اقتناص المعنى ورواية التاريخ.. كيف يخدم الأدب يوميات النضال الفلسطيني؟

كومبو من اليمين الشاعرة الفلسطينية تغريد عبد العال الكاتبة التونسية هند الزيادي
الشاعرة الفلسطينية تغريد عبد العال (يمين)، والكاتبة التونسية هند الزيادي (الجزيرة)

تعتبر الكتابة الأدبية أحد أشكال المقاومة في العصر الحديث، ذلك أن وظيفتها تتجاوز الأبعاد الفنية والجمالية التي تُراهن عليها وعادة ما تنطبع بها إنتاجاتها، باعتبارها وسيلة تعبيرية للذات في علاقتها بالعالم. لذلك تنزّل الأدب العربي الحديث منه والمعاصر منزلة رفيعة ومرموقة في وجدان الناس وحياتهم اليومية.

هذه المكانة الرمزية قادته إلى تطوير إمكاناته على مستوى التعبير وفتح منافذ جديدة بالنسبة للبشرية في علاقتها بالاحتلال وقهره.

وعلى مدار تاريخه لعب الأدب دورا فعالا في المقاومة على المستعمر وتعرية أوهامه. ولأنّ الأدب كان دائما مؤثرا في المجتمع بحكم أنه يحثّه على الثورة ويقوده إلى استرجاع كرامته المسلوبة وحقه في التعبير بطلاقة وحرية عن مواقفه تجاه الاستعمار وقهره، فإن السلطات السياسية، ظلت تلعب دائما دور الرقيب على هذا النمط من الكتابة المُحرر للذات والمجتمع والذاكرة.

ويُعد الأدب الفلسطيني الحديث أكبر نموذج لعلاقة الأدب بالمقاومة، طالما أسهم العديد من الأدباء الفلسطينيين مثل غسان كنفاني ومحمود درويش وزكريا أحمد وسميح القاسم وغيرهم في المقاومة بالكتابة ومُتخيّلها، بل كانت هذه الكتابات نبراسا للعديد من الأدباء العرب الذين كتبوا مؤلفات نقدية وأدبية وفكرية مثل إلياس خوري وأمجد ناصر وعبد اللطيف اللعبي، تسهم بطريقة غير مباشرة في إبراز الجرح الفلسطيني ومقاومته للاحتلال الإسرائيلي الغاشم.

ويقول الكاتب والشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي في كتابه "الرهان الثقافي" إن فلسطين "تراث حي، يترعرع ويشع يوميا أمام أعيننا وضمائرنا. والرجوع إليه أو بالأحرى التحاور معه ليس هروبا إلى الوراء أو خارجا عن الواقع العنيد قد يمليه العجز عن إنجاز مهام تعثرت هنا وهناك، إنه انخراط في مدرسة مفتوحة للإبداع الشامل، للجرأة على التفكير والكلام والفعل، مدرسة تتوحد فيها النظرية والممارسة وتحكي بلغة الأمل".

الأدب وتعرية واقع الاحتلال

عن جوهر هذه العلاقة بين الأدب والمقاومة في غزة، تقول الروائية التونسية هند الزيادي في حديث للجزيرة نت إنّ "طوفان الأقصى له أبعاد على المستوى الثقافي والفكري ليس لأنه أثبت قدرة المقاومين على دحر العدو وإهانته عسكريا، بل لأنه أيضا كشف كثيرا من الأقنعة وكشف كذب الكثير من سرديات الحرية والقيم الإنسانية التي ينادي بها الآخر، وكان بذلك مثلا أعلى يطمح الجميع ليدرك مراتبه".

من هنا يأتي دور الأدب -في نظر صاحبة كتاب "الكابوس"- في "تفكيك ذلك الفكر الذي ينطلق من موقع نقص ومحاولة العثور على جذوره وعرض مظاهر خطورته وطرح البدائل الممكنة.

وتقول الزيادي إن "الفكر والثقافة العربيين لم يتعافيا بعدُ من أدبيات ما سُمّي بالنكسة، وساهما بذلك في إنتاج حالة ثقافية كاملة قائمة على الهزيمة والسقوط المدوي والعجز التام، وساهمت كثير من الأنظمة في ترويج تلك الروح خدمة لأجندتها الخاصة ولأجندة حلفائها".

وبالتالي، علينا في نظرها "ألا نغفل الحالة المضادة التي كانت قائمة على البروباغندا (الدعاية) الحزبية التي تصور انتصارات وهمية أحيانا أو تبالغ في تصوير حجم المكاسب لنفس الأسباب، مما خلق ردة فعل عكسية عند الناس. بين النقيضين ظل الفكر العربي يتأرجح دون القدرة على الوصول إلى حالة وسط متزنة تجعلنا واعين بحقيقة موقعنا عاملين من أجل تغييره وفي نفس الوقت (تجعلنا) معتزين بمواطن اختلافنا وبإنسانيتنا وأهمية وجودنا للإنسانية جمعاء. لهذا ليس أفضل ولا أكثر صحية وتوازنا من الأدب لعلاج هذه الحالة".

