الأديب التونسي محمد علي اليوسفي: الشعر يكتب بين اليقظة والنعاس وبيروت جعلت مني مترجما

الكاتب والمترجم والشاعر التونسي محمد علي اليوسفي يرى أن تيار "الواقعية السحرية" الذي ميز أدب أميركا اللاتينية تعود أصوله إلى التراث العربي، لا سيما ألف ليلة وليلة (الجزيرة)

باريس- حين أسرج الفتى التونسي راحلته، وحمل صرة أفكاره على ظهره وضرب في الأرض مشرقا طالبا للعلم وباحثا عن حلمه، لم يكن يعرف أن الرحلة ستمتد به لأكثر من 3 عقود.

ومن دمشق التي أتم فيها دراسته الجامعية، إلى بيروت التي تابع فيها الدراسات العليا وتفتحت فيها قريحته الشعرية وهويته الثقافية وجعلت منه مترجما، وصولا إلى قبرص التي أمضى فيها 8 سنوات في مجلة "الكرمل" التي أسسها محمود درويش.

استطاع الكاتب محمد علي اليوسفي (مواليد 1950) أن يقفز فوق جب الأيديولوجيا وينحت لنفسه مسارا أدبيا متفردا يتجاوز الانفعال الآني السريع ويغوص بعمق في سرده وترجمته وشعره ويقترب أكثر من "لحظة المكاشفة الشعرية" الإبداعية، بعيدا عن ضوضاء الواقع الآني المشوّش.

كما استطاع صاحب رائعة "توقيت البنكا" أن يخون منفاه الجغرافي ويشرئب بروحه ليقترب أكثر في كتاباته من حبيبته الأولى تونس، حتى وهو بعيد عنها آلاف الأميال.

وبين كتابة الشعر والرواية والترجمة، آثر محمد علي اليوسفي أن يحلّق بأكثر من جناح في سماء الأدب والإبداع.

فأصدر في الرواية "مملكة الأخيْضَر"، و"بيروت ونهر الخيانات"، و"دانتيلا"، و"عتبات الجنة"، وفازت روايته "شمس القراميد" بجائزة الكومار الذهبي التونسية.

وفي الشعر، رسخ قدمه في الساحة بدواوين مثل "حافة الأرض"، و"امرأة سادسة للحواس"، و"ليل الأجداد"، و"رقصة الكونغرس"، و"حية كاملة يليها كوخ للحكمة"، و"سنجاب أيقظني لأكمل الطريق".

وأما في الترجمة فكان لليوسفي فضل كبير في تعريف العالم العربي بأدباء أميركا اللاتينية الكبار من خلال ترجمات لافتة مثل "خريف البطريرك" و"حكاية بحار غريق" لغابرييل غارسيا ماركيز، و"البابا الأخضر" لميغيل أنخل أستورياس، و"حرية مشروطة" لأوكتافيو باث، وعدة أعمال عالمية أخرى مثل "بلزاك والخياطة الصينية الصغيرة" لداي سيجي، و"المنشق.. سيرة نيكوس كازانتزاكيس بقلم زوجته".

في هذا الحوار تحدث اليوسفي عن آخر ترجماته وكتابه الصادر حديثا "دروب الريح"، وعن بيروت الحرب الأهلية التي جعلت منه مترجما، وعن علاقته بدمشق التي لا تزال تعشش داخله كما يقول، كما انفتح اللقاء عن رحلة عذابه الكبيرة مع دور النشر من أجل نشر ماركيز وأوكتافيو باث، وعن رؤيته للشعر والإبداع، وعدة قضايا أخرى تكتشفونها تباعا. فإلى الحوار:

  • كيف استطعت أن تجمع في كتابك الصادر حديثا "دروب الريح.. مختارات من الشعر العالمي المعاصر" أكثر من خيانة إبداعية بين الشاعر الغارس والقارئ البستاني والمترجم المنحاز؟

كانت تلك طريقتي فعلا في ترتيب لآلئ العقد بخيط ناظم يجمع بين المختلف والمؤتلف؛ تقديم شاعري من مترجم يجمع بين مهمة الترجمة وكتابة الشعر، هي في المحصلة حيلة أسلوبية ولعبة شعرية كثيرا ما ألجأ إليها في اختيار اللغة التي تعجبني وترضيني حتى في نصوص غيري التي أترجمها. أسميها اختيارا جماليا ولا أسميها خيانة. فحتى المؤلف نفسه يعد خائنا في نظري، وخيانته مسبقة للمترجم عندما يلجأ إلى حيل تخصه ويزين بها أسلوبه، واضعا فخاخا لأي مترجم محتمل.

