القاصة والروائية التونسية هند الزيادي: الرواية تاريخ المهمشين والأفكار الثائرة

تقول هند الزيادي "الأدب ليس إعادة كتابة الواقع بحذافيره وإلا فقدت الآثار الروائية والقصصية والشعرية أدبيتها وشعريتها وصارت مجرد تقرير صحفي إخباري. الأدب بمختلف أنواعه هو تشكيل فني لذلك الواقع".

الروائية التونسية هند الزيادي
هند الزيادي بدأت قاصة ثم زاولت الكتابة الروائية فراكمت 4 روايات مختلفة الشكل ومتباينة المضمون (الجزيرة)

تمزج الكاتبة التونسية هند الزيادي بين التجريب القصصي والتخييل الروائي، إذ إن أعمالها الأدبية تكتسب أهمية داخل النسيج الأدبي التونسي الجديد، لما تتوفر عليه من إمكانات فنية وجمالية وقدرة على التخييل؛ مما يجعلها دوما تتطلع صوب حداثة أدبية، ولا تبقى سجينة الشكل الأدبي التقليدي، وإنما تفتحه دوما على مفاجآت التجريب وفتنة التفكير.

هند الزيادي بدأت قاصة وانتهى بها الأمر في مزاولة الكتابة الروائية، حيث راكمت 4 روايات مختلفة الشكل ومتباينة على مستوى المضمون، لا بسبب الحظوة التي باتت تحظى بها الرواية داخل العالم فقط، بل بحكم ما يتيحه هذا الجنس الأدبي لها من قدرة على التشعب في الموضوع ومعالجته من زوايا مختلفة، إلى جانب اهتمام أكثر بالتفاصيل السردية التي تظل هاربة ومنفلتة داخل الكتابة القصصية.

عن تجربتها الأدبية وعلاقتها بالتحولات التي شهدتها تونس، كان للجزيرة نت هذا اللقاء مع القاصة والروائية هند الزيادي:

  • بين القصة والرواية، أين تعثرين على شغفك بشكل أقوى وأكثر وعيا ونضجا في الكتابة الأدبية؟

الحقيقة أنني ما زلت أعتبر نفسي في بداية تجربتي السردية، وما زلت أبحث عن هويتي السردية. لقد كتبت إلى حد الآن 4 روايات؛ هي "الصمت" و"لافاييت" و"غالية" و"الثالثة فجرا"، ومجموعة قصصية واحدة هي "غرفة الأكاذيب". ولم يقل الشغف في إحداها، فالمتعة متنوعة متجددة بين القصة والرواية، ولكنها مختلفة أيضا، فلكل نوع أدبي تقنياته ومتطلباته، وكل نوع يتحداك في مهاراته.

ففي حين تمكنني الرواية -مثلا- من الإسهاب والتعمق في التفاصيل وتوفر لي قماشة سردية واسعة أستطيع تنويعها وتشكيلها حسب المعمار الذي أريد، فإن القصة القصيرة تتحداني في التكثيف والقدرة على اقتناص اللحظة واللغة المناسبة التي أتناولها في أقل ما يمكن من المساحة السردية.

هذه التحديات التي يوفرها كل نوع مصدر متعتي وشغفي الحقيقي لاكتشاف قدراتي ككاتبة وإبرازها.

الرواية كتاب التاريخ الحقيقي، تاريخ المهمشين الذي سكت عنه المنتصرون، تاريخ الجزئيات التي تصنع الصورة الكلية، تاريخ الشخصيات التي شكلت هوية الأمكنة بأفعالها وصنعت بطولاتها بطريقتها الخاصة التي تخرج عن "كتالوج" البطولة الرسمية، تاريخ الأفكار الثائرة التي تختلف عن الحقائق السائدة التي تقرها السلطة الرسمية.

 

أهمية الرواية

  • لكن ما الذي جعلك بالضبط تتخذين الرواية وسيلة للتعبير عن أفكارك ومواقفك بعدما خبرت تجربة كتابة القصة القصيرة؟

سؤالك يضمر/يفترض مفاضلة قمت بها، بين الرواية والقصة القصيرة، وهو موقف لم يصدر مني إلى حد الآن، لأن كلا منهما مكنني من التعبير عما يدور في ذهني بشكل مختلف ولكل متعته الخاصة، لكني كلما قرأت زاد يقيني بأن الرواية كتاب التاريخ الحقيقي، تاريخ المهمشين الذي سكت عنه المنتصرون، تاريخ الجزئيات التي تصنع الصورة الكلية، تاريخ الشخصيات التي شكلت هوية الأمكنة بأفعالها وصنعت بطولاتها بطريقتها الخاصة التي تخرج عن "كتالوج" البطولة الرسمية، تاريخ الأفكار الثائرة التي تختلف عن الحقائق السائدة التي تقرها السلطة الرسمية.

