تأريخ جديد يغير ميزان القوى بين إثيوبيا وأوروبا في العصور الوسطى

تقول المؤرخة فيرينا كريبس إن أوروبا كانت بالنسبة للإثيوبيين أرضا غامضة وبربرية بعض الشيء لها تاريخ مثير للاهتمام، لكن الأهم من ذلك كان احتواءها على أمور مقدسة يمكن للملوك الإثيوبيين الحصول عليها

Medieval Ethiopian Kingship, Craft, and Diplomacy with Latin Europe 1st ed. 2021 Edition, Kindle Edition
كتاب "الملكية والحرف والدبلوماسية الإثيوبية في العصور الوسطى مع أوروبا اللاتينية" الصادر حديثا يتحدى الروايات التقليدية للعلاقات الأفريقية الأوروبية في ما يسمى "عصر الاستكشاف" (الجزيرة)

على امتداد قرون، تجاهلت النظرة الأوروبية المركزية العامة قوة الإمبراطورية الأفريقية ومعارفها.

وفي تقريرهما، الذي نشرته مجلة "سميثسونيان" الأميركية (Smithsonian)، قال الكاتبان الأكاديميان المختصان بالدراسات التاريخية ديفيد إم بيري وماثيو غابرييل إنه في مطلع عام 2020 عندما كان نطاق وحجم جائحة كورونا في توسع، ذهبت المؤرخة والكاتبة فيرينا كريبس لقضاء بضعة أشهر في منزل والديها في الريف الألماني. وكانت كريبس تنتظر إعلان قرار إغلاق البلاد، ولم تكن قلقة للغاية بشأن بقائها عاطلة عن العمل، حيث كانت بصدد إنهاء كتابها عن تاريخ إثيوبيا في أواخر العصور الوسطى.

كانت كريبس قد انتهت لتوها من إعداد نسخة كاملة من الكتاب ووقعت عقدا مع ناشر أكاديمي مشهور. لكن لسوء الحظ، لم تكن راضية عن الكتاب الذي ألّفته، فقد أدركت كريبس أن مصادرها تتعارض مع الرواية السائدة التي تشير إلى أن أوروبا تساعد إثيوبيا المحتاجة، المملكة الأفريقية التي تسعى بشدة لامتلاك التكنولوجيا العسكرية لمواكبة نظيراتها الأكثر تطورا في الشمال.

لكن كتاباتها لم تتطابق تماما مع بحثها، الذي ما يزال يتبع الثقافة السائدة. كانت كريبس قلقة أيضا من أن تأويلها لمصادر القرون الوسطى الأصلية كان مبالغا فيه أيضا. وبدلا من تعديل ما كتبت بالفعل، قررت كريبس أن تفعل ما يفعله المؤرخون الجيدون وتتتبع المصادر، فقالت "لقد حذفت النسخة الأولى التي قدمتها. وأعدت كتابة كل شيء من جديد. شرعت في الكتابة في شهر أبريل/نيسان، وأنهيت كل شيء بحلول شهر أغسطس/آب، على ما أعتقد".

سرد مغاير لأوروبا وإثيوبيا

اتضح فيما بعد أن الكتاب، الذي نُشر في وقت سابق من هذا العام بعنوان "الملكية، والحرفية، والدبلوماسية الإثيوبية في العصور الوسطى مع أوروبا اللاتينية"، كان تغييرا لسير الأحداث المعتاد الذي يركز تقليديا على أوروبا ويضع إثيوبيا على الهامش باعتبارها مملكة مسيحية متخلفة تكنولوجيا، ويعتبر السرد السائد أن إثيوبيا في العصور الوسطى اللاحقة تتطلع إلى أوروبا للحصول على المساعدة.

ولكن من خلال تتبع المصادر، تقدم المؤلفة صورة مغايرة تعرِض قوة إثيوبيا وشعبها في ذلك الوقت بينما تقدم أوروبا كما كان يُنظر إليها في شرق أفريقيا، باعتبارها كتلة متجانسة من الأجانب.

