الأم في نظر الأدباء والشعراء.. عن الحنين إلى "خبز أمي" وأشياء أخرى

عن أم أديب نوبل التي لا تقرأ ولا تكتب لكنها "مخزن الثقافة الشعبية"

الكاتبة اللبنانية روز اليوسف (1897-1958) مع ابنها الأديب والروائي إحسان عبد القدوس (مواقع التواصل)

"أحن إلى خبز أمي، وقهوة أمي، ولمسة أمي، وتكبر في الطفولة، يوما على صدر يوم، وأعشق عمري، لأني إذا مت، أخجل من دمع أمي".

هكذا عبّر الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش (1941-2008) عن حنينه لأمه، وهي القصيدة الأثيرة للشاعر التي فاقت في شهرتها الكثير من قصائده، وغناها الفنان اللبناني مارسيل خليفة، وتحدث أحمد درويش -شقيق الشاعر الراحل- للجزيرة الوثائقية عن تفاصيل الأحداث التي ألهمته تلك القصيدة، عندما ذهبت أمه وشقيقه لزيارته في سجن الرملة.

وحكى درويش -في حوارات عديدة منشورة- عن علاقته المركبة مع والدته، وقال في أحدها "حين عاتبتها: لماذا كنت تضربينني كثيرا وتحملينني المسؤولية عن كل ما يجري في الحارة؟ ضحكت لتُوحي لي بأنني كنت جامحًا وكثير النكد".

ووصف درويش والدته في حوار آخر "كانت جميلة، وشعرها أحمر طويل، وعيناها زرقاوان، لكنها قاسية لا تعبر عن عواطفها إلا في الجنازات، وأنا لم أر أمي في أي عرس، كانت تذهب إلى الجنازات، وفوجئت مرة أنها تنشد الأغاني الشعبية، واكتشفت أيضا أنها تؤلف بكائيات".

وكانت والدة الشاعر الراحل قد تحدثت للجزيرة نت بعد أيام من وفاته، في وقت كانت تكفكف فيه دموعها على الفراق الأبدي لولدها الذي حُرمت من احتضانه إلا مرات نادرة طوال 4 عقود، وتمنت الحاجة حورية درويش أن يُدفن جثمان فلذة كبدها في القرية بجوار ضريح أبيه، الذي لم يتمكن من المشاركة في جنازته، حيث رفضت السلطات الإسرائيلية ذلك قبل نحو 10 سنوات.

ليست كباقي الأمهات

"إن أمي لا يمكن أن تكون كبقية الأمهات. وبدأتُ أراها كبيرة -كبيرة جدًّا- إنها ليست مجرد أم، لا. وبدأت أذيب نفسي لألحق بها في نشاطها، لأرتفع إليها.. لم أستطع، كلما ارتفعت خطوة، رأيتها أكثر ارتفاعًا مما كنت أظنّ. أمي صنعتني بيديها كما صنعت مجدها بيديها".

هكذا تحدث الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس عن مشاعره تجاه أمه في أول يوم عمل بجوارها في مجلة روز اليوسف، وهي السيدة اللبنانية الشهيرة فاطمة اليوسف صاحبة التجربة الصحفية العريقة في الثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، التي استطاعت الجمع بين العمل الشاق وواجبها كزوجة وأم، كما يقول إحسان، ولا شك أن شخصيتها أثرت في عشرات الروايات والقصص التي كتبها وتحولت لأيقونات بارزة في السينما المصرية، حتى أنه أهداها روايته الشهيرة "في بيتنا رجل"، قائلا "إلى السيدة صاحبة المدرسة التي علمتنا الثورة، إلى أمي، وأم كل الثائرين من أجل الحق والحرية، إلى السيدة فاطمة اليوسف".

"الشخطة اللي تعلم.. ومتهنش الكرامة"

ويحكي الشاعر الراحل صلاح جاهين، في مقاله بصحيفة الأهرام، عن أمه التي كانت تحكي له القصص من الأدب الإنجليزي، وتزرع فيه النزعة الوطنية صغيرا، وتتشكل ملامح علاقته الفريدة بها من خلال مجموعة من الرسائل بخط يدها.

يقدم لها التهنئة بعيد الأم "حبيبتي ماما.. أقبلك ألف قبلة بل مليون قبلة وأدعو الله أن تكوني بصحة جيدة، كل سنة وأنت طيبة عشان عيدك".

وهذه الرسائل لا تبتعد كثيرا عن كلمات الأغنية الشهيرة التي كتبها جاهين للفنانة سعاد حسني لتغنيها للأم: "صباح الخير يا مولاتي.. أبوس الإيد وقلبي سعيد، يا أول حب في حياتي.. يا أمي"، أو في جملته الرائعة التي تلخص كل شيء عن طيبة الأم "منساش الابتسامة.. ومش هنسى يا ماما.. الشخطة اللي تعلم.. ومتهنش الكرامة".

أمّية ومخزن للثقافة الشعبية

يقول الأديب المصري العالمي الفائز بجائزة نوبل في الآداب نجيب محفوظ عن الأم "المستهين بقدرات النساء أتمنى أن تُعاد طفولته من غير أُم".