لهذا كله جعلت الرواية صوتي وصوت من لا صوت لهم. لكن هذا لا يعني أنني أميل إلى أحد النوعين دون الآخر، بل أرى أن الرواية والقصة القصيرة بمثابة مرآة بعدستين مختلفتين؛ واحدة تمكنني من كشف "الماكرو واقع" في صورته الكبرى، والثانية تمكنني من كشف "الميكرو واقع" في جزئياته وتفاصيله الدقيقة.

هامش الحرية والتعبير

  • هل تعتقدين أن التحول الذي شهده المجتمع التونسي منذ الربيع العربي إلى اليوم كان سببا في اختيار هذا الجنس الأدبي (الرواية) لما يتيحه من جرأة على مستوى الكتابة؟

هو سبب من الأسباب، ويمكنه أن يكون السبب الرئيسي؛ فالتحول الذي طرأ عتق الأصوات نهائيا وكليا، ودفعها إلى محاولة الخروج من زاوية الرواية الرسمية الواحدة إلى تعدد الأصوات والروايات.

مع هامش الحرية الذي صار متوفرا صار لكل روايته التي يريد قولها وحقيقته التي يريد أن يخلدها في الزمن، صار لكل شهادته التي كانت مكتومة وحان الوقت لقولها. لهذا فمهما قيل عن كثرة الروايات وكثرة كتاب الرواية وتأثير ذلك على جودة المكتوب، فأنا لا أنظر إلى ذلك باستنكار أو استهجان بل أتقبله بتفهم شديد ووعي بأهمية ذلك على المدى البعيد.

كل هذا من أجل توفير التراكم الضروري لتشكيل هوية الأدب التونسي لما بعد ذلك التحول، مع ملاحظة أن مسألة الجرأة كانت سابقة له؛ ففي عز أيام الدكتاتورية نشرت الأقلام التونسية كثيرا من الآثار الجريئة التي تعرضت للمواضيع المسكوت عنها.

الرواية والواقع

  • مغاربيا، لم يحظ مفهوم "الواقع" بما يستحقه من عناية على مستوى الكتابة الروائية. كيف جاء تعاملك مع هذا المفهوم داخل تجربتك القصصية والروائية؟

دعنا نتفق أولا أن الأدب ليس إعادة كتابة الواقع بحذافيره وإلا فقدت الآثار الروائية والقصصية والشعرية أدبيتها وشعريتها، وصارت مجرد تقرير صحفي إخباري. الأدب بمختلف أنواعه تشكيل فني لذلك الواقع.

رواية "الصمت/سيكيزوفرينيا" لهند الزيادي تناقش ذكريات الطفولة (الجزيرة)

ومن هذا المنطلق فأنا أزعم أنني مهتمة جدا بالواقع في رواياتي وأقاصيصي، فقد كانت روايتي "لافاييت" مثلا من أوائل الروايات التي كتبت عن مرحلة ما بعد التحول السياسي الذي حدث بعد يناير/كانون الثاني 2011، وتنبأت بمصير تلك "الانتفاضة" وحفرت في أسبابها.

وفي "غالية" تكلمت عن منطقة منسية في خريطة السرد التونسي، وهي منطقة الوطن القبلي في أربعينيات القرن الماضي تحت الاستعمار الفرنسي.

لذلك أنا أتعامل مع الواقع، ولكن أعيد تشكيله وأتوسل في ذلك بفنيات ومهارات مختلفة يلعب فيها الخيال الفني الخاص بي دورا رئيسيا.

كتابة القصة

  • ماذا عن مجموعتك القصصية "غرفة الأكاذيب"؛ كيف يمكن للكاتب أن يحتفي "بالكذب" علما أن ماهية الأدب لا تختلف جوهريا عن هذا المفهوم؟

لا نتكلم هنا عن الكذب بالمفهوم الأخلاقي الأيديولوجي (النظرة الأخلاقية/الدينية مثلا) بل نتكلم عن الكذب بمعناه الفني، بما هو الإيهام بواقع متخيل صنعه المبدع وأعاد به تشكيل واقع مخصوص في روايته.

نتكلم عن الكذب الخلاق الذي تحدث عنه كبار الكتاب في العالم؛ ماريو بارغاس يوسا وخوان رولفو وأناييس، وقبلهم كان ابن رشيق القيرواني وأبو سنان الخفاجي وأبو هلال العسكري وغيرهم من النقاد القدامى الذين أثاروا مسألة الكذب في الأدب بما هو تخييل وإيهام، أي بما هو تشكيل فني تقني لواقع.