Timkat Ethiopian Orthodox celebration of Epiphany The 13th century rock-hewn churches of Lalibela are a religious pilgrimage destination and a UNESCO World Heritage Site. Timkat is the celebration of the Epiphany and celebrates the baptism of Jesus. It is best known for its ritual reenactment of baptism. During the ceremonies of Timkat, the Tabot, a model of the Ark of the Covenant, which is present on every Ethiopian altar (somewhat like the Western altar stone), is reverently wrapped in rich cloth and borne in procession on the head of the priest. (Photo by Wendy Stone/Corbis via Getty Images)
كنائس لاليبيلا المحفورة في الصخور الإثيوبية تعود للقرن الثالث عشر الميلادي وتصنف كموقع تراث عالمي لليونسكو (غيتي)

لا يعزى ذلك إلى أن المؤرخين المعاصرين لمنطقة البحر الأبيض المتوسط ​​وأوروبا وأفريقيا في العصور الوسطى كانوا يجهلون الاتصالات بين إثيوبيا وأوروبا، وإنما في أنه كانت لهم قوة ديناميكية معكوسة. بعبارة أخرى، تؤكد الرواية التقليدية أن إثيوبيا ضعيفة ومعرضة لعدوان القوى الخارجية، وخاصة المماليك في مصر، لذلك طلبت المساعدة العسكرية من إخوانها المسيحيين في الشمال- ممالك أرغون المتوسعة (في إسبانيا الحديثة) وفرنسا.

ويقول تقرير المجلة الأميركية إن بحث كريبس لا يغير الفهم السائد للعلاقة بين إثيوبيا والممالك الأخرى فحسب، بل ينضم إلى مجموعة من دراسات أفريقيا العصور الوسطى التي تدفع علماء أوروبا العصور الوسطى إلى توسيع نطاق بحثهم وتخيل عالم من القرون الوسطى أكثر اتصالا وثراء.

في رواية كريبس، أقام الملوك السليمانيون -الذين حكموا الحبشة لقرون حتى عام 1974 بعد قيام انقلاب وسقوط الإمبراطور الأخير هيلا سيلاسي- روابط عابرة للأقاليم، لقد "اكتشفوا" ممالك أوروبا في أواخر العصور الوسطى، وليس العكس. وفي مطلع القرن الـ15، بادر الأفارقة بإرسال سفراء إلى أراضٍ غريبة وبعيدة، حيث سعوا للحصول على المعالم والآثار المقدسة من القادة الأجانب التي من شأنها أن تكون بمثابة رموز للهيبة والعظمة.

في بداية ما يسمى بعصر الاستكشاف، وهو سرد يصور الحكام الأوروبيين باعتبارهم أبطالا لإرسال سفنهم إلى أراض أجنبية، وجدت كريبس دليلا على أن ملوك إثيوبيا كانوا يرعون مهامهم الدبلوماسية والعقائدية والتجارية.

تاريخ مبكر للمسيحية

لكن تاريخ إثيوبيا في العصور الوسطى يمتد إلى ما هو أبعد بكثير من القرنين الخامس عشر والسادس عشر، فقد كان مترابطا مع البحر الأبيض المتوسط الأكثر شهرة منذ بداية توسع الديانة المسيحية. وعلى حد تعبير كريبس، فإن "(مملكة إثيوبيا) تعد واحدة من أقدم الممالك المسيحية في العالم". (تحولت) أكسوم، المملكة السابقة لما يُعرف الآن باسم إثيوبيا، "إلى المسيحية في مطلع القرن الرابع"، وذلك في وقت أبكر بكثير من الإمبراطورية الرومانية، التي تحولت إلى المسيحية فقط بحلول القرن السادس أو السابع.

على وجه التحديد، تأسست السلالة السليمانية في عام 1270 بعد الميلاد تقريبا في مرتفعات القرن الأفريقي، وتمكنت من ترسيخ سلطتها تماما بحلول القرن الخامس عشر. يستند اسمها إلى ادعاء الأفراد المنتمين إليها بنسبهم المباشر للملك النبي سليمان -عليه السلام- من فرع منبثق من علاقته المزعومة بملكة سبأ.

وخلال فترة بروزهم، نجح ملوك هذه السلالة في التغلب على كل ما واجهوه من تهديدات خارجية، وعملوا على توسيع حدود المملكة، وأقاموا علاقات غير مستقرة يغلب عليها الطابع السلمي مع الدولة المملوكية في مصر شمالا، مثيرين دهشة أوروبا المسيحية.

وتشير كريبس إلى أن الحكام الإثيوبيين آنذاك كانوا ينظرون إلى ماضي حضارة أكسوم بشيء من الحنين، "شهدت (البلاد) ما يشبه عصر النهضة، حيث كان الملوك المسيحيون الاثيوبيون يعودون إلى العصور القديمة المتأخرة ليعيدوا إحياء النماذج العتيقة في الفن والأدب، وجعلها مُلكًا لهم". وإلى جانب الاستثمار في ثقافة مشتركة للفن والأدب، اتبعوا كذلك نموذجًا قديمًا استخدمه الحكام عبر البحر الأبيض المتوسط، وفي جميع أنحاء أوروبا وآسيا وأفريقيا، وهو التركيز على الدين.