الترجمة في جوهرها، وفي حالة صدقها ووفائها، لا بد أن تؤسس لذلك الميثاق الشرفي الذي يجمع بين المؤلف والمترجم والقارئ، حتى تخف درجة الخيانة لدى الجميع. مع العلم أن القارئ المتنوع والمتفاوت في درجة تكوينه المعرفي هو الأصعب في المعادلة الثلاثية. أسهل الأحكام التي وجدتها لدى هذا النوع من القراء هو الحكم بأن الترجمة سيئة لأن مداركه الفنية لم تألفها ولم تستوعبها، خصوصا في الأعمال الصعبة والمحتفية بشاعرية عالية كما في تجربتي مع ترجمة رواية "خريف البطريرك" لماركيز.

  • بين الشاعر الإنجليزي بيرسي شيلي الذي يرى أن "ترجمة الشعر محاولة عقيمة تماما، مثل نقل زهرة بنفسج من تربة أنبتتها إلى مزهرية"، وبين السيميائي جاكوبسون الذي يقول إن "الترجمة الوحيدة الممكنة هي النقل الإبداعي الخلاق، أي إعادة كتابة القصيدة وإنتاجها من جديد". ما الآليات الفنية التي تعتمدها لقطف رحيق الروح الشعرية من هذه الزهرة/القصيدة لتحقيق التوازن بين الممكن والمستحيل في ترجمة الشعر؟

هناك مبالغة في حجة بيرسي شيلي، ولأني أقل تطرفا منه أستطيع الرد -عن تجربة- بأن الترجمة تشبه نقل زهرة البنفسج التي تحدث عنها من تربة إلى تربة أخرى وليس من تربة إلى مزهرية. أقول ذلك من دون الاقتراب كثيرا من رأي جاكوبسون حول إعادة كتابة القصيدة من جديد. يكفي النص الجديد أن يظل وفيا للأصل في مجمله وليس في كل تفاصيله، وأن يكون قادرا على الاطمئنان والتوطن في اللغة الجديدة التي تستضيفه بفضل مترجم يجيد التحرك في اتجاهين وديدنه الحد الأدنى من تهمة الخيانة الجاهزة.

أعمال محمد علي اليوسفي تراوحت بين الشعر والترجمة والكتابة الأدبية (الجزيرة)
  • لمّا كانت الترجمة أشبه بـ"دروس مطالعة مكثفة" ومنتقاة، كان لزاما على المترجم/الكاتب أن يتأثر بما يترجمه، فكيف استطعت ككاتب مترجم أن تقفز فوق هذا الفخ الخطير للتأثر بالكم الهائل الهجين من الأعمال التي ترجمتها، من دون أن تفقد بوصلتك الإبداعية؟ وهل شكلت الترجمة عامل ثراء لتجربتك الكتابية أم هددت خصوصيتها وفرادتها؟

من المؤكد طبعا أن الترجمة تترك آثارها في كتابات المترجم إذا كان يجمع بين الكتابة والترجمة، لكن تقدم العمر وتعمق الخبرة يمكنان الكاتب من امتصاص الرحيق الخفي لكتابات غيره من دون الوقوع في التأثر الصارخ أو التقليد أو حتى الانتحال والسرقة كما يحدث لدى المبتدئين وحتى لدى بعض "المتناصين" الأقرب إلى صفة "المتلاصين"!

آخر ما جاء في سؤالك هذا يؤرقني حقا، وأعتقد أنها جمعت بين الاثنين حتى جعلت نصوصي مستحسنة من النخبة، ومستهجنة -أو على الأقل مسكوت عنها- لدى القارئ العادي وحتى المتوسط.

  • كنت من أوائل المترجمين العرب الذين ترجموا روايات غارسيا ماركيز، وأدب أميركا اللاتينية من خلال قامات إبداعية مثل أوكتافيو باث وميغيل أنخل أستورياس، فماذا بقي من شذى تلك المرحلة؟ وما الذي دفعك إلى هذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر حينها؟

كانت مرحلة فعلا، ويمكن القول إن حماسها خف بعد هضمها، أي هضم أدب أميركا اللاتينية الذي أمست رموزه من كلاسيكيات الأدب العالمي. في البداية بدأ اكتشافنا متأخرا لأدب أميركا اللاتينية وعبر المركز الأوروبي كما هو معتاد. تخيل أدبا جديدا وافدا على أصحاب دور نشر لم يفقهوا منه شيئا وبعضهم سارع إلى التشكيك حتى في قدرات المترجم! تعذبت كثيرا وأنا أقترح مثل تلك الترجمات في بيروت.

انظر ماذا كتبت ذات مرة عن تقديم أوكتافيو باث لدور النشر "صادف أن بيروت نهايات الحرب الأهلية وما قبل الحصار النهائي جعلت مني مترجما. وخلال طفرة الانتباه المتأخر (دائما) لظاهرة الأدب الأمريكي اللاتيني، كان للرواية نصيب أكبر، بل مطلق، مقارنة بالشعر، إذا استثنينا بابلو نيرودا، لأسباب شعرية وأخرى أيديولوجية.

