الحروب الروسية المقدسة.. كيف ترمز كاتدرائية البنادق والمجد إلى عالم بوتين؟

مشهد من داخل الكاتدرائية الرئيسية للقوات المسلحة الروسية (شترستوك)

من بين قراءات وتحليلات عدة للحرب الروسية على أوكرانيا، يناقش بعض المؤرخين والباحثين العامل الديني بوصفه واحدا من تفسيرات الحرب العديدة، وبخلاف تحليل الخطابات والمواقف يبرز معلم ديني في روسيا على أنه أحد شواهد تلك التفسيرات الدينية.

ففي ضواحي العاصمة الروسية موسكو منتصف عام 2020 تم افتتاح الكاتدرائية الرئيسية للقوات المسلحة الروسية، التي تم تكريسها لذكرى "النصر في الحرب الوطنية العظمى، فضلًا عن المآثر العسكرية للشعب الروسي في جميع الحروب".

الكاتدرائية الضخمة ذات اللون الكاكي تشبه مدينة للملاهي العسكرية التي تحتفل بالقوة الروسية، وكان من المقرر في الأصل افتتاحها في الذكرى 75 لانتصار الاتحاد السوفياتي على ألمانيا النازية في مايو/أيار 2020، ولكن تم التأجيل بسبب جائحة كورونا.

الكاتدرائية -التي تخيلها وزير الدفاع الروسي بعد ضم البلاد غير القانوني لشبه جزيرة القرم عام 2014- تجسد الأيديولوجية التي تبناها الرئيس فلاديمير بوتين، بدعم قوي من الكنيسة الأرثوذكسية الروسية.

تربط رؤية الكرملين لروسيا ودور مؤسسات الدولة والجيش والكنيسة الأرثوذكسية الروسية معا. وبصفتها باحثة في القومية، ترى الأكاديمية بجامعة ولاية بنسلفانيا الأميركية لينا سيرزهكو هارند في مقالها بموقع "ذا كونفيرذيشن" (the conversation) هذه القومية الدينية المتشددة أحد العناصر الرئيسية في دوافع بوتين لغزو أوكرانيا (بلدها الأم). كما أنه هذا التفسير يسهم في فهم سلوك موسكو تجاه "الغرب" الجماعي والنظام العالمي بعد الحرب الباردة.

الملائكة والبنادق

يبلغ ارتفاع برج جرس كنيسة القوات المسلحة 75 مترا، وهو يرمز إلى الذكرى 75 لنهاية الحرب العالمية الثانية، ويبلغ قطر قبته 19.45 مترا؛ إيذانًا بعام الانتصار وهزيمة النازيين 1945.

وهناك قبة أصغر يبلغ طولها 14.18 مترًا، تمثل 1418 يومًا استمرت فيها الحرب، وتم صهر أسلحة تذكارية على الأرض، حيث تكون كل خطوة بمثابة ضربة للنازيين المهزومين، حسب هارند. وتحتفل اللوحات الجدارية بالقوة العسكرية الروسية رغم تاريخ من معارك العصور الوسطى إلى حروب العصر الحديث في جورجيا وسوريا.

وفي اللوحات تقود الملائكة الجيوش السماوية والأرضية، والمسيح يمتلك سيفًا، والأم المقدسة -التي تُصوَّر على أنها الوطن الأم- تقدم الدعم.

"مهد" المسيحية

تضمنت الخطط الأصلية للوحات الجدارية الاحتفال باحتلال القرم، حيث كان الناس المبتهجون يحملون لافتة كتب عليها "القرم لنا" و"إلى الأبد مع روسيا". وفي النسخة النهائية تم استبدال شعار "القرم لنا" المثير للجدل إلى عبارة " نحن معًا " الأكثر اعتدالًا.

عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم من أوكرانيا عام 2014، احتفلت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، واصفة القرم بأنها "مهد" المسيحية الروسية. تستند هذه الأساطير إلى قصة العصور الوسطى للأمير فلاديمير، الذي اعتنق المسيحية في القرن العاشر وتم تعميده في شبه جزيرة القرم. ثم فرض الأمير الإيمان المسيحي على رعاياه في كييف، وانتشر من هناك للأراضي الروسية.

لطالما ادعت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية -التي تسمى أيضًا بطريركية موسكو- أن هذا الحدث قصة تأسيسها، وتبنت الإمبراطورية الروسية التي ربطت نفسها بالكنيسة هذه القصة التأسيسية أيضًا.

"العالم الروسي"

أعاد بوتين ورئيس الكنيسة الروسية البطريرك كيريل إحياء هذه الأفكار حول إمبراطورية القرن 21 في شكل ما يسمى "العالم الروسي"؛ مما أعطى معنى جديدًا لعبارة تعود إلى العصور الوسطى.

