حيث فقد والده الذي استشهد عام 1959 بسبب مقاومته للاستعمار الفرنسي للجزائر.

حصل الروائي الأعرج على الليسانس من كلية الآداب واللغات من جامعة وهران الجزائرية، كما حصل على الماجستير والدكتوراه من جامعة دمشق، يشغل منصب أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، ويكتب باللغتين الفرنسية والعربية.

من أبرز رواياته "وقائع من أوجاع رجل غامر صوب البحر" (1980)، و"كتاب الأمير" (2005)، و"طوق الياسمين" (2006)، و"حارسة الظلال" (2006)، و"الليلة السابعة بعد الألف" (2002)، و"البيت الأندلسي" (2010)، و"شرفات بحر الشمال" (2015)، و"رواية أنثى السراب" (2009)، و"عازفة البيكاديلي" (2022). ترجمت أعماله إلى لغات عديدة، منها الإيطالية والسويدية والإنجليزية والدانماركية والعبرية والإسبانية.

حاز العديد من الجوائز العربية عن أعماله، منها جائزة الرواية الجزائرية عام 2001، وجائزة كتارا للرواية العربية، عن روايته "مملكة الفراسة" في عام 2005، وجائزة الشيخ زايد للآداب، عن روايته "كتاب الأمير" في عام 2007، وجائزة الكتاب الذهبي عن روايته "أشباح القدس" في عام 2008.

ويؤكد الأعرج أنه "ما زال يبحث عن مكان رفات والده"، وكشف أنه سيتوقف عن العمل الأكاديمي، وأن هذه آخر سنة له في جامعة السوربون، ويفسر ذلك قائلا "لأنني أصبحت متعبا، ولم أعد قادرا على الجمع بين العمل الأكاديمي والأدبي، وسأكتفي بالعمل الروائي، وكل رهاناتي هي رهانات روائية".

وفي حوار مطول مع الروائي الجزائري نتناول موضوعاته الروائية، وأصوله الأندلسية، ولماذا تمثل النساء أغلب شخصيات رواياته، وعن علاقته باللغة العربية، وخلافه مع حفيدة الأمير عبد القادر الجزائري، وتأثير كتاب "ألف ليلة وليلة" عليه، الذي ظل يحمله معه في أسفاره عبر العالم منذ أن كان في عمر 11 عاما.

المسار العائلي.. بين الأسطورة والتاريخ

  • وثق عالم الاجتماع ابن خلدون بضعا من سنوات تاريخ قبيلتك الأندلسية الموريسكية، ماذا بقي لك من هذه الجذور؟

في الحقيقية لا يتعلق الأمر بالقبيلة في هذا السؤال، ولكن يتعلق بمسار تاريخي عائلي مهم، المسار التاريخي العائلي يعود إلى عائلة من العائلات الموجودة في الأندلس بغرناطة، وهو ما أسميه أنا بالجد الأول، اضطر إلى الهجرة إلى الجزائر ضمن هجرة مأساوية ولدي بعض تفاصيلها، وتحكى في القرية والعائلة من خلال الحكي الأسطوري، وكأنك أمام أسطورة، كيف خرج الجد الأول من الأندلس، أولا، وكيف كانت عنده مكتبة وكيف أحرقت هذه المكتبة عن آخرها من طرف محاكم التفتيش المقدس التابعة للكنيسة الأندلسية.

وكيف جاءته الخادمة بقطعة خشب وطلبت منه أن يلقي بنفسه في البحر ويعتنق هذه القطعة الخشبية، ثم وجد نفسه بعد أيام وهو ملتصق بقطعة الخشب في الناحية الثانية من البحر جهة الجزائر في ميناء صغير يسمى سيدي وشاع، وهو ميناء روماني قديم، ومن هناك غامر في مواصلة طريقه عبر رحلة ليست فردية، كي يبدأ بزراعة الحياة في المناطق التي ارتادها.

لكن الحقيقية أعقد من الأسطورة، حيث كان جدي من بين الموجات الأولى التي هجرت من الأندلس في سنة 1608، عندما أعلن ملك إسبانيا فيليب الثالث (1578-1621)، قرارا خطيرا وهو طرد كل من له علاقة سلالية بالمسلمين أو اليهود.