وكان أن اقتربتُ من شعر بلدان تلك القارة فوجدته أقرب إلى الشعر العربي في مضمونه النضالي، على حساب الشعريِّ فيه. وكان من العيوب أن يجهر المرء بذلك في أجواء ما تبقى من أحلامنا المندثرة، وعندما تيقَّنت أن أوكتافيو باث هو الشعر والشاعر، ترجمته لنفسي أولا، وقرأت منه لبعض الأصدقاء.

ولما جاء دَور النشر اكتشفت أن باث شاعرٌ شاب، مبتدئ، يتوسل للنشر على أبواب دور حققت مجدا لا بأس به في هذا المجال (دار ابن رشد، والكلمة، والمسيرة…).

في الدار الأولى نامت المختارات نحو عام، وعندما حاولت استرجاعها لم يستطع الناشر العثور عليها إلا بعد أن ساعدته تنقيبا وقلبا لأكداس المخطوطات إلى أن وجدناها في الطبقة الأدنى.

ولدى الناشر الثاني ظلت 6 أشهر، وفي الأثناء قدَّمتُ القصيدة الأهم، وهي قصيدة/ديوان "حجر الشمس" إلى مجلة "الكرمل"، وكانت السبب في تعرُّفي على محمود درويش شخصيًّا ولأول مرة، وليس شعريا فقط؛ إذ أرسلتها وانتبه الناشر: لماذا لا يقدم محمود درويش هذا الديوان في ترجمته إلى العربية؟! قلت: لا أعتقد أن هذه مهمته، ومع ذلك سألته، فأجاب: إن أوكتافيو باث "لا يحتاج إلى تقديمي". وهكذا نام باث بين الأدراج شهورا أخرى حتى تحدثت عنه أمام الصديق الشاعر أحمد فرحات، ثم محمد علي فرحات؛ الأول ارتجف حماسة، والثاني ابتسم بهدوئه المعتاد.

وعرفت أن ناشرا جديدا، من العائلة، من الجنوب اللبناني "يثق بنا"، نحن الذين نثق بأوكتافيو باث؛ وأثمر الجهد الثلاثي لدى الدار العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، وتم تنضيد الكتاب. فصدر الكتاب وأنا في تونس سنة 1983، ثم حصل الشاعر على جائزة نوبل سنة 1990، "ونفد الكتاب من الأسواق".

هكذا حصل مع غابرييل غارسيا ماركيز أيضا. والحقيقة أن الكتاب المقترح من المترجم يثير حافظة الناشر محدود الاطلاع، في حين يكون سعيدا بالكتب "الآمنة" التي يقترحها هو.

  • هل ما زلت تتعامل مع الترجمة بروح المغامر الشغوف، أو تعد نفسك مترجما محترفا بعد هذه التجربة الطويلة؟

لا، لقد خفَتَ ذلك الشغف الآن، وبتّ أتعامل مع الترجمات ذات المكافآت المجزية. في المحصلة وبعد كل ما جرى لا أرى نفسي محترفا ولا هاويا، وأكاد أقول: مكره أخاك لا بطل!

  • كيف تفسر إعادة استيراد تيار "الواقعية السحرية" كبضاعة أدبية قادمة من أميركا اللاتينية، وسعي بعض الكتاب العرب لتقليد هذا التيار والتأثر به، في حين أن نظرة واعية للتاريخ تخبرنا أن الواقعية السحرية موجودة منذ القدم عند العرب منذ الشعر الجاهلي و"رسالة الغفران" وقصص ألف ليلة وليلة، فهل هو الجهل المقدس وعدم الاطلاع على ماضينا الأدبي، أو هو اللهث وراء كل ما هو وافد من الخارج؟

لو ترى كم قلدوا "خريف البطريرك" تحديدا بسبب ما تعاني منه منطقتنا من الدكتاتورية!

أما بالنسبة للواقعية السحرية كتيار فقد انتشر أيضا، وكما أشرت لم يكن الكتّاب العرب ليصدقوا أنه من تراثنا تماما كما كانت حال "ألف ليلة وليلة" التي لم نثمنها إلا بعدما فعل الغرب ذلك، والملاحظ أن ألف ليلة وليلة تحديدا كانت معينا سحريا لكتاب أميركا اللاتينية، وفي مقدمتهم بورخيس.

يمكن القول إن "زامر الحي لا يطرب" كما يقول المثل، أو أن الذائقة العربية تتنكر لمائها حال الجِمال في بيدائها كما يقول الشاعر "كالعيس في البيداء يقتلها الظما.. والماء فوق ظهورها محمول".

