إدغار موران: الأزمة التي نشهدها معرفية ونعيش في عصر تبلغ فيه القوة المطلقة والعجز البشري ذروتهما

يقول الفيلسوف الفرنسي إدغار موران (1921) إنه علينا أن ندرك جيدا أن علم المستقبل لا جدوى منه وأن المستقبل البشري سيكون مليئا بالمفاجآت والشكوك، لكن من المؤكد أن النزاعات البشرية ستظل متواصلة، ناهيك عن أنها تنذر بتفاقم العنف والجهل أكثر من تعزيز الوعي

الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران في مهرجان مراكش الدولي للسينما بالمغرب عام 2012 (الفرنسية)

في عام 1945 أنذرت القنبلة النووية التي ضربت هيروشيما بإمكانية إبادة الجنس البشري بأكمله تقريبا، وهو احتمال عززه انتشار الأسلحة النووية لاحقا، خاصة في الدول المعادية لبعضها البعض، وفي حالة نشوب حرب نووية عالمية لن تنجو سوى جزر قليلة، وهكذا لم تجعلنا هذه القوة سوى أكثر عجزا، بحسب فيلسوف فرنسي شهير بلغ 100 عام وعايش الحرب العالمية الثانية.

في النص الذي حرره لصحيفة "لوموند" الفرنسية يسلط الفيلسوف وعالم الاجتماع إدغار موران (ولد عام 1921) الضوء على القرن الماضي الذي "شهدت فيه القوة البشرية تطورا غير مسبوق وزاد معه في نفس الوقت إدراك مدى العجز البشري".

يقول موران -الذي يعد من أهم المفكرين في أوروبا اليوم وأحد علماء المستقبليات النادرين- إنه قبل التمحيص في الأزمة التي نعيشها منذ عام 2020 ثم النظر في نتائجها من المهم تحديد إطارها ضمن المرحلة الاستثنائية من حياة البشر التي بدأت منذ 75 عاما ووقعت فيها أحداث غير عادية كانت بدورها غير متوقعة، وخلال هذه الفترة تنامت القوة البشرية ولكن زاد معها في المقابل عجزها.

في عام 1972 حذر تقرير حدود النمو من تدهور الكوكب في محيطه الحيوي والاجتماعي، لتشهد السنوات الـ50 التالية انحداره المستمر، ولكن الوعي بهذا التهديد ينمو ببطء شديد ويظل غير كاف في ظل تواصل الإضرار بالغلاف الجوي والأنهار والمحيطات والأراضي التي باتت غير منتجة بسبب الزراعة الصناعية وتنامي الاحتياجات الغذائية والتلوث.

منذ عام 1980 انتشرت حركة "تجاوز الإنسانية" بين نخب التكنولوجيا والاقتصاد، ووعيا بإمكانيات القوى العلمية التكنولوجية الجديدة التي تجعل من الممكن تصور امتداد الحياة البشرية وتعزز قوة الإنسان استندت هذه الحركة وطورت الأسطورة الغربية المتمثلة في التحكم غير المحدود في العالم الخارجي والحلم الطوباوي (المثالي) بمجتمع متناغم من خلال استخدام الذكاء الاصطناعي وإلغاء الفوضى وبالتالي الحريات، وتنذر هذه الحركة بتحول كل من الإنسانية الفردية والاجتماعية إلى ما بعد الإنسانية أو فوق الإنسانية (سوبرمان)، بحسب صاحب نظرية التعقيد والفكر المركب.

العولمة المنفلتة

في 1989-1990 اكتسحت الرأسمالية الاتحاد السوفياتي السابق والصين الشيوعية، وإلى جانب الانتشار العالمي لوسائل التواصل الفوري خلقت العولمة ما يسمى مجتمع المصير لجميع البشر في كل القارات في مواجهة المخاطر المشتركة.

وفي الوقت نفسه، حدثت ما يمكن تسميتها الثورة النيوليبرالية أو الليبرالية الجديدة في بريطانيا العظمى والولايات المتحدة، والتي لم تدافع فقط عن اقتصاد السوق لحل جميع المشكلات الاجتماعية، بل أشادت أيضا بخصخصة وتسويق الخدمات العامة، بما في ذلك الرعاية الصحية، واختزلت دور الدولة في توفير الأمن.

