الأديب والفنان العراقي صفاء سالم إسكندر: الشاعر العراقي اليوم مشغول بالنص اليومي

الشاعر والفنان العراقي صفاء سالم إسكندر يرى أن الظروف التي مر بها العراق غيبت الكثير من الأشياء مثلما غيبت الكثير من الأرواح، وقال "أتمنى أن أرى شاعرا بجرأة الشاعر سركون بولص، بالطبع لا أمنح نفسي الفرادة، لكني أقصد ما أقول من باب التخلي عن غرورنا الذي لا أرى أي داع له".

الشاعر والفنان العراقي صفاء سالم إسكندر (الجزيرة)

تتأرجح سيرة الشاعر والفنان العراقي صفاء سالم إسكندر بين الكتابة الشعرية والرسم. إنه يكتب مثلما يرسم، ويرسم بالطريقة التي يكتب بها، محررا فعل الكتابة الشعرية من خطابها الشفهي، إذ يرسم لها دوما مسارات جمالية وبصرية متخيلة، مما يجعل الكتابة الشعرية معبرا للتجريب البصري.

رغم أن هذا الانفتاح البصري القوي على شعرية الصورة ليس علامة فنية تميز التجربة الشعرية العراقية ككل، وإنما له خصوصية فردية مرتبطة بسيرة صفاء سالم إسكندر في علاقته بالمجال البصري وإمكانية تطويعه داخل النص الشعري. لذلك يشعر القارئ لبعض أشعاره بأنه فنان صورة بامتياز.

وهذا الأمر بقدر ما توج صفاء سالم بوصفه فنانا بصريّا، ينحت سيرة الأجساد المرئية ويحولها إلى كائنات لا مرئية من دون ملامح أو رائحة من خلال جعل الفراغ عنصرا مؤسسا للوحة، بقدر ما ظلت تجربته الشعرية تضرب في الأفق الفني نفسه على شكل كتابة تجريبية تكسر الموضوع وتلهث للقبض على الشكل.

وليس غريبا أن يبرز صاحب "أغنيات لليوم التالي" بوصفه وجها شعريا جديدا داخل الشعر العراقي المعاصر، بعد أن راكم مؤلفات شعرية عديدة ومتماسكة بالنسبة لشخص درس الكيمياء، حتى أضحى من النماذج الشعرية الجديدة التي تؤسس مسار الشعر العراقي في الألفية الثالثة.

والحقيقة أن صاحب "الكون قبر لوحدتي" يبدو بعيدا عن الجدل النقدي، لكن تجربته الفنية ظلت تطرح داخل النقد الفني الكثير من الأسئلة حول علاقة الشعر بالرسم وعلاقة الكتلة بالفراغ. رغم أن تجربته الشعرية تبقى متكاملة مع رسومات، فإنها لا تلبث تبتعد وتنأى عنها، لكنها سرعان ما تعود إليها بشكل أكثر عمقا وتجذرا.

وبمناسبة صدور كتابه الأخير، أجرت الجزيرة نت هذا الحوار مع صفاء سالم إسكندر:

بين الشعر والرسم

  • بدايةَ، كيف تستطيع الجمع بين الرسم وكتابة الشعر، رغم أن لكل مجال خبرته الفنية وذائقته الجمالية؟

للألوان سحرها، لا يسعى الطفل إلى غير ذلك، أقصد غير أن يجد ضالته البعيدة وقد صارت بين يديه، أرى أن الألوان هي مساحة الطفل الحقيقية، فهذه هي البداية، الغريب أني كنت أرى أن الشعر شيء لا داعي له ولا يمثل أي حقيقة للجمال، وبالتأكيد كان هذا رأي متطرف، نابع من تراكم قراءات غير صحيحة بالمرة، لكن الحب يجعل الأمور واضحة أكثر.