التقليد عندنا أقوى من محاولة الابتكار، تماما كما هي حالنا مع اللغات الأجنبية.

  • كيف استفدت إبداعيا من المنفى الاختياري الذي عشته على مدى 3 عقود بين دمشق وبيروت وقبرص؟ وماذا بقي من شذاه في شعرك ونثرك وكوخ حكمتك؟ وأيهما أشد قسوة بالنسبة للمبدع: المنفى المكاني الخارجي أم المنفى النفسي الداخلي؟

كانت تونس أقرب وأنا في منفاي الاختياري، ورأيتها بوضوح أكثر، كما لاح ذلك في مجموعتي الشعرية الأولى خاصة "حافة الأرض"، وكذلك في روايتي الأولى "توقيت البنكا" دون أن يعني ذلك غيابها في أعمالي اللاحقة. بعد تونس كتبت الكثير عن دمشق، أكثر مما فعلت مع بيروت وقبرص؛ دمشق من أكثر المدن العربية -وحتى الأجنبية- التي تحدثك بروحها وحميميتها، هي لا تزال داخلي بينما تضاءلت بيروت وانمحت قبرص تماما.

لا أصدق المنفى المكاني سوى في مكان واحد هو بلدك الأم، فهو الذي يزرع فينا محبته كما يزرع فينا "منفى داخليا نفسيا" لأسباب متعددة.

  • إذا كان "الشعر يتميز بسرعة التفاعل مع الحدث وفي ذلك مكسبه ومقتله أيضا"، فما الوسائل الفنية التي يستعملها الشاعر لكي لا يجرفه الطوفان السريع للتفاعل الآني مع الأحداث الكبرى مثل الحروب والثورات والأوبئة؟

هنا يفيدنا الجلوس على الربوة التي يكرهها المناضلون! الشعر لا يحاور الأكمة بل يتوغل في ما وراء الأكمة.

المترجم والشاعر محمد علي اليوسفي ترجم أعمالا من الفلسفة الأوروبية وأدب أميركا اللاتينية (الجزيرة)

ربما وقعت في الفخ خلال بداياتي في الكتابة، لكن ذلك كان مؤقتا وسرعان ما انتبهت إليه بفضل حماستي المتضائلة وعدم تصديق الأحلام النضالية ورؤية ما تخفيه من مصاعب وغش ومحسوبيات، وكذلك بفضل مطالعاتي المكثفة في الآداب العالمية. ألم أذكر لك أنني اكتشفت أوكتافيو باث وترجمتُه لنفسي في حين كانت بيروت تحتفل ببابلو نيرودا وأحمد فؤاد نجم؟

  • إلى أي مدى نجحتَ في كتاباتك في تجاوز الانفعال الآني مع طوفان الأحداث الكبرى التي عايشتها مثل الحرب الأهلية اللبنانية أو الثورة التونسية أو فيروس كورونا؟

خلال حصار بيروت قال محمود درويش معتذرا ممن طلب منه شعرا "الآن لا صوت إلا للسلاح". وكانت هناك نشرية يومية تفيض حماسة ورفعا للهمم، ودعيت إلى المشاركة فيها فلم أستطع كتابة موضوع واحد، وتركت ذلك للقادرين. كنت أمرّ على المزابل وأراقب الكتب الملقاة فيها من الكتب الماركسية إلى رواية "موبي ديك" التي انتشلتها من القمامة، كان القراء خائفين من مآلات الحصار وقدوم الغزاة!

لكن عدم الكتابة عن تلك التجربة لا يعني أنني تركتها نهائيا؛ لقد عادت متخلصة من حرارة اللحظة ومكتسية بحزن شفيف على ما مضى وانقضى.

والأقرب إلينا جائحة كورونا؛ لم أكتب عنها شيئا إلا إشارات قصيرة. وفي المقابل، شدت الجائحة عزيمتي "كأني أموت غدا"، فتفرغت إلى مخطوطات مؤجلة بين أشعار وروايات، وما زال أثر الجائحة يعرقلها لدى الناشرين.

  • ما الشعر في النهاية بالنسبة إليك وكيف تعرّفه؟

الشعر هو اللغة التي تألفك وتحبك فتهمس لك بصمتها بعيدا عن الضجيج، هو أنت صادقا في أعماقك وهو الذي يقولك بلا استئذان، بينما أنت من تقول الرواية، وأنت من تشمر عن ساعدك من أجل الترجمة.

الشعر يكتب في حالة بين اليقظة والنعاس، وهو ما يمكن عدّه نوعا من تعريف الكتابة الشعرية التي تفقد الكثير إذا كانت قصدية أو إرادية، أي في حالة صحو كامل كما ذكرت في القصيدة النضالية على سبيل المثال.

المصدر : الجزيرة