هل ساهمت الرواية العربية المعاصرة في كتابة تاريخ جديد؟

الرواية العربية التاريخية استطاعت نسبيا -رغم الهامش الضيق- أن تعطي للقارئ رؤية مختلفة للتاريخ الكلاسيكي الذي نعرفه ونقرؤه في كتب التاريخ بحسب الروائي المغربي مصطفى الحمداوي

الناقد المغربي حسام الدين نوالي (يمين) ويليه الروائي الفلسطيني أكرم مسلم، ثم الروائي العراقي مصطفى الحمداوي، وإلى يساره الروائي العراقي شاكر الأنباري (مواقع التواصل الاجتماعي)

امتازت العلاقة بين الرواية والتاريخ بسمات عديدة، فالرواية أكثر الأجناس الأدبية احتواء للتاريخ واستكناه عوالمه وإعادة تخييله من جديد بالطريقة التي يغدو فيها هذا التاريخ متخيلا، لكنه لا ينفصل عن الواقع في آن واحد. كل هذا يعود إلى رتابة السرد وحدة الحكي التي تميز الكتابة الروائية، بحكم قدرتها على تناول القضايا الكبرى التي تمر من المجتمعات العربية قديما وحديثا.

وبسبب قدرة الرواية وجرأتها وقدرتها في التنقيب والحفر في متخيل ومكبوت المجتمعات، فإنها ظلت قادرة على التقاط تفاصيل صغيرة من حياة هذه المجتمعات وتحويلها إلى أعمال رواية، كما تبلورت ملامحها داخل بعض التجارب العربية مثل عبد الرحمن منيف وصنع الله إبراهيم ونجيب محفوظ وغيرهم.

فهذه الروايات استطاعت أن تقدم للقارئ تاريخا مغايرا على التاريخ الرسمي الذي تصنعه السلطة، فهي قادرة على تكسير محرماته واختراق بنيته وتركيبية مجتمعه بجرأة، لكن دون أن تتخلى هذه الكتابات الأدبية عن نسق الكتابة الروائية وجمالياتها، حيث لم تلتفت إلى الأبعاد التقريرية التي تسم الكتابة التاريخية، مع أن هذا "التقريري" أو الوقائعي حاضر في ثنايات الرواية، لكن بوصفه متخيلا روائيا يمتح عناصره وملامح وجوده من التاريخ.

وعن العلاقة بين الرواية والتاريخ وإلى أي حد أسهم المنجز الروائي في كتابة تاريخ عربي جديد أكثر جرأة وانفلاتا من سطوة التقاليد؛ كان للجزيرة نت هذا التقرير الخاص مع كوكبة من الروائيين والنقاد العرب.

"الروايات سجّلت تاريخا حقيقيا للأحداث"

شاكر الأنباري.. روائي عراقي

يقول الروائي العراقي إن الرواية العربية اتجهت في العقود الأخيرة إلى تناول إشكاليات الفرد ضمن مجتمع محدد زمانيا ومكانيا، مبتعدة بوضوح عن الشعارات الكبرى والبلاغة الإنشائية والافتعال. وبهذا المعنى استطاعت أن ترفع ما يجري في الواقع اليومي من حوارات وهموم وآلام إلى برزخ اللغة غير المتعالية، مما انعكس ايجابا على توسّع الآفاق المعرفية والاجتماعية والسياسية في النص المكتوب روائيا. وبهذا تجذّرت البيئة المحلية والوعي الفردي وانعكاسات الأحداث الكبيرة في حركة الأفراد ضمن المساحة الزمانية الممنوحة لهم.

الروائي العراقي شاكر الأنباري كتب روايات "الكلمات الساحرات" و"بلاد سعيدة" و"نجمة البتاوين"(مواقع التواصل الاجتماعي)

ويتابع الأنباري "شاهدنا موجة روائية عارمة بأساليب ومضامين هائلة التنوع، حملت معها ما يرزح تحته الفرد أو الشخصية من تأثيرات الحروب والنزاعات الأهلية والأزمات الاجتماعية من تنافر ديني ومذهبي وعنف موجّه مقصود ومبرمج وهجرات نحو قارات أخرى أكثر هدوءا وتصورات مغايرة لما تخططه الجهات الحاكمة أو المهيمنة دينيا وسياسيا وثقافيا".

أي أن الروايات الخارجة من رحم المجتمعات العربية راحت تسجّل تاريخا حقيقيا للأحداث، تاريخا تفصيليا تهمله أو تتغافل عنه المدونات الرسمية للتاريخ الحديث. وكان القاع المجتمعي المسكوت عنه سابقا في المتن الروائي فاقعا ساخنا وصادما بعض الأحيان، وهذا ما يعتبر تطورا هائلا في نمط الكتابة الروائية في العالم العربي، بحسب الأنباري.

