أرض الدماء وإرث ما بعد السوفيات.. الثورة الروسية وإمبريالية القرن الـ 20

الزعيمان السوفياتيان جوزيف ستالين (يمين) وفلاديمير لينين (غيتي)

قبل أكثر من قرن بقليل، غيرت الثورة الروسية عام 1917 النظم الاقتصادية والسياسية لا في موطنها الأصلي وحسب وإنما في شتى أنحاء العالم، وعلى عكس الإمبريالية الغربية التي استعمرت مناطق ما وراء البحار، توسعت الإمبراطورية الروسية بضم الأراضي المتاخمة لها من المحيط المتجمد الشمالي شمالا إلى البحر الأسود جنوبا، ومن بحر البلطيق في الغرب إلى المحيط الهادي شرقا.

وبصفته معاديا لما كان يصفه بالإمبريالية، فقد كان الزعيم السوفياتي فلاديمير لينين يعارض ضم روسيا العظمى لأراضي الشعوب غير الروسية، كما كان يعارض ما تقوم به "الإمبريالية الغربية" من ضم أراضي الغير، وقد أوضح ذلك في كتابه "مقدمة عن الإمبريالية.. أعلى مراحل الرأسمالية" الذي نشر عام 1917، إذ اعتبر أن الرأسمالية تؤول إلى الاحتكار وتتسع الهوة بين الطبقات وتظهر الحاجة لأسواق جديدة لتصريف المنتجات بأسعار منخفضة وأيد عاملة رخيصة ما يصنع الحاجة للاستعمار والمستعمرات.

وربط لينين بين الاستعمار وبين الخوف من الحرب العالمية، إذ اعتبر أن وجود أكثر من دولة رأسمالية في النظام الدولي يترتب عليه التنافس على المستعمرات، وهو ما ينتج عنه صراع للسيطرة بين هذه القوى كما حدث بالحرب العالمية الأولى.

ومع ذلك، عارض العديد من زملاء لينين سياساته التي تفضل حق المستعمرات الروسية في التحرر الوطني.

فبعد الاعتراف باستقلال فنلندا عام 1917، لم تحصل أي دولة أخرى على نفس المعاملة، لكن الدول الأكبر مثل أوكرانيا وبيلاروسيا وجورجيا وأرمينيا وأذربيجان أصبحت جمهوريات سوفياتية مستقلة، بينما أصبحت الأصغر منها داخل حدود جمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية (بما في ذلك دول آسيا الوسطى) جمهوريات ومناطق تتمتع بالحكم الذاتي ومسؤولة عن الشؤون المحلية للحكم، مثل التعليم والثقافة والزراعة، بحسب تقرير لصحيفة "ذا واير" الهندية.

وقد اتخذت بعض السياسات التي تهدف إلى تعزيز التقدم الوطني والاقتصادي والثقافي لغير الروس، بحيث منحت الأولوية للغة المحلية، وشهدت المدارس التي تدرّس اللغة الأم زيادة هائلة، وكانت تلك السياسات تسعى لتطوير الثقافات الوطنية، وتوظيف أكبر قدر ممكن من المواطنين المحليين في الإدارة السوفياتية، لكن تلك الحقبة لم تدم طويلا.

"الإمبريالية الستالينية"

أصيب لينين بجلطة في الدماغ تسببت في شلل يده اليمنى وساقه وأثرت على قدرته على الكلام في مايو/أيار 1922، وهو العام الذي تم فيه تعيين خلفه جوزيف ستالين أمينا عاما للحزب الشيوعي. وقد عانى لينين بعد ذلك من جلطتين ومتاعب صحية، ومع تهميش لينين بسبب المرض ازدادت قوة ستالين.

ووصل الخلاف حول التحرر الوطني إلى ذروته خلال هذه الفترة. وقد عارض لينين محاولة ستالين دمج الجمهوريات الخمس المستقلة بالاتحاد الروسي، لكن ستالين مضى قدما في خططه، وكان لينين عاجزا عن منعه حتى توفي عام 1924.

وكان أقصى ما يمكن أن يفعله لينين هو إملاء ما أصبح يعرف بـ "وصيته" بما في ذلك تأملاته الرائدة في المسألة القومية والاستعمارية التي أملاها نهاية ديسمبر/كانون الأول 1922، وهي تأملات تستحق القراءة وسنشير إلى بعضها هنا.

