إعلان بيروت العمراني: معماريون يتأملون ما بعد الانفجار

إن قصة بيروت وعمرانها ومرفأها وتراثها الثقافي والاجتماعي شغلت أكثر من 30 معماريا وأكاديميا اجتمعوا على مدار يومين ليناقشوا تراث المدينة العمراني.

مرفأ بيروت الموقع الرسمي لمرفأ بيروت، ألبوم صور تاريخية للمرفأ http://www.portdebeyrouth.com/index.php/en/history ف
صورة لميناء بيروت قد تعود لمنتصف القرن الـ20 (الموقع الرسمي لمرفأ بيروت)

ترك انفجار مرفأ بيروت في أغسطس/آب الماضي فجوة كبيرة في ذاكرة المكان وسكّانه، وخلّف مساحات من الدمار وجرحا مفتوحا من الجهتين على بحر المدينة وقلبها. تزامن الانفجار المروّع مع أزمة اقتصادية وسياسية تركت آثارها الرهيبة على النسيج الثقافي والاجتماعي والمكاني للمدينة، التي يتجاوز عمرها 5 آلاف عام.

إن قصة بيروت وعمرانها ومرفأها وتراثها الثقافي والاجتماعي شغلت أكثر من 30 معماريا وأكاديميا اجتمعوا ليومين في مؤتمر "إعلان بيروت العمراني"، الذي أقيم مطلع هذا الأسبوع، بتنظيم من بيت المهندس ونقابة المهندسين اللبنانيين إلى جانب جهات مختلفة من جامعات ومؤسسات رسمية وغير رسمية.

عالج المؤتمر عدة محاور نظرية وعملية منها تاريخ وهوية المدينة، التحديات الاجتماعية والاقتصادية، إعادة تأهيل المنطقة المدمرة، حماية النسيج التراثي العمراني، ومحاور تتعلق بالسكن ودراسات في المناطق المنكوبة.

افتتح الجلسات نقيب المهندسين المعماري، جاد ثابت، الذي أوضح أن المؤتمر يسعى إلى "الخروج بوثيقة تطرح نظرة شمولية لإعادة إعمار المناطق، التي دمرها انفجار 4 أغسطس/آب، تتناول جوانب عمرانية واجتماعية وتراثية واقتصادية، ويمكن أن تكون نموذجا للمناطق والمدن الأخرى"، لافتا إلى أنه "لا بد للجامعات أن تنتج رؤية لكيف ينبغي أن تكون إعادة إعمار بيروت.. حين تغيب الرؤية عند الآخرين فدورنا أن نفكر فيها ونطرحها ونلعب دورنا الوطني".

لمحات من تاريخ المرفأ والهوية العمرانية

حاول المجتمعون التفكير في تاريخ بيروت بمنظار جديد لفهم نقاط القوة والضعف في المدينة، وركزت المداخلات بشكل خاص على دراسة تاريخ المرفأ والمناطق المحيطة، فتناول الأكاديمي حسان حلاق، مكانة المرفأ ودوره منذ العصور القديمة إلى اليوم، من ذلك التطور الكبير الذي شهده في الحقبة العثمانية، حيث أصبحت الجهة الجنوبية منه مركزا للقناصل والسفارات والفنادق والبريد.

وكان مرفأ بيروت في القرن الـ19، وفق حلاق نقطة التواصل بين المنطقة وبين بلدان شمال أفريقيا، وقال حلاق "كان الجبل اللبناني يزود تجار بيروت بـ1800 قنطار من الحرير، يجري تصديرها عبر المرفأ إلى دمياط والإسكندرية والمغرب وتونس والجزائر، وتعود السفن محملة بالأرز والكتان وجلود الجواميس من مصر والعباءات من تونس وبعض السلع الأوروبية من المغرب". وأضاف أنه حين أعلنت السلطات العثمانية بيروت ولاية عام 1888، أُنشئ المحجر الصحي الذي يعرف اليوم بالكارنتينا، وشهد المرفأ زيارات مهمة في ذلك العصر منها زيارة الإمبراطور الألماني ويليام الثاني عام 1898.

بدوره، تناول المعماري خالد صادق تطور السمات المكانية للنسيج العمراني للمدينة من حيث حجم المدينة وكثافتها ومظهرها وعلاقة الإنسان بالمكان. وذكر أن المدينة كانت تحت حكم والي عكا، الذي بنى سورا حولها في بداية القرن الـ19، ثم توسعت المدينة خارج هذا السور بعد حملة إبراهيم باشا عام 1983، وفي عام 1915 بلغ تعداد سكانها 130 ألف نسمة. ويبلغ تعداد سكان المدينة اليوم 2.4 مليون نسمة. ويشير صادق إلى أن "التوسع خارج الأسوار لطالما اتخذ شكل حلقات متتالية، وأن هذا النمو اصطدم بعدة عوائق ناتجة عن موقع المدينة الممتد 9 كيلومترات داخل البحر والمحاط من الجهة الشرقية بنهر بيروت، الذي يفصلها عن سلسلة جبال لبنان الغربية"، لافتا إلى عدم الانتظام في تطور النسيج العمراني للمدينة، وإلى حركات النزوح الخارجية والداخلية التي سببتها الحروب.

