خلال إعادة إعمار الموصل.. اكتشاف أثري مهم تحت الجامع النوري

عُثر على أطلال مصلى من العصور الوسطى تحت الجامع وبمساحة تفوق مساحة المصلى قبل تفجيره. كما عُثر على 5 غرف تحت الأرض متصلة ببعضها تتضمن أماكن للوضوء ومكتبة.

صورة تظهر عمق المصلى القديم المكتشف تحت المبنى الحالي للجامع (الجزيرة نت)

الموصل – يعد الجامع النوري الكبير في الموصل أحد أهم وأقدم المعالم الإسلامية في محافظة نينوى شمالي العراق، إذ بني المسجد في عهد الدولة الأتابيكية منذ ما يقرب من 900 عام.

يقع الجامع في الجانب الغربي (الأيمن) من الموصل (مركز محافظة نينوى العراقية)، ويتوسط مدينة الموصل القديمة التي تبلغ مساحتها 4 كيلومترات مربعة وتعد الموقع الذي توسعت منه المدينة وصارت إلى ما هي عليه الآن.

وبسبب رمزية الجامع وأهميته، اتخذه تنظيم الدولة الإسلامية في يوليو/تموز 2014 مكانا لإعلان "دولة الخلافة" خلال خطبة زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي بعد أن اجتاح التنظيم في العاشر من يونيو/حزيران من ذلك العام مساحات واسعة من العراق.

ومع محاربة التنظيم في الموصل القديمة التي يقع فيها الجامع في يونيو/حزيران 2017، ومع اقتراب القوات الأمنية العراقية من الجامع النوري، تعرض الجامع للتفجير، مما أحاله إلى ركام، ودمرت منارته المعروفة بالحدباء.

ما تبقى من الجامع النوري بعد تفجيره حيث تجري إعادة إعماره (الجزيرة نت)

تاريخ الجامع

يقول أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة الموصل أحمد قاسم الجمعة إن الجامع النوري بمئذنته الحدباء يعد أيقونة الحضارة الإسلامية في الموصل، حيث بناه السلطان نور الدين محمود الأتابيكي في عهد الدولة الأتابيكية، التي كانت تحكم كلا من الموصل وحلب (شمالي سوريا) وأجزاء من بلاد الشام.

ويتابع الجمعة -في حديثه للجزيرة نت- أن بناء الجامع تم بين عامي 566-568 للهجرة الموافق 1170-1172 للميلاد، وأن سبب رمزيته الكبيرة تتعلق بكونه من أقدم مساجد الموصل التي لا تزال بارزة المعالم حتى الآن، مبينا أن أقدم مسجد في الموصل هو المسجد الجامع الذي بني في العام 16 للهجرة في مدينة الموصل القديمة كذلك، إلا أنه لم يتبق شيء من معالمه الأصلية.

اكتشاف المصلى الأصلي

وبعد تخليص الموصل من تنظيم الدولة، شرعت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة "يونسكو" (UNESCO) في إعادة إعمار الجامع في مشروع أطلقت عليه "إحياء روح الموصل"، حيث بدأ الإعمار نهاية عام 2019.

شهد إعادة إعمار الجامع تعقيدات كثيرة، لعل أهمها عمل فرق صيانة الآثار على جمع قطع الحجارة التي بني منها الجامع لاستخدامها مرة أخرى في إعادة إعماره، بحسب معاون مفتشية آثار نينوى خير الدين أحمد.

ويتابع أحمد -في حديثه للجزيرة نت- أنه بعد أن تم رفع الأنقاض من مبنى الجامع النوري وتوثيق كافة الأعمال العمرانية، وقطع الحجارة الأثرية وإحصاؤها والاحتفاظ بها في مخازن نظامية، كانت لدى المفتشية إشارات من بعض الكتاب والمؤرخين تشير إلى أن الجامع شهد صيانة لأرضية مصلى الجامع في السابق، مما حدا بفرق التنقيب بالبدء في التنقيب تحت أرض المسجد بحثا عن المصلى الأصلي.

ويعلق أحمد على ذلك بالقول "بعد 4 أشهر من التنقيب الدقيق، استطاعت فرق التنقيب الوصول لاكتشاف أثري مهم للمصلى القديم الذي يعود للفترة الأتابيكية، حيث يقع على عمق مترين أسفل أرضية المصلى الحالية التي تعود لأربعينيات القرن الماضي، وهي الفترة التي شهدت آخر عمليات صيانة للجامع النوري".

وعن الاكتشاف، أوضح أحمد أن مساحة المصلى الأصلية المكتشفة أوسع بكثير من المصلى الحالي، وتمتد للطرقات المحيطة بالجامع، إلا أنه ووفقا للجدول الزمني المتفق عليه مع منظمة اليونسكو، فإن التنقيب توقف عند هذا الحد مع بدء أعمال الصيانة للمكتشفات.

حصرية من الارشيف الخاص بي - الجامع النوري الكبير قبل تفجيره من قبل تنظيم الدولة قبيل تحرير الموصل
المنارة الحدباء في الجامع النوري قبل تفجيرها (الجزيرة)

اكتشاف غرف الوضوء

لم تتوقف الاكتشافات عند هذا الحد، إذ كشف أحمد أنه خلال عمليات التنقيب في باطن الأرض بعمق 6 أمتار، اكتشفت 4 غرف متصلة مع بعضها بعضا أفقيا ومتعامدة مع بعضها في آن واحد، ومشيدة من الجص والحجارة، ومسقفة من خلال أسلوب العِقَادَة (أسلوب موصلي قديم في البناء).