ففي عام 1492 عندما سقطت غرناطة كان الاتفاق أنه من أراد أن يبقى في الأندلس فله ذلك شرط أن يغير دينه، ومن لا يريد أن يغير دينه فعليه أن يهاجر، فهاجر الكثيرون وبقي الكثيرون أيضا، والذين بقوا أصبحوا مسيحيين في ظل حروب دينية طاحنة وطرد للمسلمين من الأراضي التي كانوا يعيشون فيها.

والمشكلة بعد مرور زمن طويل، أي في عام 1692، صدر هذا القرار من الملك الإسباني، يعني حتى لو كنت مسيحيا هذا لم يكن كافيا لخروجك سالما من الطرد من إسبانيا، وجدي كان من الذين طردوا ولا أعتقد أنه جاء برضاه، مثله مثل الملايين الذين كانت وراءهم قوة طاغية دفعت بهم إلى الهجرة والخروج من الأراضي الأندلسية.

إذن فالأمر لا يتعلق بقبيلة، ولكنه يتعلق بمجموعات بشرية مسلمة أو مسيحية أو يهودية، اضطرت -بسبب الطرد- إلى النزوح من أراضيها وهذا ما حدث فعلا، وشجرة العائلة تعود إلى هذا الرجل المهاجر، الذي كد وبنى، والعلامات التي بقيت منه طبعا هذا التاريخ الذي ينتمي إلى الأسطورة، ولكن أيضا ينتمي إلى التاريخ لأني رأيت كل هذه التفاصيل في مكتبة الأوسكوريال في مجلد كبير يتحدث عن تاريخ الموريسكيين، حيث وجدت المعلومات متطابقة مع ما كانت ترويه الجدة، إلا في تفاصيل صغيرة تفرضها الأسطورة، لهذا أقول إن الأمر كان مهما حيث لا يمكن أن أتخطاه بسهولة.

بمجرد أن وصلت إلى مرحلة النضج (الوعي) بدأت أبحث في تفاصيل هذا التاريخ، عرفت مثلا أين كان يقيم الجد في حي البيازين، الحي الذي كان فيه المسلمون وبعض المسيحيين واليهود، وكان ذا طابع شعبي.

تاريخ البشر للأسف مصنوع بالدم والآلام والطرد والذبح، وجدي كان من هؤلاء

واليوم عندما تذهب إلى غرناطة وتنظر من نافذة أحد القصور العائدة لبني الأحمر ترى القرية وهي تتسلق الجبل، حيث أصبحت اليوم مدينة كبيرة. هناك كان يقيم جدي، ومن خلال بعض المرويات فإنه كان يقيم في أعالي الهضبة وليس في جانبها السفلي، ليس بعيدا عن قمة الجبل، من هنا بدأت أتلمس حركة الجد، مشيته أين ذهب وأين جاء ثم كيف اقتيد إلى ألميرية، ومن هناك رحل عند طريق السفن الإيطالية التي كانت تنقل المسلمين واليهود إلى الأراضي الأخرى، خصوصا إلى المغرب والجزائر وتونس وغيرها، والبلدان القريبة منها، نحن إذن أمام تاريخ يتجاوز الجانب العائلي وحتى السلالي، لكنه تاريخ، تاريخ البشر للأسف مصنوع بالدم والآلام والطرد والذبح، وجدي كان من هؤلاء.

كتب للمؤلف واسيني
روايات للمؤلف واسيني الأعرج (الجزيرة)

وفي قريتنا غربي الجزائر في دائرة العائلة الكبيرة توجد شجرة خروب ضخمة يتضح أن عمرها مئات السنين، الجدة كانت تقول إن الشجرة التي أتى بها الجد الأول من هناك وغرسها وظل يرعاها إلى أن توفي وطلب رعايتها ولا تزال إلى اليوم موجودة، ولو أن رعايتها قلت نوعا ما على ما كانت عليه، وهي علامة من العلامات الرمزية، لمرور هذا الجد عبر هذه الأرض.

إذن كل هذه العوالم مهمة من الناحية التاريخية، ولكن أنا الذي كان يهمني أن تكون مادة للكتابة والإبداع، وحقيقية هذا ما حدث في وقت لاحق، وخصوصا في رواية "البيت الأندلسي"، التي وصفت فيها رحلة هذا الجد من الموقع التاريخي، ولكن أيضا من الموقع التخييلي، حيث أرى أنه مهم كثيرا بالنسبة لي في الكتابة الإبداعية.

