درب الدموع والآلام.. مجزرة الأميركيين السود في "وول ستريت الأسود"

مذبحة تولسا عام 1921 التي تعرف باسم "وول ستريت الأسود" (غيتي)

أحيا الرئيس الأميركي جو بايدن -خلال زيارته إلى تولسا بولاية أوكلاهوما مطلع الشهر الجاري- ذكرى مئوية إحدى أعنف وقائع الإعدام في تاريخ البلاد، وهي المذبحة التي قتل فيها مئات المواطنين من أصل أفريقي، ولا يزال الناجون منها يطالبون بتعويضات لم تمنح لهم حتى الآن.

وقبل زيارة بايدن عندما انتشرت المسلسلات التلفزيونية Watchmen (2019) وLovecraft Country (2020) وأعادت وقائع الحدث التاريخي المعروف الآن باسم مذبحة تولسا، شعر الأميركيون من جميع الأعراق بالذهول من أن قصة وحشية جدًا ومهمة للغاية قد ضاعت في التاريخ، وضاعت معها قصة النجاح الاقتصادي الأسود الذي دمرته العنصرية البيضاء بطريقة دموية.

تدمير أغنى مجتمع أسود

وفي مقالها بموقع الجزيرة الإنجليزية، كتبت ألينا روبرتس الأكاديمية بقسم التاريخ في جامعة بيتسبرغ معتبرة أن قلة فقط هم الذين كانوا يعرفون تفاصيل القتل الجماعي للسود على يد حشود من البيض فيما كان يُعتقد ذلك الوقت أنه أغنى مجتمع أسود بالولايات المتحدة.

وتقول الكاتبة "كما هو الحال غالبًا، فإن التاريخ أكثر تعقيدًا مما يبدو" وتتساءل "لماذا كان هناك الكثير من الأميركيين الأفارقة في تولسا، أوكلاهوما مطلع القرن العشرين؟ لماذا تمكنوا من تحقيق هذا النجاح في فترة زمنية، أواخر القرن 19 وأوائل القرن العشرين؟".

وتناقش الأكاديمية الأميركية في كتابها "لقد كنت هنا طوال الوقت.. الحرية السوداء في الأرض الأصلية " قصة حي تولسا المعروف باسم "بلاك وول ستريت" معتبرة أن القصة لا يمكن فهمها بدون معرفة بدايتها كمدينة هندية (نسبة للهنود الحمر) مأهولة بسكان من "العبيد" السود السابقين، إذ استخدم العبيد المحررون الأرض التي حصلوا عليها من خلال الحكومة الأميركية لبناء حياة مزدهرة لأنفسهم، وجذب الأميركيين الأفارقة من الولايات المتحدة.

وإذ يوافق الشهر الجاري الذكرى المئوية للمذبحة، تدعوا الكاتبة لتصحيح تاريخها ودراسته لتكوين الوعي بأحداثها المؤسفة في الوقت الراهن.

وتعيد ذكرى تولسا إلى الأذهان حادثة إعدام مئات الأميركيين من أصل أفريقي في أوكلاهوما يومي 31 مايو/أيار وأول يونيو/حزيران 1921، بعد أن أعاد المسلسل الأميركي "الحراس" (Watchmen) صياغة ساعاتها الرهيبة على الشاشة الصغيرة عام 2019 ليذكر بأبشع مذبحة تم تجاهلها طويلا، قبل أن يسلط عليها الضوء تقرير لجنة التحقيق الذي صدر عام 2001.

درب الدموع والآلام

أواخر عشرينيات وأوائل ثلاثينيات القرن 19، عندما شرع أفراد قبيلة شيروكي (من الهنود الحمر أو السكان الأصليين) في السير على طريق "درب الدموع" المرتبط بتهجيرهم، بعد أن تم سلبهم أراضيهم في جورجيا وألاباما وكارولينا الشمالية وتينيسي، حيث كان شعب الشيروكي يطلق على هذه الأراضي "الوطن" لآلاف السنين.

ولم يكونوا وحدهم، إذ جلب عدد قليل من أفراد القبائل معهم النساء والرجال السود المستعبدين الذين ساعدوا في تخفيف أعبائهم وأداء العمل البدني ومهام أخرى، بحسب المؤرخة الأميركية.

وبحلول عام 1860، كان هؤلاء المستعبدون يشكلون حوالي 15% من شعب الشيروكي. وقام أعضاء من 4 شعوب أخرى تملك العبيد برحلة مماثلة لما كان يُعرف آنذاك باسم الإقليم الهندي (جزء من أوكلاهوما الحديثة).

وبعد أن قاتل أعضاء من جميع الشعوب الخمسة على جانبي الحرب الأهلية عام 1866، ردت الولايات المتحدة بإجبار هذه الشعوب على تحرير العبيد، ومنحهم جميع حقوق وامتيازات المواطنة، ومنحهم مخصصات من الأراضي.