اعتزم هؤلاء الملوك بناء الكنائس، وتواصلوا مع المسيحيين الأقباط الذين يعيشون في مصر تحت حكم المماليك المسلمين، وقدموا أنفسهم في دور الحماة. وعلى هذا النحو، أسس ملوك السلالة السليمانية في إثيوبيا مملكة ضخمة متعددة اللغات والأعراق والأديان، لتصبح بمثابة إمبراطورية حقيقية.

"أوروبا البربرية"

تقول كريبس إن أوروبا كانت بالنسبة للإثيوبيين أرضًا غامضة وبربرية بعض الشيء لها تاريخ مثير للاهتمام، لكن الأهم من ذلك كان احتواءها على أمور مقدسة يمكن للملوك الإثيوبيين الحصول عليها.

وتضيف أن (الإثيوبيين في العصور الوسطى) كانوا على اطلاع أشمل بالمسيحية اليونانية والسريانية والأرمنية، والقبطية، وجميع الكنائس الأرثوذكسية والأرثوذكسية المشرقية، لكن ذلك لم ينطبق على المسيحية اللاتينية، حيث كانت معلوماتهم بخصوصها مقتصرة على وجود البابا فحسب.

ذكر الكاتبان أن كريبس تقرّ بالتحديات المنطوية على كونها أوروبية تحاول إعادة كتابة التاريخ الإثيوبي. ويؤكد على ذلك مؤرخ العصور الوسطى بجامعة تينيسي نوكسفيل الأميركية فيليج سلام ييرغا الذي يقول إن كريبس أدركت أن "الاتصالات الدبلوماسية الإثيوبية مع أوروبا (كانت) أكثر تعقيدًا بكثير (مما كان مفهومًا حسب الرواية التقليدية)".

ويضيف أن الكثير من دراسات إثيوبيا وأوروبا في العصور الوسطى المتأخرة "كانت مستوحاة من المشهد الاستعماري و(القرن العشرين) الفاشي".

شددت كريبس على ذلك أيضا بقولها إن تتبُّع المصادر الأقدم أدى غالبا إلى طريق مسدود في الكتابات التي انبثقت من إيطاليا في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، أي في ظل الفاشية والطموحات الاستعمارية التي بلغت ذروتها في الحرب الإيطالية الإثيوبية الثانية عام 1935.

لكتاب كريبس تأثير يتعدى حدود الأوساط الأكاديمية، إذ يشير سليمان جبريس بييني، وهو باحث من إثيوبيا يعمل حاليا في جامعة هامبورغ، إلى أن "معظم عامة الإثيوبيين الذين أكملوا المرحلة الثانوية وحتى الجامعة قد عُلّموا أن إثيوبيا اتبعت سياسة الباب المغلق في العصور الوسطى"، أو سعت للحصول على المساعدات العسكرية والأسلحة من الشمال في أكثر لحظاتها يأسا. وقد يكون ذلك سبب قصور الحديث عن إثيوبيا العصور الوسطى. لكن الكتاب يغير كل ذلك من خلال إسدال الستار عن الفترة "وتمكين العلماء الإثيوبيين وعامة الناس من معرفة المزيد عن التاريخ الدبلوماسي المجيد لإثيوبيا العصور الوسطى"، على حد قول بييني.

كما يعرب الباحث عن تقديره لابتعاد كتاب كريبس عن المركزية الأوروبية، ليتناول التاريخ من منظور إثيوبي. وهذا يقدم مساهمة مجيدة أخرى في مجال التأريخ الإثيوبي في العصور الوسطى.

وتؤكد كريبس أن الكتاب لا يهدف لتغيير التاريخ الإثيوبي فحسب، بل أيضا ضمان دمج قصتها مع سرديات أخرى رويت عن العصور الوسطى العالمية. وينجم عن ذلك تغير في مجرى تحليل ودراسة التفاعلات الأفريقية الأوروبية، لأن المصادر تدل على أن عالم القرون الوسطى كان أوسع بكثير مما يعتقده الكثيرون.

المصدر : الصحافة الأميركية + مواقع إلكترونية