التأثير الأساسي كان من "ألف ليلة وليلة"، وكنت أذهب فجرا أتعلم الكتابة عند الفقيه، وفي الساعة السابعة والنصف أخرج من المدرسة القرآنية وأركض نحو المدرسة الفرنسية المختلطة في ذلك الوقت، وهذا بفضل الجدة التي أقنعت الفقيه بأن أدرس اللغة الفرنسية كما ألحت علي أن أتعلم اللغة العربية لأنها كانت ممنوعة في التدريس الرسمي في الجزائر

الجدة.. اخترقت حاجز الفرنسة

  • من الشخص الذي كان له تأثير مباشر على واسيني الأعرج في دخوله عالم الرواية؟

بالنسبة للمؤثرات الثقافية والأدبية الدافعة للكتابة أعتقد جازما أن التأثير الأساسي كان من كتاب "ألف ليلة وليلة" ولي قصة طويلة معه، ذكرتها في كثير من المناسبات، وهذا الكتاب كان بالنسبة لي اكتشافا كبيرا، لأنني كنت أتعلم اللغة العربية الفصحى كتابة ونطقا في مدرسة قرآنية صغيرة موجودة بعيدا عن القرية بنحو كيلومتر واحد، وكنت أذهب إليها كل فجر، أي قبل بداية فتح المدرسة الفرنسية التي كانت تفتح أبوابها في الساعة الثامنة.

فكنت أذهب فجرا أتعلم الكتابة عند الفقيه وفي الساعة السابعة والنصف أخرج من المدرسة القرآنية وأركض نحو المدرسة الفرنسية المختلطة في ذلك الوقت، وأكون مستعدا واقفا عند الثامنة إلا 5 دقائق للدخول إلى المدرسة، وهذا في الحقيقة كان بفضل الجدة التي أقنعت الفقيه بأن أدرس اللغة الفرنسية كما ألحت علي أن أتعلم اللغة العربية لأنها كانت ممنوعة في التدريس الرسمي في الجزائر، حيث لم تكن هناك مدارس بسبب قانون فرنسي منع تدريس العربية.

لكن الجدة بحيلتها اخترقت هذا الوضع، لأن في ذهنها أنه كان علي أن أتعلم اللغة العربية لأن هذا بالنسبة لها يعتبر وفاء للتاريخ الأندلسي لجدي، وربما لم تكن مخطئة، وأنا حماسي باللغة العربية لم يكن كبيرا، ولكن كنت متحمسا للجدة، حيث كنت أريد إرضاءها، ومع الزمن تحولت المسألة إلى قضية ثقافية فكرية وحضارية، فمن حق الإنسان أن يعرف لغته وألا يمنع منها أيضا.

  • هل يعد كتاب "ألف ليلة وليلة" الانزلاق الأول بالنسبة إلى واسيني الأعرج بداية في غرامه بالأدب؟

عندما كنت أتعلم في الكتّاب (المدرسة القرآنية)، وعندما بدأنا الكتابة وخطونا خطوات كان يسمح لنا بالوضوء ثم فتح القرآن الكريم ومحاولة فك كلماته وحروفه وجمله، وكنت متحمسا لهذا الموضوع، وقد كان هناك 10 نسخ للقرآن، ومن بينها نسخة مهترئة ومفصول غلافها عن جسد الكتاب، ولا أحد يذهب نحوها، وكنا نتسابق نحو النسخ المتبقية.

وذات يوم وصلت متأخرا ولم يبق أمامي إلا النسخة الممزقة لم يأخذها أحد، وأخذتها وانزويت في زاوية وبدأت أقرأ، فجأة اكتشفت أنني قادر على القراءة وأن الكتاب بسيط وعادي وليس صعبا كما كنت أشعر في الفترات السابقة، بعد ذلك أخذت الكتاب إلى البيت حتى لا أقول سرقته، وصرت أقرؤه يوميا والجدة راضية عني لأني كنت ملتصقا بالقرآن الكريم، وبدأت أتعلم اللغة العربية قراءة وكتابة، حيث كان فرحها استثنائيا لأنني بالنسبة لها وريث حقيقي لتاريخ الجد، لا أدري من أين جاءها ذلك.