في مداخلته تحدث الأكاديمي عبد الله كحيل، عن تاريخ انبثاق أشكال جديدة من الأبنية في المدينة، ليعود إلى السنوات الممتدة ما بين الاستقلال وبداية الحرب الأهلية، مشيرا في ورقته إلى خصوصية مبان تجارية ظهرت في الخمسينيات مثل صبّاغ، جوفينور، ستاركو، والعيزيرية. وعنها يقول كحيل "انبثقت أبنية ذات طابع غير مألوف في المنطقة، وهذا النوع من المباني ارتبط بنوع محدد من الاقتصاد، الذي نما في المدينة، وهذا بدوره ارتبط ببناء مطار بيروت".

عرض كحيل مجموعة من الصور الأرشيفية للمباني ولأول مطار عرفته المدينة، والذي بني عام 1939، وكان يتكون فقط من برج للمراقبة وبعض المباني، قبل أن يُبنى مطار آخر في منطقة خلدة على يد المعماري الفرنسي أندريه لاكونت. يلفت كحيل "عرف لبنان في تلك الفترة 4 شركات طيران وشركة طيران مخصصة للشحن؛ لكن كان هناك نوع آخر من شركات الطيران الخاصة التابعة لشركات تعمل في المنطقة في النفط والمياه وغيرها مثل أرامكو وتايب لاين وغيرها".

ويضيف أن هناك عدة عوامل أثرت على شكل العمارة؛ منها نمو قطاع المصارف الذي ازدهر بالخمسينيات في فورة كان سببها أيضا حركات هجرة لأصحاب رؤوس الأموال من فلسطين والعراق وسوريا، في تلك الفترة ظهرت مانشيتات (عناوين) في الصحافة اللبنانية تتنبأ بالثورة العمرانية لبيروت منها مثلاً "بيروت ستصير مانهاتن عام 1975".

سرديات المدينة والعنف والانتماء

تقول الأكاديمية رنا الدبيسي إن بيروت "تبدو لنا اليوم أحياء متجاورة مثل كثير من المدن؛ لكن الفرق أن هذه الأحياء تفصل بينها حدود لامرئية، فكل حي منها لديه رموزه الخاصة وفق انتماءاته الطائفية والسياسية. انتهت الحرب الأهلية في التسعينيات؛ ولكن تأثيراتها بقيت فما زال يسيطر على بيروت جغرافيا الخوف وشعور بفقدان الأمان، وهذا الشعور نستطيع قراءته بوضوح من خلال التخطيط المدني ومشاريع الإعمار وخاصة مشاريع إعادة الإعمار، فلقد تحولت المدينة إلى موقع جيوسياسي متنازع عليه، وكما يقولون في الأنثروبولوجيا "العنف ينتهك نسيج المكان".

تلفت الدبيسي إلى "نظريات أخرى سائدة لتفسير عدم التجانس في نسيج المدينة، ومنها تلك التي تصور بيروت على شكل حلقات تبدأ من وسط بيروت، وهي أصغر حلقة، وتنمو حولها حلقات أكبر إلى أن تنتهي بما سمي (حزام البؤس)، وهذه صورة مبسطة ترتبط بتداعيات الحرب الأهلية أو بما يسمى غزو المهمشين والمستبعدين للمدينة أثناء الحرب وانتقامهم منها".

يقابل هذه النظرية وفق الدبيسي "سرديات متنوعة عن الانتساب لبيروت، وكأن هناك حقا مزعوما بالأقدمية، وقد برزت أعمال عدة تصنف انتماء البيروتيين لمدينتهم على أسس طائفية؛ بل حتى على أسس عائلية، ونشرت أعمال في التسعينيات تصف الحياة في المدينة على صورة مسح لأسواق ومقاه ومبان دينية، كأن هناك حاجة ملحة دائما لإعادة ترسيم وتثبيت حدود المدينة وأحيائها، وقد نشرت قوائم بأسماء عائلات بيروتية كأنها بذلك تحكم السيطرة على حيز وفضاء المدينة، وهنا تفقد العاصمة مدنيتها وتتحول إلى قرية، حيث أصل العائلة والنسب يمنح مكانة سياسية واجتماعية، أضف إلى ذلك طبقة إضافية من العزل والحواجز بين السكان تتمثل بين السكان الشرعيين؛ أي الناخبين، حتى إن غادروا المدينة، وغير الشرعيين أي غير القادرين على الانتخاب".