وأضاف أن أبعاد هذه الغرف تقارب 3.5 أمتار مربع لكل منها وبارتفاع 3 أمتار، وتقع تحت سطح الأرض الحالية بنحو 6 أمتار وأسفل المصلى المكتشف، مبينا أنها تحتوي على أحواض مياه مشيدة بمادة الحلان ومطلية بمادة القار (الإسفلت) لحفظ مياه الوضوء، فضلا عن اكتشاف مسارات لتصريف هذه المياه ونقلها لأماكن أخرى.

الحيالي: خلال التنقيب اكتشفت آثار لثلاث طبقات تحت الأرض ووجدت مصكوكات معدنية وذهبية (الجزيرة نت)

أهمية المكتشفات

للمكتشفات الحديثة في الجامع النوري أهمية كبيرة، ووفق ما يؤكده أحمد قاسم الجمعة فهناك دلائل كثيرة على أن أرضية المصلى المكتشف تعود للعهد الذي بني فيه الجامع، مستدلا بأن الأرضية المكتشفة تقع في المستوى ذاته لأرضية مدخل الجامع الأصلي الذي اكتشفه الجمعة قبل 3 عقود من الآن في الجدار الشمالي للجامع.

كما أن أهمية المكتشفات تكمن، بحسب الجمعة، في أن غرف الوضوء الأربع تدل على عبقرية الهندسة الإسلامية، لا سيما وأنها تميل بشكل واضح تجاه نهر دجلة لأجل تصريف المياه المستخدمة في الوضوء.

ويذهب في هذا المنحى مدير الوقف السني في محافظة نينوى نشوان الحيالي الذي قال إنه، بالإضافة لاكتشاف المصلى الأصلي والغرف، فإن فرق التنقيب اكتشفت آثارا عينية لثلاث طبقات تحت الأرض، وجدوا فيها مصكوكات معدنية وذهبية يعود بعضها لعهد الخليفة العباسي المستنصر بالله الذي عاصر الأتابكيين.

وتابع الحيالي في حديثه للجزيرة، أن هذا الاكتشاف سيكون معلما حضاريا للعيان من خلال جعل المصلى الأصلي والغرف المكتشفة متحفا ستوضع فيه بقية المكتشفات من العملات المعدنية وقِرَبِ المياه التي استخدمت في الوضوء آنذاك.

وامتنعت منظمة اليونسكو عن الإدلاء بأي تصريح للجزيرة نت، إلا أن الصفحة الرسمية للمنظمة على "فيسبوك" (Facebook) أكدت أن هذه الاكتشافات تحمل في طياتها رسالة أمل إلى الموصل والعراق والعالم، فهي تسلّط الضوء على التاريخ العريق لهذا البلد، وتشرِّع أبواب فرص جديدة للتعرّف على تاريخ العراق واكتشاف تراثه الغني.

 

 

قبلة سياحية

ومع الاكتشافات الحديثة، يرى العديد من المراقبين أن أهمية الجامع النوري ستزداد. وبالعودة إلى مفتشية آثار نينوى، يقول خير الدين أحمد إن دائرته ستستخدم المكتشفات لغرض السياحة من خلال تسقيف المصلى المكتشف بالزجاج المٌقسَّى لأجل إفساح المجال للسياح لرؤية المصلى القديم، مبينا أن جزءا من المصلى القديم المكتشف يقع داخل المصلى الحالي، والآخر خارج المصلى.

أما الغرف المكتشفة فلا يمكن مشاهدتها من خلال الزجاج لوقوعها تحت المصلى، وبالتالي يؤكد أحمد أن مفتشية الآثار واليونسكو ستستحدثان مدخلا مستقلا من أجل إمكانية دخول الزوار للغرف، والاطلاع على المكتشفات الأثرية، لافتا إلى أن هذا الاكتشاف ذو فائدة عظيمة، إذ سيكون قبلة سياحية، فضلا عن كونه رمزا دينيا وتراثيا للموصليين ولكافة المسلمين.

ما تبقى من المنارة الحدباء في الجامع النوري التي تخضع لإعادة الإعمار (الجزيرة نت)

المنارة الحدباء

وعن إعادة إعمار الجامع والمدة التي تستغرقها، يؤكد أنه من المتوقع أن تنتهي إعادة الإعمار نهاية 2023 مع استخدام الحجارة التي جمعت من أنقاض الجامع.

وعن المنارة الحدباء، كشف أحمد أن التنقيب تحت أسس المنارة وصل إلى عمق 8 أمتار، وبالتالي ستساعد هذه التنقيبات في استحداث أنفاق محيطية لأجل ملئها بالكونكريت المسلح، مما يدعم إعادة إعمار المنارة الحدباء لا سيما وأن أساسات المنارة فيها مستويات عالية من الرطوبة.

وبيّن أن التنقيب تحت أسس المنارة كشف أن قاعدة المنارة ذات شكل هرمي وليست "موشوريا"، كما كان يُعتقد سابقا، وأن إعادة إعمار المنارة ستبدأ قريبا وفق الشكل ذاته الذي كانت عليه قبل تفجيره وبنسبة ميلان أقل مما كان في السابق، بحسب قوله.

المصدر : الجزيرة