في عام 2007، أنشأ بوتين مؤسسة العالم الروسي، التي كلفت بتعزيز اللغة والثقافة الروسية في جميع أنحاء العالم، كمشروع ثقافي للحفاظ على تفسيرات التاريخ التي يتبناها الكرملين .

بوتين ووزير الدفاع سيرغي شويغو والبطريرك كيريل يحضرون احتفالًا أمام كاتدرائية القوات المسلحة الروسية (رويترز)

بالنسبة للكنيسة والدولة، تشمل فكرة "العالم الروسي" مهمة جعل روسيا مركزًا حضاريًا وروحانيًا وثقافيًا وسياسيًا لمواجهة الأيديولوجية الليبرالية العلمانية للغرب، وتم استخدام هذه الرؤية لتبرير السياسات في الداخل والخارج.

الحرب الوطنية العظمى

تصور فسيفساء أخرى احتفالات هزيمة القوات السوفياتية لألمانيا النازية في "الحرب الوطنية العظمى"، كما تسمى الحرب العالمية الثانية في روسيا. تضمنت الصورة جنودًا يحملون صورة جوزيف ستالين، الذي قاد الاتحاد السوفياتي خلال الحرب، وسط حشد من قدامى المحاربين. وحسب ما ورد أزيلت هذه الفسيفساء قبل افتتاح الكنيسة.

تتمتع الحرب الوطنية العظمى بمكانة خاصة، بل ومقدسة، في وجهات نظر الروس للتاريخ. وتكبد الاتحاد السوفياتي خسائر فادحة (26 مليون شخص يعد تقديرا متحفظا للخسائر). وبصرف النظر عن الدمار الهائل، يرى العديد من الروس في نهاية المطاف الحرب على أنها حرب مقدسة، دافع فيها السوفيات عن وطنهم الأم وعن العالم بأسره من شر النازية.

وفي عهد بوتين وصل تمجيد الحرب ودور ستالين في الانتصار إلى أبعاد أسطورية؛ يُنظر إلى النازية -لأسباب وجيهة للغاية- على أنها مظهر من مظاهر الشر المطلق، حسب الكاتبة.

لقد ظهر خطاب هذه القومية الدينية المتشددة في الوقت الذي هددت فيه روسيا أوكرانيا وغزتها في نهاية المطاف، وخلال خطاب ألقاه في 24 فبراير/شباط 2022، دعا بوتين بشكل غريب إلى "إزالة النازية" من أوكرانيا، كما تحدث عن العلاقات الأخوية بين الشعبين الروسي والأوكراني، ونفى وجود الدولة الأوكرانية. في رأيه، سيادة أوكرانيا مثال على القومية المتطرفة الشوفينية.

وتقول الكاتبة إن ادعاء بوتين أن الحكومة الأوكرانية يديرها النازيون ادعاء سخيف، ومع ذلك فإن التلاعب بهذه الصورة منطقي في إطار هذه الأيديولوجية، إن تصوير الحكومة في كييف على أنها شر يساعد في رسم الحرب في أوكرانيا بالأبيض والأسود.

مهمة خلاصية

قد تكون القضايا الجيوسياسية الملموسة هي الدافع وراء حرب بوتين في أوكرانيا، لكن يبدو أن أفعاله مدفوعة أيضًا بالرغبة في تخليد مجده وهو يعيد "روسيا العظمى" إلى حجمها ونفوذها السابق، وهكذا لا بد أن يظهر بوتين مدافعا قويا يهزم أعداء روسيا.

ظهر الرئيس الروسي نفسه في نسخ سابقة من اللوحات الجدارية للكاتدرائية، إلى جانب وزير الدفاع سيرغي شويغو ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف. ومع ذلك، تمت إزالة الفسيفساء بعد الجدل، حيث ورد أن بوتين نفسه أصدر أوامر بإزالتها، قائلاً إنه من السابق لأوانه الاحتفال بالقيادة الحالية للبلاد.

قال البطريرك كيريل -الذي وصف حكم بوتين بأنه "معجزة الإله"- إن الكاتدرائية الجديدة "تأمل أن تلتقط الأجيال القادمة العصا الروحية من الأجيال السابقة وتنقذ الوطن من الأعداء الداخليين والخارجيين".

تتجلى هذه القومية الدينية المتقلبة في النزعة العسكرية التي تتكشف في أوكرانيا، كما تقول الكاتبة.

وفي 24 فبراير/شباط 2022، يوم بدء الحرب الروسية على أوكرانيا، دعا البطريرك كيريل إلى حل سريع وحماية المدنيين في أوكرانيا، مع تذكير المسيحيين الأرثوذكس بالعلاقة الأخوية بين الشعبين. لكنه لم يدن الحرب نفسها، وأشار إلى "قوى الشر" التي تحاول تدمير وحدة روسيا والكنيسة الأرثوذكسية الروسية.

المصدر : ذا كونفرسيشن