الشعر والرسم مادتا الجمال الأساسية، والجمال لا يخضع لتعريف ثابت، وهنالك تعاريف تضع الرسم والشعر في المنحى نفسه (الشعر رسم ناطق، والرسم شعر صامت)، وهذه واحدة من أكبر المقاربات في عالم الجمال، بل إننا نجد الكثير من اشتغالات الفنانين الكبار، أقصد من غير الشعراء، وقد عمدوا إلى الاشتغال على دفاتر فنية تخص الشعر، مثل دفاتر الفنان الكبير ضياء العزاوي.

ديوان ”تنغيم سيرة الوردة“ الصادر عن دار سطور 2020 يستكشف ملامح وحالات الذبول في الكون (الجزيرة)

الشعر والأفق البصري

  • لكن، إلى أي حد يستطيع الشعر التأثير في الرسم؟ وكيف يخدم الرسم الكتابة الشعرية ويفتح لها أفقا جماليا وبصريا؟

المقاربة بين الحرف واللون، المقاربة مع الفراغ كبعد ثالث هي تجريد شعري وقراءة أخرى، أي أنك ترى ذلك الجمع بين الصمت والكلام في الآن نفسه، أن ترى النص/القصيدة بصورته غير الملونة، والإيقاعية/الموسيقية، وهذا التزاوج مع الألوان، بحد ذاته، تمثيل كبير، وشعرية، وإحساس عال.

بورتريهات فنية

  • رسمتَ سلسلة من البورتريهات لشخصيات أدبية وفكرية من العالم العربي، ما الدافع وراء هذه السلسلة البصرية؟ وما نصيب الشعر فيها؟

هنالك جملة لا أتذكر صاحبها تقول: "يريدون منا أن نرسم تفاحة ونقول لهم هذه تفاحة"، إذن وظيفة الرسم أكبر من الإشارة إلى الشيء مثل ما هو، كنت أريد أن أرى تداخل الفراغ مع ملامح الأشخاص الخارجية، أن ترى الإنسان بلا حزنه ولا سعادته، هل ذلك الشيء متوقع؟

الفراغ خلق ذلك الأمر، ولأعود مرة أخرى، وأطرح على نفسي سؤالا هل كنت سأحب شخصًا بلا ملامح؟ هل يفطر ذلك قلبي؟ ربما هذا سؤال ساذج ولا أهمية له، لكني كنت أشتغل على المقاربة بين هذه الأشياء المستحيلة، إذ ليس هنالك من لا يملك ملامح أو ما يشير إلى هويته وجنسه، لكنه كان مجرد ربط بصري مع الأشياء والمادة.

مشروع الشعر والرسم

  • هل تعتقد أن علاقة الشعر العربي المعاصر بالرسم قد توطدت معرفيا واستطاعت أن تنحت لها مشروعا متناغما يمزج الكلمة بالصورة؟

ذكرت لك أن الدفاتر الفنية خلقت قراءة أخرى، ومقاربة بصرية بين الأعمال الفنية والنصوص الشعرية، الألوان توضح المعاني بتجريد شاعري. ولأقول: إن الشعر يضع قراءة مسبقة للعمل الفني الذي امتزج به، وخلق له روحًا أخرى.

ربما هذا يخلق حوارًا من نوع آخر بين المتلقي والعمل الفني. وبالتأكيد هذا يعد مشروعًا مهما ومتكاملا قادمًا من وعي يربط بين أدوات الجمال مع بعض، كولادة هجينة، وهي أيضًا ربط بين المرئي واللامرئي سيظل الهدف مشتركًا وروحيا بحتا.

راهن الشعر العراقي

  • باعتبارك من الوجوه العراقية الجديدة التي حققت تراكما شعريا مميزا، ما الملامح التي ترسمها للشعر الجديد في العراق؟

ثمة ما يميز الشعر العراقي دائمًا في مختلف المراحل، لكني أقول إن الشاعر العراقي اليوم مشغول بالنص اليومي أكثر من أي شيء آخر، وكأن لا شيء في الشعر يكتب غير هذه اليوميات، وبالتأكيد هذه لا تخدم الشاعر بصورة أو أخرى، خصوصًا وأن الجملة الشعرية تأتي وكأنك تقرأ نصًا مترجمًا، وهذا الأمر لا ينطبق على كل أبناء جيلي إذ ما أردنا التصنيف والانتماء.

