كيف شكّل التاريخ الاستعماري الأجسام والرياضة؟

الشرطة تراقب الحشود خلال مباراة الرغبي ضد جنوب أفريقيا في أوكسفورد عام 1969 بسبب المظاهرات المناهضة للفصل العنصري (غيتي)

فُرض الاستعمار على السكان الأصليين، ليس عبر القوة الغاشمة للغزو العسكري فحسب، بل عبر الاستيعاب الثقافي أيضا. ولم يكن هذا الاستيعاب متجانسا، وكثيرا ما أنتج المستعمَر نتيجة مختلفة عما توقعه المستعمِر.

وحسب كتاب "تأملات نقدية في الثقافة البدنية على بوابات الإمبراطورية" الصادر حديثا عن دار "أفريكان صن ميديا"، كانت الثقافة البدنية واحدة من أهم المشاريع الاجتماعية للإمبريالية في القرن التاسع عشر؛ إذ استند السرد الأيديولوجي السائد للإمبريالية البريطانية إلى تقسيم العالم إلى شعوب اعتبرتها "صحية" و"ملائمة" تتمثل في الطبقة الحاكمة والمتوسطة في العالم الناطق بالإنجليزية، وآخرين اعتبرتهم مرضى وغير لائقين ومنحطين؛ وبالتالي غير قادرين على حكم أنفسهم. لقد قدمت الرياضة -بحسب الكتاب- تبريرا أخلاقيا لتحول ثقافة الجسم البشري في القرن التاسع عشر.

في مقال نشره موقع "ذا كونفرسيشن" (the conversation)، قال الكاتب فرانسوا كليوفا -المحاضر في قسم تاريخ الرياضة بجامعة ستيلينبوش الجنوب أفريقية- إنه منذ تسعينيات القرن الماضي، ابتعدت دراسات الرياضة عن التركيز على دراسات الثقافة البدنية، وكان مجال دراسات الثقافة البدنية المزدهر -الذي تركز حول تشكيل الناس أجسادهم ثقافيا- متحيزا نوعا ما.

هذه الدراسات تميل إلى التركيز على تقوية الجسم، والحياة الصحية والجمال، وكل ذلك من منظور مركزي أوروبي. وهو ما نتج عنه تبني الناس العاديين -من دون أي فكر انتقادي- لمعايير السوق الحديث تجاه مفهوم الصحة الجيدة الذي يشمل اتباع الحميات الغذائية، وممارسة التمارين في صالات الألعاب الرياضية باهظة الثمن، وشراء الملابس الرياضية ذات العلامات التجارية المشهورة.

الرياضة: المجتمع والهوية

حسب الكاتب، تتعلق الرياضة أيضا بالمجتمع والهوية وتتشكل من الثقافة والسياسة والمقاومة، وتعتبر المقالات -التي جمعها في الكتاب الجديد الذي قام بتحريره- محاولة للتعرف على ما تم استبعاده من المشهد الرياضي.

ويقدم الكتاب فهمًا لتأثير التاريخ الاستعماري على الثقافة الجسدية في الماضي والحاضر. وعلى وجه الخصوص، تظهر الروابط بين الثقافة البدنية وتصور الهويات العرقية والثقافية على أنها "مختلفة"، ويأمل الكاتب أن يسهم المؤلف في زيادة الوعي بقيمة المشاركة الرياضية بما يتجاوز البطولات والميداليات الأولمبية.

سياسات الجسد

ينظر المشاركون في الكتاب إلى الرياضة والجسم البشري في سياق اجتماعي، ويستكشفون كيف تسهم الرياضة في أنظمة السلطة.