ويعتبر الروائي العراقي أن الابتعاد عن القضايا الكبرى ذات "المانشيتات" العريضة المتصدّرة في المدونات التاريخية، والبحث عن قصص وحكايات الضحايا والمهمشين، صنّاع التاريخ الحقيقيين؛ كل ذلك جعل للرواية العربية نكهة وهوية ووظيفة معرفية هائلة، فعن طريق قراءة تلك اللوحات الشاملة من شخوص وأحداث وتداعيات جوّانية وأحلام محبطة، يستطيع أي ناقد أو باحث اجتماعي أو مبرمج لمستقبل بلد ما الوقوعَ بسهولة على حقيقة ما يمور ويتفاعل خارج تلك المانشيتات البرّاقة، وبالتالي فكل ذلك يصنع تاريخا حقيقيا لمرحلة ما، تاريخ قرئ زورا من آخر بعيد أو من سلطة مهيمنة بأنواعها.

ويضيف "إن معظم الروايات الخالدة في الوعي البشري تغذت على هذه الرؤية في الكتابة، وأعتقد أن ضغط ما هو ملموس وواقعي في الحياة اليومية وتنامي العقلية العلمية المنافية للأساطير والغيبيات والمسلّمات العتيقة، هو ما دفع بالكتّاب الحقيقين والمبدعين الجادين إلى تجاهل التاريخ الرسمي السلطوي المهيمن وتدوين تاريخ الفرد البسيط والحالم الساعي إلى شروط حياتية عادلة وجميلة، في تناغم جليّ مع ما وصلته البشرية من تطور في العلوم، والبحوث الاجتماعية والفلسفية والجمالية، وحقوق الإنسان".

إلا أن هذه المسيرة في تحولات الكتابة لا يمكن لها أن ترسّخ أقدامها في البيئة الكتابية العربية دون تلك الموهبة الخلاقة للمبدع صاحب الخيال المحلّق والباحث عن فسحة الجمال المتمثلة بالنص الروائي الناجح، والمؤثر على القارئ الملامس لوجدانه بعمق، يختم الأنباري.

"التاريخ نوع من السرد"

مصطفى الحمداوي.. روائي مغربي

هناك شبه التباس موضوعي يطال دائما علاقة الرواية بالتاريخ، بحسب الروائي المغربي مصطفى الحمداوي، ذلك لأن التاريخ يعد في حد ذاته نوعا من السرد "المستقل" الذي يتقاطع على نحو دائم مع السرد الروائي، والشيء نفسه يمكننا إسقاطه على الرواية في تناولها للتاريخ. لقد استطاعت الرواية العربية -إلى حد ما- التوفيق بين الرواية التوثيقية والرواية التاريخية.

ويستدرك الحمداوي "في المقابل هناك الكثير من الروايات العربية التي صُنفت بالخطأ على أنها روايات تاريخية، على حين أن تلك الروايات كُتبت بصيغة توثيقية بعيدة عن المفهوم الواضح للرواية التاريخية. ولتحديد المسافة الفاصلة بين التوثيق والتأريخ يمكننا ببساطة -وهنا المفارقة- ملاحظة أن الرواية التاريخية المحض هي التي تأخذ شيئا قليلا من التاريخ، وتطلق العنان للخيال ليتدخل في الجزئيات غير المؤثرة على الأحداث التاريخية الحقيقية".

ويتابع القول إننا -في المقابل- نجد الرواية التوثيقية تشتغل بالكامل على الأحداث التاريخية، وتكاد تخلو من الخيال. ورغم هذا الالتباس الحاصل يمكننا الحديث عن روايات تاريخية عربية فرضت وجودها بقوة في المشهد الروائي العربي.

ومن هنا نرى أن الرواية العربية التاريخية استطاعت نسبيا -رغم الهامش الضيق- أن تعطي للقارئ رؤية مختلفة للتاريخ الكلاسيكي الذي نعرفه ونقرؤه في كتب التاريخ، بحسب الروائي المغربي.

ويقول الحمداوي "إنني أرى شخصيا أن الاشتغال على الرواية التاريخية أصبح ضرورة أكثر منه مجرد تنويع في المشهد الروائي العربي، لأن التاريخ ليس مجرد توثيق لأحداث وتواريخ فقط، بل هو تفكيك جذري للذاكرة الجماعية وإعادة تركيبها وفق ضوابط سردية تراعي آليات وميكانيزمات فن الرواية وهويتها الأصيلة التي لا ينبغي أن تسلم نفسها مجانا للتاريخ".

"الكاتب يصنع التاريخ بكتابته"

أكرم مسلّم.. روائي فلسطيني

يقول الروائي الفلسطيني أكرم مسلّم إنه لا يوجد شيء اسمه "التاريخ"؛ بل توجد تواريخ. اعتدنا فهم التاريخ على أنه تحقيب الأحداث المسرودة في كتب تسمي نفسها كتب تاريخ. إن كل تفاعل إنساني في المكان والزمان هو فعالية تاريخية، حتى الكاتب عندما يمسك القلم ليكتب فهو يصنع التاريخ بكتابته، ويصبح جزءا من "اللعبة"، جزءا من علاقات القوة التي تحكم الكتابات التاريخية، عبر أداتها "اللغة" وهي أداة أيضا غير محايدة ومحملة بثقل الواقع ومحمولة على شروطه، بحسب الروائي الفلسطيني.