وبدءا من حادثة أزعجت لينين بشدة (اعتداء جسدي من قبل مبعوث ستالين على رفيق من جورجيا لم يوافق على الخطط التي فرضت عليهم) لاحظ لينين أنه في مثل هذه الظروف فإن "حرية الانفصال عن الاتحاد التي نسوغ لأنفسنا من خلالها ستكون مجرد قصاصة ورق، ولن يكون بمقدورها الدفاع عن غير الروس في وجه هجوم ذلك الرجل الروسي حقا، الشوفيني الروسي العظيم، الذي هو في جوهره وغد وطاغية".

التمييز بين الأمم

ويصر لينين على ضرورة التمييز بين قومية الدول المُضطهدة وبين قومية الدول التي تمارس الاضطهاد، وأضاف "نحن مواطنو الدولة الكبرى، كنا ضالعين عبر التاريخ، في عدد لا حصر له من حالات العنف، علاوة على ذلك، فإننا نرتكب أعمال عنف وإهانة لا حصر لها بدون أن نلاحظ ذلك".

وفي يناير/كانون الثاني 1924، توفي لينين دون أن تتاح له الفرصة للدفاع عن هذه المبادئ داخل الحزب. وتم التكتم على أفكاره من قبل ستالين الذي كانت سياساته نقيضا لما كان لينين يدعو إليه.

وحوكم القيادي في الحزب الشيوعي السوفياتي مير سلطان غالييف محاكمة صورية، وكان أول بلشفي يواجه هذا المصير، واعتقل فيما بعد وقتل رميا بالرصاص. وفي ثلاثينيات القرن الماضي، وصف رافائيل ليمكين -الذي ابتكر مصطلح "الإبادة الجماعية"- سياسات ستالين التي تضمنت القتل الجماعي للمثقفين والكهنة الأوكرانيين والاستيلاء القسري على الحبوب من الفلاحين الأوكرانيين بالرغم من موت الملايين منهم جوعا. ووصف ذلك ضمن ما سماه "الإبادة الجماعية السوفياتية" وقال "ما رأيناه هنا لا يقتصر على أوكرانيا. الخطة التي استخدمها السوفيات هناك كانت ولا تزال تتكرر".

كما يشير تيموثي سنايدر في كتابه "أرض الدماء: أوروبا بين هيتلر وستالين" إلى أنه "تم استهداف الدول الإسلامية في القوقاز وشبه جزيرة القرم بشكل خاص، بين عامي 1943 و1944، حيث تم اعتقال وطرد جميع سكان قراتشاي – تشيركيسيا، وكالميك والشيشان والإنغوش والبلغار (البلقار) وتتار القرم والأتراك، وتم إطلاق النار على من لم يتمكنوا منهم من التحرك، وحُرقت قراهم بالكامل".

إرث ستالين

تعرض لينين للانتقاد لدوره في تشكيل دولة استبدادية في الحقبة التي أعقبت الثورة، لكنه لم يُمنح ما يكفي من التقدير لدوره في محاربة الإمبريالية الروسية.

وقد حاول الرئيس الأخير للاتحاد السوفياتي ميخائيل غورباتشوف العودة إلى معاداة لينين للإمبريالية، من خلال رفضه غزو ألمانيا الشرقية عام 1989 عندما سقط جدار برلين، وحاول السير على نهج تكون فيه العلاقة متساوية وطوعية بين روسيا والجمهوريات السوفياتية الأخرى عام 1991. لكن المتشددين من أتباع ستالين انقلبوا عليه ووضعوه قيد الإقامة الجبرية.

ومن المفارقات أن ذلك تسبب في تسريع تفكك الاتحاد السوفياتي، فقد أدى لتهميش غورباتشوف -الذي أراد إضفاء الطابع الديمقراطي على الحكم- وتمكين بوريس يلتسين، الذي ترأس معارضة الانقلاب ولكن لم يكن مهتمًا بالحفاظ على الاتحاد السوفياتي لأن غورباتشوف لم يكن فقط يحاول إضفاء الطابع الديمقراطي على روسيا فقط ولكن الاتحاد السوفياتي ككل.

وانتهج فلاديمير بوتين -الذي خلف يلتسين- السياسات الإمبريالية، فشن حربا وحشية لسحق نضال الشيشان من أجل الاستقلال وضم شبه جزيرة القرم، ومن المؤسف، بحسب مؤرخين، أن تراث لينين ضد الإمبريالية الروسية قد طغى عليه إرث خليفته ستالين الذي عرف بسياسات الإبادة الجماعية.

المصدر : مواقع إلكترونية