نحن نتكلم عن الكذب الخلاق الذي تحدث عنه كبار الكتاب في العالم؛ ماريو بارغاس يوسا وخوان رولفو وأناييس، وقبلهم كان ابن رشيق القيرواني وأبو سنان الخفاجي وأبو هلال العسكري وغيرهم من النقاد القدامى الذين أثاروا مسألة الكذب في الأدب بما هو تخييل وإيهام، أي بما هو تشكيل فني تقني لواقع.

لذلك لا أنكر أنني استمتعت جدا بالكذب في مجموعتي القصصية "غرفة الأكاذيب"، واحتفيت به أيما احتفاء إذا كان فيها 19 أقصوصة بـ19 كذبة سردية تخييلية. فلا غير الكذب مكنني من فتح بوابات الخيال التي أقفلها "المنطق" ومكنني من تفكيك الواقع وإعادة تشكيله كما أشتهي، منوعة بذلك في التقنيات والأساليب والأصوات السردية.

إن الكذب بهذا يصير وسيلة لتخصيب الواقع وتجديد شعريته وفتحها على بوابات لا متناهية للمعنى والمحرك الرئيسي لديمومة الأدب وصيرورته وسيرورته.

التجربة الفردية

  • يغلب على بعض أعمالك الأدبية النزوع صوب معاينة تجارب فردية بامتياز، دون الاهتمام بشكل أكبر بالسياقات التاريخية كما هي الحال للربيع العربي في تونس. كيف جرى الاهتمام بتفاصيل هذه المرحلة داخل الكتابات التونسية؟

في مجموعتي القصصية "غرفة الأكاذيب" التي سلطت فيها مشرطي السردي على حالات فردية مبتورة ذات خصوصية باحثة فيها عن جمالية معينة للقبح، كان القبح حالة مجتمعية عامة تجلت في جزئيات صغيرة وتشوهات مخصوصة طالت حياة الأفراد.

هذا بالإضافة إلى رواياتي الأربع: "الصمت" و"لافاييت" و"غالية" و"الثالثة فجرا" التي اهتمت بالواقع التونسي منذ الاستعمار إلى ما بعد أحداث يناير/كانون الثاني 2011.

في "لافاييت" تطرقت الرواية إلى التفاوت الطبقي الذي ولد الصراع، وأثرت كثيرا من القضايا السياسية والاجتماعية، بل وكانت -كما أزعم- من أوائل الروايات التي قرأت الواقع التونسي بعد التحول قراءة صحيحة وتنبأت بمآل ذلك التحول في ظل الصراعات الأيديولوجية السائدة التي أنهكت الناس واستنزفت الوطن ومقدراته.

رواية "لافاييت" تناقش التفاوت الطبقي الذي ولد الصراع (الجزيرة)

الأدب وهاجس التجريب

  • من "غرفة الأكاذيب" إلى "غالية" وصولا إلى "الصمت"، إلى أي حد يمكننا الحديث عن كتابة أدبية معاصرة أو بتعبير آخر: ما مدى استلهام طرق وآليات الكتابة الأدبية المعاصرة ذات النفس التركيبي؟

كنت دوما أرى أن القضايا كلها متوفرة بشكل متفاوت عند جميع الكتاب ومتنوعة بشكل يجعل طرقها أمرا عاديا لا يكاد يميز أثرا أدبيا عن آخر، بما فيها قضايا الثالوث الذي لم يعد مسكوتا عنه في تونس (الجنس والدين والسياسة) فكثير من الروايات والمجاميع القصصية توغلت في الواقع كشفت منه جميع جوانبه متحلية بجرأة قد تفتقدها غيرها من التجارب السردية العربية الأخرى.

غير أن التميز الأصيل والمفاضلة الحقيقية عندي يكمنان في قدرة المعمار السردي الذي يشتغل عليه الروائي على إثارة دهشة القارئ وشده إلى عوالمه السردية التخييلية وعلى قدرة ذلك المعمار على إضفاء الفرادة والخصوصية على كتابة روائي دون سواه.

لذلك كنت دوما حريصة في مختبري السردي على اختيار هندسة سردية مختلفة كل مرة وتطعيمها بتقنيات مختلفة تشحذ ذكاء القارئ وتذهب عنه الملل وتتحداه وتثير فضوله لمزيد من اكتشاف عوالمي الروائية.

وأعتقد أن تلك الفنيات المختلفة هي التي تقتحم عوالم التخييل وتثريها وتعطيها قوة الاختلاف والتنوع والتجدد مع كل أثر روائي/قصصي، وهي التي تدفع عجلة الأدب إلى الأمام وتضفي عليه صفة التقدمية.

المصدر : الجزيرة