كيف-تكتب-الروايه
كتاب "كيف تكتب الرواية" لواسيني الأعرج ورزان إبراهيم (الجزيرة)

لكن هذا الذي حدث وربما هذا الذي حملني لاحقا بهذه المسؤولية الكبيرة تجاه الجدة وتجاه تاريخ العائلة والتاريخ الأندلسي أيضا، لأن الأمر يتخطى حدود العائلة، فكنت أقرأ في البيت بفرح شديد، وكنت سعيدا بأنني أفهم كل كلمة أقرؤها.

ونحن كنا من سكان الحدود المغربية الجزائرية، وذات يوم جاء واحد من فرع العائلة من المغرب، وهو مغربي وقد دخل إلى البيت واستقبلته الجدة وأخبرته أني أقرأ ولا أترك القرآن من يدي، اقترب مني وقال أعطني الكتاب فأعطيته فتأمله، وبدأ ينظر إلي وقال: أنت لا تقرأ القرآن، يا غبي، أنت تقرأ كتاب "ألف ليلة وليلة"، تفاجأت بأن الكتاب شكله الخارجي قرآن كريم. وكان يبدأ بعبارة: بسم الله الرحمن الرحيم، وفيه استشهادات دينية. استغربت بأن يقول لي إن هذا الكتاب ليس قرآنا. واحتددت معه في النقاش، فقال هذا ليس قرآنا، هذا كتاب: "ألف ليلة وليلة"، وأضاف قائلا: "يفترض ألا يكون بين يديك، هذا كتاب خطير".

عندما قال لي هذا كتاب خطير، ازداد حماسي للكتاب، وقال لي يجب أن تعيده إلى مكانه. قلت له سأرجعه إلى سيدي (الفقيه). حقيقة لم أرجعه وبقي معي إلى اليوم ولا يزال هو أهم كتاب يرتحل معي عبر العواصم العالمية التي أسافر إليها، أو التي أقيم فيها مدة زمنية معينة، هذا هو سر الكتاب المهم بالنسبة لي في حياتي، أنا وقتها انزلقت مما هو مقدس الذي هو القرآن الكريم وتعلم الدين إلى ما هو بشري وإنساني، أرى البشر والحب والعلاقات بين البشر، وكذلك القتل، أرى الجرائم بين الناس، بسبب الحكم، بسبب الوشاية، بسبب الخديعة، لذلك وجدت نفسي داخل عالم بشري وليس عالم إلهي، مثل القرآن الكريم. وانتهى الأمر بعد هذا أن أصبح الكتاب مرجعا أساسيا لي.

"دون كيشوت".. أثر في بمحتواه بقصصه وبنيته وبعجائبيته

طبعا سيأتي فيما بعد كتاب آخر هو "دون كيشوت" للكاتب ميغيل دي سيربانتيس (1547-1616)، وهذا أثر في من الناحية العالمية تأثيرا كبيرا، لأنه في جانبه الحكائي فيه شيء من "ألف ليلة وليلة"، وأعتقد جازما أن يكون سيربانتيس قد اطلع على شيء عربي شبيه من ذلك مثل "ألف ليلة وليلة"، أو نصوص قريبة منه، خصوصا في طريقة اعتماد السخرية.

وهو يذكر أن هذا النص عبارة عن مخطوطة عثر عليها في إحدى الأسواق واشتراها من بائعها، وأن صاحب المخطوطة سيد حامد بن النخلي، وأن كل ما يدور كتبته تلك الشخصية التي ربما كانت قناعا حتى يحمي نفسه من محاكم التفتيش المقدس، التي تمنع أي علاقة واتصال مع المسلمين، هذا الكتاب أثر في بمحتواه وبنيته وبعجائبيته، ودخل كجزء مؤسس بالنسبة لتجربتي، أي أنه لم يعد خارجيا لكنه أصبح في العمق.