انتشرت هذه الثورة في العالم بأسره، ونتيجة لذلك سيطرت قوة المال وأدت إلى تعقيد أزمة الديمقراطيات التي أفسدتها هذه القوة، فضلا عن أزمة الفكر السياسي الذي أُفرغ من كل مضمون وبات خاضعا للاقتصاد.

نحن نعيش اليوم ديناميكية علمية وتقنية واقتصادية وسياسية هائلة يحددها تطور غير خاضع لضوابط العلوم والتكنولوجيا، في ظل الزخم الجامح للقوى الاقتصادية، ورغبة الدول في توسيع نفوذها.

تراجع سياسي واجتماعي هائل

يبين الكاتب أن هذه الديناميكية تساهم في انحدار سياسي واجتماعي هائل يظهر فيه من يسمون رؤساء الدول "الشعبويين" وأنظمة استبدادية جديدة ذات واجهة برلمانية، فيما تتضاعف الوسائل التي تسمح بمراقبة المجتمع على غرار تقنيات التعرف على الوجه والتحكم في الاتصالات والأقمار الصناعية أو طائرات التجسس المسيرة.

في ظل هذه الظروف التي اندلعت بسببها ثورات في جميع أنحاء العالم قُمعت بشدة في بعض الدول، وفي هذه المرحلة من المخاطر والتحولات اندلعت الأزمة التي تسببت بها جائحة كورونا، والتي أصبحت على الفور أزمة عالمية ومتعددة الأبعاد لم يتمكن العالم من الخروج منها إلى الآن.

هكذا، تجلى ضعف العلم الذي لطالما اعتُبر في السابق مطلق القوة والنفوذ. وفي الوقت الحالي، ينتشر فيروس يمكن تحليل جزيئاته ومعرفة مما يتكون ولكن أصله لا يزال مجهولا وسلوكه غريب، ويصيب ضحاياه بأشكال مختلفة ويكون مميتا في بعض الأحيان.

ويشير موران إلى "أن العالم سيدرك لاحقا ما إذا كان البحث عن لقاح لم يبطئ البحث عن علاج، وما إذا لم يتم استبعاد بعض العلاجات تحت ضغط شركات الأدوية المحتكرة النافذة، بحسب الفيلسوف الفرنسي ذي الأصول اليهودية الإسبانية (السفارديم) المعروف بمواقفه المؤيدة لحق الفلسطينيين في إقامة دولة خاصة بهم.

الشيء المهم هو الاعتراف بأنه بغض النظر عن انتصارات التقنيات العلمية الأكثر دقة لن يتم القضاء على الفيروسات والبكتيريا أبدا، وذلك ببساطة لأن جزءا من العالم البكتيري حيوي حقا، خاصة بالنسبة لأمعائنا، ولأنها قادرة على التطور والتغلب على المضادات الحيوية، وهو ما يؤثر في الوقت نفسه على حلم الخلود الذي تؤسس له حركة تجاوز الإنسانية، وعلى هذا النحو يظهر لنا مدى ضعف علم نافذ للغاية.

عصر القوة والعجز البشري

في الوقت نفسه، يكشف الطابع الكوني متعدد الأبعاد للأزمة وتعدد ردود الفعل المتبادلة بين مكوناتها المحلية والعالمية عن العجز الفكري الذي نعاني منه وعدم القدرة على تصور الواقع البشري، ولا سيما في وقت الأزمات، وذلك بسبب عجزنا عن دمج جميع المعارف المشتتة والمجزأة في مختلف التخصصات، ولهذا السبب، نحن نعيش في عام 2021 مرحلة جديدة واستثنائية حيث تبلغ مفارقة القوة المطلقة والعجز البشري ذروتها.

ويرى الكاتب أن هذا العجز لا يعود إلى هشاشة الإنسان فحسب (أمام المصائب والموت والمجهول)، وإنما أيضا إلى الآثار المدمرة للقدرة الكلية العلمية والتكنولوجية والاقتصادية المدفوعة في حد ذاتها بالإفراط المتزايد في الرغبة في اكتساب السلطة وتحقيق الربح.

ويقول إن الفكر البشري القادر على ابتكار أكثر الآلات تعقيدا غير قادر على خلق أبسط يعسوب، هذا الذكاء القادر على إطلاق الصواريخ والمحطات الفضائية في الكون وابتكار ذكاء اصطناعي قادر على إنجاز جميع العمليات الحسابية لا يمكنه تصور مدى تعقيد الحالة البشرية.