هنالك شعراء لهم نصوص مهمة وواعية، ترى الشاعر فيها يعرف ما يريد، وأن همه الشعري واضح في النص، وطبعًا هذا نابع من ثقافة شعرية جيدة، فمن المعيب اليوم أن نعرف أن هنالك من يدعي كتابة الشعر وهو قارئ غير حقيقي وليس له رصيد معرفي، وربما لا يتجاوز في قراءته الشعر إلى مناطق أخرى، الشعر أكثر وأكبر من ذلك. وظيفة الشعر أن يخلق الجمال، ويرمم خراب هذا العالم.

كيف سأقتنع بشاعر لا يسمع الموسيقى، أو لا يتأمل الأعمال الفنية الكبيرة، ليست وظيفة الشاعر أن يظل جالسًا في المقهى فقط، ثمة عوالم أخرى لا بد أن يغوص فيها الشاعر.

إن جيلنا، والأجيال التي تلته، جيل حر، ولا أقصد المعنى الكامل للكلمة، لكني أقصد أن جيلنا نوعًا ما هرب من أيديولوجية الحزب الواحد، لكنه لم يهرب من الإرهاب والتطرف الديني والحرب الطائفية، من الموت بشكل عام، بالتأكيد هذه الأشياء رسمت نفسها داخل النصوص الشعرية، فلا تستغرب إن كنت تجد من يكرر مفردة (الموت) في أكثر من نص شعري له.

أضف إلى ذلك، أن الأجيال التي تلت العام 2003 رفضت الأبوة الشعرية أو الثقافية إن صح التعبير، بل أرادت أن تكون عصامية في بناء نفسها، غير منتمية بالمرة إلى الأجيال التي سبقتها، وهذا لا ينفي تأثير هذه الأجيال أو تأثر شعراء ما بعد 2003 بشعراء الأجيال السابقة خصوصًا الستينيات، إذ إن هذه الفترة كانت ضاجة ثقافيًا، فترة مهمة جدًا في تأريخ العراق الشعري والثقافي.

الشعر العراقي الجديد

  • يبدو الشعر العراقي الجديد مغيّبا من اهتمامات النقد الشعري، رغم وجود تجارب جديدة قوية البنيان وشامخة على مستوى التشييد الشعري. هل تعتقد أن الحرب قد غيّبت التجارب الشعرية الواعدة؟

هذا عائد ربما إلى عدم الاطلاع الكافي على التجارب الشعرية العراقية، وأحيانا أخرى، ذكرت لك، أن شعراء اليوم يهتمون بالنص اليومي أكثر من أي شيء آخر، والهم العراقي غير هموم البقية، ولا أجد رغبة لدى الشعراء في الاشتغال أو التأسيس لنص كوني، لنص له إيقاعه الخاص، بل على العكس قد تجد هذا الأمر محل استهزاء في الوسط الذي يدعي الثقافة.

بالتأكيد الظروف التي مر بها العراق، غيبت الكثير من الأشياء مثلما غيبت الكثير من الأرواح. أتمنى أن أرى شاعرًا بجرأة الشاعر سركون بولص، بالطبع أنا لا أمنح نفسي الفرادة، لكني أقصد ما أقول من باب التخلي عن غرورنا الذي لا أرى أي داع له.

وبشكل عام، هنالك غياب للنقد الشعري، أو أن هنالك نوعا من اللاثقة، لم يعد فيها الناقد صاحب مشروع حقيقي يمكن الاعتماد عليه في تمرير ما يمكن لنا أن نثق به.

المصدر : الجزيرة