أعتقد أن السند الحقيقي للحفاظ على الذاكرة والميراث أيضا هو هذه الأساطير التي يجب أن تأخذ مكانها الطبيعي في قصصنا وفي تاريخنا وثقافتنا، فهذان الكتابان (ألف ليلة وليلة ودون كيشوت) أعتقد أنهما الكتابان المؤسسان لذاكرتي الإبداعية والأدبية

أعتقد صراحة أن هذين الكتابين هما المرجع الأساسي، يضاف إلى ذلك المرجع الأول والكبير وهو حكاية الجدة التي لم تكن حكاية ثانوية، وكل التاريخ الأندلسي -والجدة كانت مرتبطة به كثيرا- مر عن طريق القصص والأساطير التي كانت ترويها لي، وما زلت حتى اليوم أحفظها وأكررها وأرويها لحفيدتي الصغيرتين بكل التفاصيل.

كتب للمؤلف واسيني
روايات للمؤلف واسيني الأعرج (الجزيرة)

وأعتقد أن السند الحقيقي للحفاظ على الذاكرة والميراث أيضا هو هذه الأساطير التي يجب أن تأخذ مكانها الطبيعي في قصصنا وفي تاريخنا وثقافتنا. إذن فهذان الكتابان أعتقد أنهما الكتابان المؤسسان لذاكرتي الإبداعية والأدبية.

تاريخ مشترك بين الفرنسيين والجزائريين

  • تعيش في شخصيتين تجاه فرنسا المستعمرة لبلدك الجزائر لمدة 132عاما، واستشهاد والدك الثائر ضد الاستعمار الفرنسي عام 1959، والأخرى كمتفاعل مع الثقافة الفرنسية باعتبارك أستاذا في جامعة السوربون، كيف تعيش هذه الازدواجية؟

يجب ألا نطرح المسألة ضمن هذا الأفق، لأن هناك زمن الحروب، وهناك زمنا آخر للسلم، وهناك التاريخ المشترك أيضا بين الجزائريين والفرنسيين، إلى اليوم يوجد من المهاجرين الجزائريين في فرنسا قرابة 5 ملايين، هذا الرقم يمثل بلدا بكامله، وهناك ظروف خاصة بالنسبة لهم، رغم أن هناك صراعا كبيرا لا تزال آثاره موجودة حتى اليوم.

أيضا لدينا عدد من المثقفين العرب الذين يشتغلون في بريطانيا وفي أميركا، ونحن نعرف أن إعطاء فلسطين لليهود كان على أيدي البريطانيين، فهل هذا يعني أن على الفلسطيني أن يبقى محجورا في منفاه ولا يذهب إلى بريطانيا وأميركا؟ لا أعتقد أن المسائل تطرح بهذه الثنائية.

لكن مع ذلك سأجيبك حول هذا الموضوع، نعم التاريخ موجود، هناك مقتل الوالد حيث قتله المستعمرون الفرنسيون وتوفي تحت التعذيب. ولكن هل كل الفرنسيين مستعمرون؟ هذا سؤال يجب أن يطرح، وأنا عندما جئت إلى فرنسا بدعوة من صديقي الراحل دانيال ريغ (1929-2007)، صاحب قاموس السبيل العربي-الفرنسي، الصادر عن دار لاروس أقدم مؤسسة لإصدار القواميس، عندما دعاني لإلقاء محاضرات لمدة 3 أشهر في المدرسة العليا وفي المعهد العالي للأساتذة، لم أتردد.

جئت وقد دعاني في عز القسوة التي كانت تمر بها الجزائر في حربها ضد المتطرفين في تسعينيات القرن الماضي، لكن هؤلاء الناس كانوا متعاطفين مع القضية الجزائرية، فهل تعرف أن كثيرا من الشوارع الجزائرية والساحات تحمل أسماء فرنسية؟ مثلا ساحة موريس أودان وهي من أهم الساحات، والسؤال من يكون موريس أودان؟ هو مثقف يساري انخرط في صفوف الثورة الجزائرية، مناضل فرنسي اختار مقاومة الاستعمار وقد اختطف من الجامعة (1957) واغتيل بسبب مواقفه.

إذن فرنسا ليست مؤثثة فقط بالاستعماريين والقتلة، وأنا أعتقد أن جيل اليوم فيه الكثير من الناس لا يعرفون من هذه القضية إلا ما يرويه التاريخ، أما العلاقات الداخلية فهي علاقات ثقافية وحضارية.