كتاب "تأملات نقدية في الثقافة البدنية على بوابات الإمبراطورية" صدر 2021 (الجزيرة)

تاريخيا، يرتبط مصطلح الثقافة البدنية بإظهار القوة والصحة واللياقة البدنية. ويشمل الألعاب رياضية، مثل الرغبي والكريكيت وكرة الشبكة (النت بول) والهوكي وتسلق الجبال المنظم وغيرها. انتشرت هذه الرياضات من أوروبا إلى أفريقيا ومناطق أخرى في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

وأكد الكاتب أن هذا الانتشار شكل جزءا من عملية الاستعمار الأوروبي. وأطلق على الفصل التمهيدي للكتاب عنوان "تمرين للتقليد.. حيث تتبنى الشعوب المستعمَرة العادات الثقافية للمستعمِر". ويدرس الكتاب ذلك الأمر بالكشف عن تاريخ علماء الثقافة البدنية الذين كانوا ممن عانوا من الاستغلال والقمع.

على سبيل المثال، يظهر الفصل الخاص برياضة تسلق الجبال في جنوب أفريقيا، الذي كتبته فريدة خان، كيف تتداخل الرياضة والبيئة والسياسة.

يتعامل الفصل مع استجابة الأندية الجبلية في كيب تاون للمشاهد السياسية المتغيرة بين عامي 1970 و1994 (حقبة نظام الفصل العنصري).

نموذج جنوب أفريقيا

وتسلط فريدة خان الضوء على الأسباب السياسية للمكانة التي يتمتع بها نادي ماونتن في جنوب أفريقيا باعتباره النادي الأول لتسلق الجبال في جنوب أفريقيا، فضلا عن العقبات السياسية التي تواجه الأندية التي خدمت المجتمعات المحرومة.

وسلط فصل آخر الضوء على رياضات رفع الأثقال وكمال الأجسام ويتحدث عن "تقليد" الشعوب المستعمَرة للممارسات المستوردة، التي كان لها تأثير مخالف لما قصده المستعمِرون، ويشرح كيف استخدم لاعب كمال الأجسام الجنوب أفريقي ديفيد إيزاك هذه الرياضة من أجل مواجهة الممارسات العنصرية.

ويتمثل القاسم المشترك بين جميع فصول الكتاب في استمرار الممارسات القائمة على عدم المساواة في المجتمع على الرغم من ظهور بعض الرياضات.

ويعد الفقر وعنف العصابات والجريمة والأسر المفككة من المشاكل التي يتعرض لها العديد من الرياضيين الأفارقة بشكل يومي. وبعد عقود من النهاية الرسمية للفصل العنصري، ما زالت منظمة مجتمعية مثل "فيت تو ران" (Fit2Run) تكافح من أجل معالجة مشاكلها المالية والثقافية.

وأشار الكاتب إلى أنه في الفصل الذي كتبه عن رافع الأثقال الجنوب أفريقي رون إيلاند (1923-2003) حاول التغاضي عن التطرق إلى المحفوظات الاستعمارية الأفريقية الرسمية.

وتجدر الإشارة إلى أنه تم العثور على كنز من المعلومات في مجموعة إيلاند الخاصة من الخطابات والمذكرات والكتيبات الرياضية ومقتطفات الصحف والتذكارات (بما في ذلك الملابس الأولمبية) والصور الفوتوغرافية.

في هذه المحفوظات الخاصة، تحدث رافع أثقال أفريقي عن إسهاماته الدائمة في المجتمعات الفقيرة وشغفه بالرياضة والتزامه بتعزيز تعليمه وهو ما يجعله نموذجا يحتذى به للشباب.

من جانبه، استخدم بول هندريكس بيانات من مجموعات خاصة لتسليط الضوء على رابطة المعلمين في جنوب أفريقيا والحركة الرياضية للمدارس غير العرقية في ويسترن كيب. وعبر إظهار العلاقة بين السياسة الراديكالية والرياضة المدرسية، كشف زيف الأسطورة القائلة إن "الرياضة توحد الجميع"، بحسب الكاتب.

وخلص الكاتب إلى القول إنه في هذا الكتاب حاول المؤلفون تسليط الضوء على مجموعة واسعة من الأصوات من جميع أنحاء العالم بهدف تحرير التاريخ العالمي من النماذج الأوروبية المركزية وكيف تم تشكيل الرياضة والثقافة البدنية بمرور الوقت من قوى اجتماعية وسياسية مختلفة.

المصدر : الجزيرة + ذا كونفرسيشن