تصف الدبيسي بيروت اليوم بأنها "مدينة جامدة صلبة ومنغلقة، أحياؤها منفصلة عن بعضها، وحتى ضمن الحي الواحد مثلا نواجه ظاهرة الأبنية المسورة، التي تشكل ظاهرة غريبة خاصة في الأشرفية والتباريز وغيرها".

الواقع من مار مخايل إلى الكارنتينا

المعماري روبير كرم تناول في مداخلته منطقة مار مخايل، التي تضررت من انفجار المرفأ، وتعد من المواقع ذات الخصوصية والهوية التراثية في المدينة، وأكد "نظرا لما تتميز به مار مخايل من خصوصيات تاريخية تراثية اجتماعية، لم تقو على زعزعتها الطفرة العمرانية، ولم تقض عليها الحرب اللبنانية، نرى من واجب كل مواطن ومسؤول المساهمة في المحافظة على التوازن العمراني والديموغرافي والاجتماعي الموجود، وفي احترام هوية المنطقة ورمزيتها ومراعاة عدم سلخها عن ماضيها. كل ذلك لن يتحقق إلا عن طريق تفعيل مشاريع مدروسة وغير عشوائية بعيدا عن بازارت السمسرة العقارية والسياسية، وعبر دمج القديم بالحديث بأسلوب عمراني تفاعلي يحترم ذاكرة المكان، ويحاكي العصر والتطور".

أما الأكاديمي إلياس مطر، فتحدث عما كشفه انفجار المرفأ عن المدينة، وقال "لدي تخوف من أن يصبح لدينا ظاهرة الحي ذو النوافذ المكسورة.. أي حيّ مهمل ومتداع سوف يجلب إليه التصرفات غير القانونية والمساكن العشوائية". وأكمل إن "هذه المناطق المتضررة من الانفجار كانت أساسا تعاني من مشاكل اجتماعية واقتصادية منذ التسعينيات، فهي منطقة تعرضت إلى إهمال الدولة التام وقوانين إيجارات قديمة وامتداد منافسة عقارية وفوضى عمرانية".

وذكر مطر "أما الكارنتينا فلم أدخلها في حياتي نحن نمر بمحاذاتها فقط، فهل الكارنتينا في بيروت؟ منطقة إلى هذا الحد قريبة من مركز المدينة وإلى هذا الحد منسية كأنها لا تنتمي إلى المدينة. الانفجار فضح أيضا أن هناك مناطق وأحياء في الأشرفية تعاني من أبنية متداعية وأحياء مهملة وعدم مساواة وتعديات ومشكلات اجتماعية".

توصيات من وجهة نظر نقدية

في الختام، أعلن المؤتمر عن "بيان بيروت العمراني"، والذي بني على كل الجهود التي وضعها الباحثون عبر مداخلاتهم لتكوّن بمجملها "تصورات واقتراحات للفكرة العامة لإعادة تشكيل المدينة، عبر اقتراح رؤية شاملة لبيروت من وجهة نظر نقدية بنيوية".

وخرج البيان بتوصيات كثيرة؛ من أبرزها التأكيد على أهمية الارتكاز على الدراسات التاريخية للمدينة كمدخل رئيس لعمليات التطوير المستقبلية، وذلك من خلال فهم وقراءة التطور التاريخي للنسيج العمراني وتطور البعد الثقافي للمدينة. وأهمية التعامل مع المباني التراثية بالطرق العلمية، واعتبار الثقافة الاجتماعية أولوية في أي دراسة عمرانية للمدينة وإعادة تفسير الأمكنة بحسب خصوصياتها الاجتماعية.

واقترح المعماريون المشاركون إعادة النظر بالواجهة البحرية لبيروت من ضمن خطة للمشاة من الكورنيش إلى الكارنتينا؛ لإعادة ربط المدينة مع بعضها البعض، وإعادة إدماج المرفأ بمكوناتها الحيوية، وإعادة تفعيل الأدراج والمساحات الخضراء بين الأبنية.

ومن أبرز التوصيات الالتفات إلى منطقة الخضر/الكارنتينا وإيلاء مبانيها الاهتمام اللازم، من حيث إنها تشكل تاريخا حيا للمدينة، وضرورة تفعيل النقل العام في منطقة بيروت عامة بالمنطقة المدمرة، بهدف إعادة ربط كل المناطق مع بعضها البعض.

المصدر : الجزيرة