وأعطيك مثالا، بالنسبة لي أمضيت حتى اليوم حوالي 30 سنة في فرنسا، ومع ذلك لم أتلق في يوم من الأيام أي ردة فعل سلبية. طبعا هناك غيورون وحسودون من الفرنسيين عندما يرون كاتبا وأستاذا جامعيا ناجحا فيبدؤون بالمضايقات، وهذا يختلف عن موقف الإدارة الصارم هنا في باريس بالنسبة لجامعة السوربون، وكذلك موقف الأساتذة والمثقفين كيف استقبلوني في باريس في عز الأزمة في الجزائر في تسعينيات القرن الماضي.

ما زلت أبحث عن رفات والدي.. معرفة الحقيقة تؤدي إلى نوع من السكينة الداخلية وهو ما نقوم به، ولكن هذا لا يمنع من أن تعيش حياة جميلة في فرنسا، حياة ثقافية علمية، حياة تكافؤ أيضا في الفرص والتصورات

بالنسبة للوالد نعم قتله المظليون (تشكيلة عسكرية فرنسية)، وهم مجموعة من القتلة والمجرمين، والتاريخ سيحاسبهم، وكما نحن لا نصمت أيضا على ما قاموا به، لكن المظليين هم أنفسهم قتلوا الكثير من الفرنسيين الذين كان لديهم موقف من الثورة الجزائرية، إذن نستطيع أن نقول هناك تعاطف ثقافي فكري وحضاري بين كل القوى التي ترفض الاستعمار، وهناك صراع حتى اليوم مع القوى الإجرامية التي لا تزال موجودة حتى اليوم، عبر مختلف القنوات والمؤسسات التي يوجد بها جزائريون مثلا أو عرب ولهم موقف سلبي من هؤلاء.

فأنا أدرس في الجامعة ودخلت عن طريق مسابقة صعبة وليس عن طريق العاطفة، فدخلت أولا إلى جامعة باريس الثامنة ثم باريس الثالثة التي هي السوربون الجديدة، هذه الأمور يجب أن ينظر إليها من باب أكاديمي وليس من باب آخر.

فأنا لا أشعر أن هناك ازدواجية، هناك موقف واضح تجاه الاستعمار هذا لم يتغير، لكن الجيل الجديد لا علاقة له بهذا، مثلا ما علاقة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بما كان يرتكب من جرائم في الجزائر، قد يكون لدينا موقف في تسييره للدولة الفرنسية، هناك أجيال من الفرنسيين لا علاقة لهم بما ارتكبته فرنسا في الجزائر فخلال 60 سنة تتغير الأجيال ويجب ألا نبقى ثابتين.

هذا لا يمنع من أن نستنطق التاريخ ونفتح الكتب السرية ونتعرف على ما يخصنا في فترة الاستعمار الفرنسي، فأنا إلى اليوم ما زلت أبحث عن رفات والدي، كانت والدتي تبحث عن رفاته بعد اغتياله، حيث تتبعت كل الآثار الدالة على رفاته، وظلت والدتي تبحث عن تلك الآثار ولم تصل إليها، وأنا سأواصل هذا البحث.

وكما ذكرت لك، أرسلت رسالة إلى رئيس الجمهورية الفرنسية حول ملابسات المسألة، لأني أعرف أن الأمن الفرنسي، العسكر، الشرطة، والجيوش تسجل كل تلك التفاصيل، فلا بد أن نجد شيئا من هذا القبيل رغم مرور 60 سنة على اغتيال الوالد.

وفتح هذا الملف من أجل معرفة الحقيقة، لأن معرفة الحقيقة تؤدي إلى نوع من السكينة الداخلية وهو ما نقوم به، ولكن هذا لا يمنع من أن تعيش حياة جميلة في فرنسا، حياة ثقافية علمية، حياة تكافؤ أيضا في الفرص والتصورات.

طبعا هناك فوارق ربما لا تمس الجامعة اليوم إنما تمس المجتمع العام البسيط والعمالي، إذن أنا لا أرى في ذلك ثنائية وازدواجية، أرى أنها مسألة تتعلق بالتاريخ وبحياة البشر وبضرورة التواصل، ولكن في الوقت نفسه بضرورة فهم الحقائق الملتبسة والغامضة.