ويرى صاحب "سيرة العقرب الذي يتصبب عرقا" أن أي تاريخ مادة للعمل الإبداعي، ويتعلق الأمر بطريقة التناول وبخيارات الكاتب، و"شخصيا أعتقد أن الأكثر جاذبية في "التواريخ" هو غير المرئي والمُهمل وغير المسموع. تترك الحروب الكبرى بصمات عميقة على أناس عاديين، تفكك أمكنتهم وتغير مسارات أزمنتهم وتكبدهم خسارات مذهلة، أحب العمل هنا والإضاءة على هذه الخسارات ورتق الخراب، بما يعدّل ميل علاقات القوة في الواقع وفي التاريخ الرسمي المكتوب".

ويتابع صاحب "بنت من شاتيلا" أنه في حالة الاستعمار المسؤولية أعلى، لأن سرد الحكاية مسألة وجود وليس "مواصفات" وجود، ولأن "مطحنة" الجلاد أكثر جبروتا، ولأن المحو التام وإبقاء الجماعة المستعمَرة خارج "التاريخ" وخارج الجغرافيا هو المسألة، لكن مطلوب من الإبداع تحقيق ذاته بمحددات جمالية، فالانحياز الأخلاقي لسرديات عادلة لا يعفيه من مسؤوليته الجمالية.

"كل الروايات هي روايات تاريخية"

حسام الدين نوالي.. ناقد مغربي

يقول الناقد المغربي حسام الدين نوالي إنه ينبغي فهم الأعمال الفنية -ومن ضمنها التخييل الروائي- باعتبارها إجابات مفترضة عن أسئلة يحملها الكاتب أو جيله أو جماعته. والكتابات الروائية جميعا تلتقي عند نقطتين؛ فهي من جهة تستند إلى الزمن لتطوّر الأفعال، وبالتالي للوقائع، ومن ثمة للمادة الحكائية، ثم من جهة ثانية تتوجه إلى كائن ذي شرطية تاريخية يؤطرها الزمن الوجودي التاريخي وتاريخ قراءاته. وبهذا المعنى فإن كل الروايات هي روايات تاريخية.

ويستدرك نوالي "لكن ينبغي أن نفصل بين هذا المستوى العام ومستوى آخر يتعلق بالتاريخ المروي كما في أعمال "جرجي زيدان"، وفي الحالتين الرواية ليست لها صلة حقيقية بالوقائع والأحداث التاريخية إلا من باب التخييل، وبالتالي من باب الافتراض، إذ الاشتغال عليها ليس إلا جزءا من استثمار قوانين الحياة والإحالة المرجعية لتحقيق الإقناع بالواقعية؛ ولهذا فإن علاقة الرواية بالعصر التاريخي ليست علاقة حصرية، وإنما تظل منفتحة على الإنسان كله خارج حدود الزمن والمكان، ويمكن تلقيها وتذوقها حتى خارج هذه الحدود، وبشكل أرحب يتصل بالمشترك الإنساني العام الذي تشتغل في إطاره كل الأشكال الفنية والتخييلية".

ويضيف "تلقيها باعتبار أنها مواد حقيقية هو خروج من لبّ ومدار الممارسة الفنية والروائية. إن الوقائع التاريخية -عموما- هي مواد حكائية تم الاحتفاظ بها وتداولها لأسباب عديدة، أي أن بقاءها -دون غيرها من الوقائع الأخرى- هو نتاج انتقاء معيّن، ومن المفترض أن يجد هذا الانتقاء أيضا أسباب إعادته لاحقا باعتبار مواصفات معيّنة متوفرة فيه. فالروائي يعيد الانتقاء، لكنه يملأ الفراغات، ويعدّل ويصوّب، وربّما يعيد ترتيب الأحداث فيلغي ويتجاوز ويضيف من أجل صياغة جديدة للمسار الذي خطته الحضارة العربية".

على هذا الأساس، فإن الرواية تقترح تشكيلا جديدا للوعي مثلما تقترح مسارات مغايرة للحضارة، وليس فقط مساءلة الماضي، بحسب الناقد المغربي، ثم إن التاريخ بهذا المعنى لا يتقاطع فقط مع الرواية في استنادهما معا للسرد والمادة الحكائية، وإنما يتداخلان لأنهما يشغّلان معا الفراغات المفضية للاختلاف والتعدد واللانهائي، كما يمنحان معا التخييل والغرائبي وتجاوز الممكن.

وبالتالي فإن كليهما لا يكتفي بذاته، بل يمكن للرواية أن تستحضر التاريخ وتعيد صياغته وفق قضاياها وخطاباتها الآنية، وبالتالي تعيد تصحيح الفهم وتشكيل الوعي الجديد وبناء تاريخ مغاير، مثلما يمكن للتاريخ أن يتدخّل في صناعة الفكر الراهن عبر مسيرة التلقي والفهم والتأويل التي يخضع لها، يختم نوالي.

المصدر : الجزيرة