غلاف كتاب العقل المحكم إدغار موران ترجمة المنصف وناس
ألف إدغار موران كتبا عديدة منها "العقل المحكم" و"الإنسان والموت" و"ثقافة أوروبا وبربريتها" و"عنف العالم" (مواقع التواصل)

الوصل أم الفصل المستحيل؟

متى سنعرف أن كل شيء مستقل ويعتمد على بيئته، بدءا من استقلالية الكائنات الحية التي يجب أن تجدد طاقتها من خلال إطعام نفسها للعيش والمعلومات للعمل، وصولا إلى الاستقلال الذي أتمتع به على جهاز الحاسوب الخاص بي الذي يعتمد في الوقت ذاته على الكهرباء والواي فاي؟

يجب أن ندرك أن أي شيء يمنحنا الاستقلالية تقنيا وماديا يمكن أن يستعبدنا في الوقت ذاته، مثل الذكاء الاصطناعي والآلات الصناعية، وعلينا ألا ننسى أن الأزمة التي نشهدها هي أزمة معرفية، حيث تحل المعلومات محل الفهم، فيما تتعرض المعرفة المعزولة للتشويه.

شكوك المستقبل

في ما يتعلق بالمستقبل، يقول الكاتب إنه علينا أن ندرك جيدا أن علم المستقبل لا جدوى منه، وأن المستقبل البشري سيكون مليئا بالمفاجآت والشكوك، لكن من المؤكد أن النزاعات البشرية ستظل متواصلة، ناهيك عن أنها تنذر بتفاقم العنف والجهل أكثر من تعزيز الوعي، ويظل سيناريو الحرب النووية بمثابة تهديد للإنسان المستقبلي وتذكير مستمر بالفناء.

ويتابع الفيلسوف الفرنسي "سيؤدي تفاقم الدمار الذي يلحق بالمحيط الحيوي والأرض إلى العديد من الكوارث الطبيعية والفيضانات والتصحر والتغيرات المناخية التي ستولد موجات الهجرة والصراعات، ولا سيما حول مصادر المياه وتوزيع موارد الطاقة والغذاء".

ومن المرجح أن يؤدي تطور الإنسان المعزز وتحوله إلى "إنسان خارق" (سوبرمان) بين نخب القوة السياسية والاقتصادية إلى خلق انقسام بين البشر الخارقين ونظرائهم العاديين، مما سينجر عنه في نهاية المطاف تنامي ممارسات الفصل العنصري.

حكمة 100 عام

وفي العام الماضي قدم موران -مع جائحة كورونا- قراءة نقدية للإنسان المعاصر ومستقبله، فأعاد ذلك أعماله السابقة إلى دائرة الضوء، ومنها معجم القرن الـ20 الذي توقع فيه الكثير، خاصة ما اتصل بإمكانية ظهور أوبئة عالمية نتيجة العدوى بسبب تحول الإنسان إلى كائن مرتحل طوال الوقت.

وتندرج أعمال موران كلها في خانة التنبيه الاستباقي ومحاولة إصلاح الإنسان بتعقب أخطائه التي قد تدفع به نحو نهايته، وضمن هذا الإطار يمكننا أن ننزل كتابه "العقل المحكم" الذي خصصه للتربية والتعليم، ونقله إلى العربية عالم الاجتماع التونسي الراحل المنصف وناس، وصدر حديثا عن معهد تونس للترجمة.

في كتابه "إلى أين يسير العالم؟" اعتبر إدغار موران أن التقدم لا يعني نفع الإنسانية، مدللا باستغلال الدول الكبرى التقنية الحديثة لصالحها، وعدم قضاء الإنسان على الوحشية، وتنبأ في كتابه بأن تاريخ العالم لن يتوقف عن العنف والصدمات، معتبرا أننا لا نزال نعيش قيم العصر الحديدي.

وفي أحدث أعماله "دروس قرن من الحياة" ينظر موران -الذي يحتفل هذه الأيام بعيد ميلاده الـ100- إلى الوراء، إلى المراحل الرئيسية في حياته لتسليط الضوء على الأخطاء وصعوبة فهم الحاضر، والحاجة إلى النقد الذاتي من أجل العيش معا بنجاح.

المصدر : لوموند