أنا ابن الريف والحروب

  • هل أثرت الحياة الاجتماعية القاسية التي عاشها واسيني الأعرج في صنع تجربة روائية خاصة ومتفردة؟

حتما للحياة الاجتماعية دور في المكونات الأدبية والثقافية في وقت لاحق، أنا ابن الريف، ابن قرية صغيرة -سيدي بوجنان- عانت من ويلات الاستعمار لأنها تقع على الحدود المغربية الجزائرية، وبالتالي كانت محروسة كثيرا وفيها خطوط كهربائية وأسلاك شائكة وألغام أيضا بحيث تمنع مرور الثوار من التنقل بين الجزائر والمغرب، لأن المغرب كان منطقة استقبال للثوار وبالتالي كان يجب إغلاق هذا الطريق.

وتمكن الاستعمار من إغلاق هذا الطريق رغم أنه لم يفلح في إغلاقه كليا، إذن أنا ابن هذه الحروب التي عشتها وأنا من مواليد عام 1954، وعندما خرج الاستعمار الفرنسي من الجزائر كان عمري نحو 8 سنوات، ولهذا كنت أعي نوعا ما تلك المرحلة، هذا كله خلف في أعماقي آثارا وجراحات من الصعب أن تزول، حتى إن بعضها لا يزال إلى اليوم.

طوق الياسمين
رواية "طوق الياسمين" لواسيني الأعرج (الجزيرة)

مثلا والدي استشهد في عام 1959، ولكن إلى اليوم لا نعرف له قبرا، مات تحت التعذيب، وحتى يتم إخفاء الجريمة أتلفوا جسده، ويقال إنه رمي في بئر مع الكثير من الثوار حتى لا تسجل عليهم هذه الجريمة، خصوصا من قبل الهيئات الدولية التي كانت تأتي من حين إلى آخر لمراقبة الأوضاع، وخصوصا بالنسبة إلى التعذيب.

هذا كله ترك في جرحا، يعني أنت تقف أمام قبر أختك وقبر أخيك وأمك، لكنك لا تستطيع أن تقف أمام قبر والدك لقراءة الفاتحة فقط والترحم عليه، لأنه ليس له قبر. هل لك أن تتخيل أن له قبرا؟

هذا عنصر مهم جدا في الكتابة الأدبية لأنه جزء من عمقها، وهو مسألة الفقدان والخسارات المتتالية، نحن عندما نكتب نرمم داخليا هذه الشقوق وهذه الفراغات ونحاول أن نجعل الحياة مستساغة، ليس فقط بالنسبة لنا ولكن أيضا بالنسبة للذين يحبون الحياة، لأن الذين يحبون الحياة كثر لسنا نحن فقط.

"كتاباتي الأدبية طبعت بالعادات القروية"

نظام الحياة القروي وانضباطاته، وأيضا العلاقات فيه بين المرأة والرجل كان أفضل من المدن، مثلا النساء يحضرن الأعراس مع الرجال ويرقصن في أغان تسمى أغاني الصف، حيث تقف النساء في صفين متوازيين و"يزرعن" أي يقلن الأغاني الشعبية، والرجال في الوسط بين هذين الخطين النسويين يرقصون ويستخدمون البارود، وهناك حالة من الفرح.

هذا كله أعطاني هذا النوع من الحب للقرية، ثم بعد ذلك حالة الفقر التي عشناها بعد استشهاد الوالد، لم يعد هناك من معيل للعائلة لأنه كان في فرنسا وقضى جزءا من حياته مغتربا قبل أن يعود إلى الجزائر ويلتحق بالثورة الوطنية، فعندما استشهد أصبح الفقر كبيرا، وكان على الوالدة أن تخرج للحقول وتشتغل مثل بقية النساء والرجال، لم يعد ذلك مهما، كانت تعمل في مواسم الحصاد وجني المحاصيل لكي تؤمن قوت عائلتها.