استقر هؤلاء العبيد المحررون في أماكن مختلفة، وبقي الكثير منهم في ما سيصبح تولسا لإنشاء مدن ومجتمعات، بعضها من السود والبعض الآخر من مزيج من الأعراق. أواخر تسعينيات القرن 19، اكتشف الأميركيون البيض النفط وأصبحت تولسا على نحو متزايد مركز المضاربين، وجذبت العديد من المستوطنين الأميركيين.

وفي هذه المدينة التي ازدهر فيها مجتمع السود بفضل الثروة النفطية، كان يعيش 10 آلاف أميركي من أصل أفريقي، بينهم العديد من التجار والمحامين والأطباء.

وبحسب الكاتبة، لم يعجب سكان تولسا البيض بهذا، وكانت الغيرة حاضرة بوضوح، بعد أن توافد الأميركيون من أصل أفريقي إلى تولسا بسبب الحياة والفرص الواعدة، وكانوا متحررين من عنصرية تفوق البيض في مساحة تسود فيها نظم الحكم القبلية، وكان هذا هو السياق الذي جعل استثناء "بلاك وول ستريت" ممكناً. لكن مذبحة تولسا كانت بمثابة تذكير قاتم بأنه أينما ذهب المستوطنون البيض كان غضبهم من نجاح السود ووجودهم واقعا لا ريب فيه.

حادثة المصعد

حسب سرد صحيفة "لوفيغارو" (Le Figaro) الفرنسية، تبدأ الأحداث التي سوّي في أثنائها حي بكامله بالأرض وقتل فيها نحو 300 من السكان، معظمهم من الأميركيين الأفارقة، عندما تعثر ملمّع الأحذية ديك رولاند (19 عاما) في المصعد -وهو في طريقه إلى أقرب منزل به مرحاض مخصص للسود بالطابق العلوي- فداس على قدم المشغلة أو أمسك بذراعها حسب الإصدارات الموثقة في تقرير جمعية أوكلاهوما التاريخية.

صرخت الفتاة البيضاء سارة بيج (17 عاما) من الألم أو الخوف، في حين كان يمكن أن يكون حادثا عرضيا، ولكن الأمور أخذت منحى دراميًّا، فقبض على الشاب اليوم التالي وأودع في سجن المحكمة، وبعد الظهر نشرت صحيفة "تولسا تريبيون" (Tulsa Tribune) المحلية تقريرا عن الحادث واتهم ديك رولاند بالاعتداء الجنسي على الفتاة.

انتشرت الشائعة في المدينة كالنار في الهشيم، فتجمع رجال البلدة البيض أمام المبنى، وبدأ القلق بشأن مصير الشاب يساور مجتمع السود، فالتقى الرجال السود، بمن فيهم قدامى المحاربين بالحرب العالمية الأولى، بدورهم، أمام السجن لحماية الشاب، خاصة أن هذه لم تكن أول عملية إعدام جماعي بهذه المدينة التي تتمتع فيها جماعة "كو كلوكس كلان" العنصرية بالقوة.

وفجأة -كما تقول الصحيفة- تنفجر طلقات نارية وتبدأ أعمال شغب بعنف لم يسمع بمثله، قتل الرجال والنساء والأطفال، واشتعلت النيران في كنيسة لجؤوا إليها. وحسب ما نقلته الصحافة الفرنسية يوم الثالث من يونيو/حزيران بلغة ذلك الزمن، جاء في إحدى المراسلات أن "واحدة من أكثر أحداث الصراع مأساوية وقعت في كنيسة للزنوج، حيث تحصن نحو 50 زنجيا، وصدّوا اعتداءات عدة. لكنهم أخيرا، بعد أن أشعل المحاصرون النار في الكنيسة، اضطروا إلى إخلائها وغطوا انسحابهم بنيران كثيفة إلى حد ما، وقتل عدد من الزنوج. وتعتقد الشرطة أن كثيرا من الزنوج احترقوا في البيوت على أيدي البيض".

قامت السلطات بإحصاء بضع عشرات من القتلى، ونزعت القوات الفدرالية سلاح البيض، لكنها اعتقلت من تعدّهم مثيرين للشغب من أصل أفريقي، وبدا كأن المدينة تريد أن تنسى الحادث، إذ انطلق سكان غرينوود في إعادة بنائه.

وقد ذكرت "الحدث" (L’Action) الفرنسية أرقاما أكبر مما أحصته السلطات، إذ تقول "المعركة التي وقعت في تولسا بأوكلاهوما، في أعقاب هجوم زنجي على امرأة بيضاء شابة، تركت المدينة كومة من الخراب، وتركت 15 ألف زنجي بلا مأوى، وقُتل فيها 9 من البيض و65 من الزنوج، ويقال إن هذا الرقم أقل من الواقع، كذلك أصيب 100 من البيض وأكثر من 200 من السود. وأعلنت حالة الطوارئ".

وحسب الصحيفة فإن الأحداث تشير في الواقع إلى 300 قتيل، معظمهم من الأميركيين الأفارقة، وقد ألقيت كثير من الجثث في النهر، وكشفت الحفريات الأخيرة عن بقايا بشرية في مقبرة تولسا يمكن أن تكون لضحايا من عام 1921.

المصدر : الجزيرة + الصحافة الفرنسية + لوفيغارو