وتضيف الزيادي "لقد كنت دوما مؤمنة بأن الرواية هي كتاب التاريخ الحديث لذلك ليس أفضل منها لتتحدث عن القضية الفلسطينية بروح واقعية جديدة تتجنب فيها كل أخطاء الماضي وذلك بتنزيل البشر هناك منزلتهم الإنسانية وبقص حكاياتهم وتفاصيلهم بكل أبعادها الإنسانية، دون مبالغة في خلع هالة البطولة والقداسة عليهم، وكذلك دون الحط من قيمة تضحياتهم ومن صمودهم الكبير، وكلما ظل الأدب وفيا فينا لروحه الإنسانية ولانحيازه للإنسان وقضاياه، استطاع خدمة الحقيقة وخدمة القضية الفلسطينية".

وهذا يعني في نظرها "تخليصه من الأيديولوجيا التي حادت به عن أهدافه الإنسانية ووضعته في خدمة قلة قليلة من الناس وحرفت الحقيقة".

تنطلق الزيادي من مفهوم خاصّ بها، ترى في "الكتابة في حد ذاتها شكلا من أشكال المقاومة"، لذلك تقول: "يجب أن تزدهر وتكثر الروايات ويعلو صوت الكتّاب والأدباء والمبدعين دون الوقوع في الاستسهال والدعاية الرخيصة للمقاومة الميدانية التي تحتاج أدبا على نفس قدر سموّها، أدبا فنيّا راقيا وليس مجرد محاكاة ممجوجة للواقع بكل تجلّياته".

وتضيف أننا "نحتاج أدبا يسائل الهوية الجديدة ويؤسس لها، ويرسمها ويطرح كل الأسئلة ويعمّق بيننا الحوار الحضاري البَناء، ولا نحتاج أدبا دعائيا رخيصا يسيء إلى القضية أكثر مما يخدمها، وينتهي أثره بمجرد انتهاء المعركة الميدانية".

الأدب والمقاومة

من جانبها، فإن الكاتبة والشاعرة الفلسطينية تغريد عبد العال، فتقول إنّ "الأدب ليس فقط نزهة فنية، بل هو اقتناص للمعنى والعمق، وعلاقته بالمقاومة فلسطينيا هو علاقته بمعنى الحق ضد الظلم والاحتلال".

وتفسر في حديث للجزيرة نت "لقد بينت لنا سرديات العالم أن انتصار السردية هو انتصار الحق، لذلك فإن الأدب وثيقة إنسانية للذهاب عميقا في معنى أن تكون في هذا العالم وتعي ذاتك وحقك، فقد استطاع السرد الفلسطيني أن يذهب عميقا ليفكك سردية حرية الإنسان الفلسطيني تاريخيا وإنسانيا ووجوديا، وظهر هناك أدب السجون وأدب المنفى والشتات، ومهما كانت التسميات، فهذه الآداب تحاول أن تسرد الحكاية الفلسطينية وتحررها من براثن الاستعمار".

وفي نظرها أن "العلاقة بين الأدب الفلسطيني والمقاومة، هي العلاقة بين فكرة المكان والحرية، هي العلاقة بين معنى الوجود والهوية. ولا يمكن فصل الأدب الفلسطيني عن المقاومة مهما اختلفت الأساليب وتجددت؛ فالأدب الإنساني بعامة غير منفصل أيضا عن جوهر الإنسانية المرتبط بمعنى وجودك في العالم، وهو في حد ذاته فكرة سياسية.. هل رواية العمى مثلا لساراماغو لا تطرح إشكالية الوجود الإنساني؟ وهي بالطبع تناقش معاني الفساد السياسي، وهناك أمثلة أخرى طبعا".

ومن ثَمّ تعتبر الشاعرة أن "الأدب إن لم يكن تراثا إنسانيا يطرح الأسئلة المتعلقة بالوجود العادل في هذا العالم فلن يترك أثرا صادقا. وهكذا أيضا الأدب الفلسطيني الذي لا يبرح ينظر إلى الوجود الفلسطيني بعامة الذي هو قضية إنسانية وسياسية، وفلسفة وجوده هي مقاومة بالدرجة الأولى. والشعر أيضا الذي بدأ يتنوع ويتشكل هو أيضا لا ينفصل عن جوهره، وهو الثبات والحق والوجود".

المصدر : الجزيرة