كتاب الغحر يحبون ايضا
رواية "الغجر يحبون أيضا" (الجزيرة)

لذلك لا يمكن أن تغيب عنك تلك التفاصيل التي عشتها فهي محروقة ومثبتة على جلدك، فهي ليست محض أهواء أو أفكار، لا.. هي مسائل مهمة جدا، وهي جزء من كيانك الحياتي والإنساني، بالتالي، فالكتابة الأدبية حتما ستنطبع بهذا الطابع، وهذا الطابع أنا عشته وربما غيري عاشه عبر حالات أخرى، ولكن كان لي اهتمام واسع في هذا الجانب، وذلك يعطي نوعا من التمايز، ولكن التمايز الأساسي ليس في هذا وحده، فربما يكون في الموضوعات وفي الجهد الذي تبذله أنت بوصفك كاتبا لكي تجعل من هذه المادة الحياتية مادة أدبية.

وهنا النقاش الكبير أنك تنتقل بهذه المادة التي ربما تكون فوضوية؟ كيف تجعلها وتنظمها وتدخلها في نسق أدبي يشعر القارئ أولا بجدوى ما يقرأ، ويشعره أيضا بأن العالم الذي تتكلم عنه يعنيه كثيرا، حتى بالنسبة للمثقف يقرأ العالم ويشعر بأن هذا العالم جزء منه ولهذا يقرؤه، وإلا فإنه إذا شعر بنوع من الانفصال واللامنطق واللاعقل تجاه ما تكتبه فهو سيبتعد عنك.

"شخصيات رواياتي مؤنسنة خارج إطار التقديس"

عندما توقع كتابا ويكون فيه نوع من الصدق والجاذبية والناس يحبون ما تكتبه، وينتظرونك وينتظرون نصوصك الجديدة، أكيد أن هؤلاء القراء يأتون إليك، وأقول هذا عن تجربة خاصة، وأنا بصراحة ولا مرة كشفت نقصا في القراءة لنصوصي، بالعكس المقروئية موجودة، طبعا بحسب نجاحات النصوص، أحيانا تظن أن نصا من النصوص سوف يكون له تأثير كبير في المقروئية ويظهر خلاف ذلك، وربما بعض النصوص تقول إنني كتبتها بسرعة ربما قد لا يكون لها تلك الحظوة من القراء وتكتشف فيما بعد أنها من أكثر نصوصك مقروئية.

مثلا "كتاب الأمير" كتبته تخليدا ومحبة للأمير عبد القادر الجزائري، لأن هذه الشخصية العظيمة المؤسسة للجزائر الحديثة، لم تكن محط أي اهتمام بالجزائر، إذ كانت الاهتمامات شكلية أو سياسية أو موسمية، لكنها لم تضع الشخصية في سياقها الحضاري والفكري بوصفها شخصية عالمية وليست شخصية جزائرية، فقلت يجب أن أعطي هذا الأمير حقه روائيا، وعندما نقول روائيا فهو إنزال الشخصية من التاريخ المقدس نحو الحياة العامة، فالشخص الذي يقرأ هذا البطل يشعر أنه يشبهه أو يشبه والده أو هناك تقاطع معه، هكذا نحب الأبطال وليس من خلال تضخيمهم أو نفخهم.

وربما كان خلافي أيضا مع حفيدة الأمير عبد القادر على هذا السبب، إذ بدا الأمير في النص إنسانا عاديا، لكن لم أكن أتصور أن تكون المقروئية بهذا الشكل الكبير، وأن يكون الاهتمام به خصوصا في فرنسا والجزائر وأميركا.

كان كبيرا جدا أكثر مما تصورت، ربما يعود ذلك إلى كون شخصية الأمير كبيرة وقوية وثقيلة، وربما لأن الكتابة عن هذه الشخصية دوما كانت مؤنسنة خارج إطار التقديس، ربما أيضا لأن القراء ينتظرون كثيرا لكي يتعرفوا إلى هذه الشخصية التي عرفوها سماعيا.

إذن فالمقروئية المحتملة موجودة، وعلينا نحن الكتاب أن نعرف كيف نعطيها المادة التي تروق لها وتدفع إلى التساؤل، وليس أن تكتب بحسب هوى القارئ، لا.. ولكن في الوقت نفسه يجب أن تكتب شيئا يهم القارئ، فإذا كتبت لغة وموضوعا ما يهمك أنت شخصيا من أفكار فلسفية وفكرية فالأفضل أن تكتب في الفلسفة والفكر ولا تكتب في الرواية.

المصدر : الجزيرة