وعن علاقة محفوظ بأمه، يحكي الناقد المصري الراحل رجاء النقاش (1934-2008) في كتابه صفحات من مذكرات نجيب محفوظ، أن والدة أديب نوبل الراحل كانت تصطحبه معه "لزيارة مسجد سيدنا الحسين"، كما كانت مغرمة بزيارة الأديرة والمتحف المصري لترى المومياوات، وتعشق الاستماع لأغاني سيد درويش، ووصفها محفوظ بأنها كانت "مخزنا للثقافة الشعبية".

ويستطرد الأديب الراحل "كانت أمي سيدة لا تقرأ ولا تكتب، كانت تعشق الحسين وتزوره باستمرار، وفي الفترة التي عشناها في الجمالية كانت تصحبني معها في زياراتها اليومية، وعندما انتقلنا إلى العباسية كانت تذهب بمفردها، فلقد كبرت أنا ولم أعد ذلك الطفل المطيع، ولم يعد من السهل أن تجرني وراءها".

لذلك لم يكن غريبا أن تحتل شخصية الأم دورا بارزا في روايات صاحب نوبل، حيث أشار إليها بالأم من دون أن يسميها في روايته "بداية ونهاية"، حيث الأم الشخصية المحورية التي يجتمع حولها الأبناء، بعد أن فقدوا الأب، ويكون معاش الأب الزهيد سبيلهم لمواجهة صعاب الحياة، وينطلق محفوظ في تحليل علاقة الأم بأبنائها وقد صاروا كبارا تتفرق بهم المصائر.

وفي مقطع من الرواية يصف محفوظ مشاعر الأم تجاه ابنها البكر "هذا أكبر الأبناء، أول من أيقظ أمومتها، الحبيب الأول. لكنه دليل ملموس على أن الأمومة قد تتأثر بأمور لا تمت للفطرة بسبب".

وتختلف صورة الأم في ثلاثيته الشهيرة، حيث الأم هنا هي أمينة، الخاضعة لقوة شخصية زوجها السيد أحمد عبد الجواد، تصبر على لهوه وعبثه خارج البيت، وتبذل كل طاقتها للحفاظ على أسرتها، لتكون رمزا للطيبة والنقاء.

وفي رواية السراب، يرتبط الابن بالأم المطلقة التي عاش في كنفها وكانت تداعبه كثيرا، وارتبط بها ارتباطا مرضيا، وظلت تطارده بعد وفاتها، فيقول على لسان البطل "كانت أمي وحياتي شيئا واحدا، وقد ختمت حياة أمي في هذه الدنيا، ولكنها لا تزال كامنة في أعماق حياتي، مستمرة باستمرارها. لا أكاد أذكر وجها من وجوه حياتي حتى يتراءى لي وجهها الجميل الحنون، فهي دائما أبدا وراء آمالي وأحلامي، وراء حبي وكراهيتي، أسعدتني فوق ما أطمع، وأشقتني فوق ما أتصور".

وتستعرض ملحمة محفوظ الشهيرة "الحرافيش" نماذج مختلفة من صورة الأم، نذكر منها على سبيل المثال تشجيع الأم لابنها شمس الدين الناجي للمضي قدما على خطى والده الفتوة عاشور الناجي، حتى لا تعود البلطجة للحارة، أو في شخصية جلال ابن زهيرة الناجي، التي كان مصرعها المأساوي أمامه طفلا حافزا له، يدفعه للبحث عن سر الخلود متذكرا صورة رأس أمه المهشم أمام عينيه.

قبلات بلا ثمن

وفي أدب الناشئين، نرى مثلا العلاقة القوية بين أم بطل قصص الرعب "ما وراء الطبيعة" مع ابنها رفعت إسماعيل، حيث ينطلق من عالم المدينة ليزورها بين حين وآخر في قريته، ليصف لقاءه بها قائلا "يا للحنان! يا للرقة! أبدا لم أتلق في حياتي قبلات بلا ثمن وصادقة إلى هذا الحد من أية امرأة إلا من أمي وأختي".

ولا شك أن الكاتب الراحل أحمد خالد توفيق استوحى شخصية أم بطله من حياته، فيسرد في مقال بديع تفاصيل علاقته بوالديه، ويحكي قصة مرور العائلة بضائقة مالية وهو طفل، فتأخذه الأم سرا معها في رحلة لمحلات الصاغة، حتى تبيع مصوغات ذهبية، وتعود للبيت وتقول للأب إنها عثرت على مبلغ من المال في مظروف في بدلته القديمة لتفك ضائقة الأسرة من دون أن تجرح مشاعر الأب.

ويعلق توفيق "ما زلت أذكر تلك الليلة، وأفكر في أن أمي خدعت زوجها. خدعته وباعت مصوغاتها من أجل فك ضائقة مالية يمر بها، فما كان ليسمح لها بذلك أبدًا لو عرف.. يجب أن يكون العام كله عيدًا للأب وللأم".

وإذ تعكس صورة الأم في الآداب العالمية واقع مجتمعاتها، فإن صورة الأم في الأدب العربي حملت مشاعر وقيما إنسانية مضاعفة، وشكلت رمزية مفعمة بالحنين والنقاء والقداسة، كما قال الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي "الأمُ تلثم طفلها وتضمه.. حرمٌ سماويّ الجمال مُقدس".

المصدر : الجزيرة