حين يصبح المؤقت واليومي أساسا للعلاقة مع المهنة.. "مياومة.. هايكو عامل معاصر" لمحمد فرج

لا يقتصر "مياومة.. هايكو عامل معاصر" على النص المكتوب فحسب، بل ضم إليه الكاتب أيضا 7 صور فوتوغرافية التقطها بنفسه، وتعبر عن قصة الشقاء اليومي للإنسان والعلاقة "المؤقتة" واليومية مع المهنة

محمد فرج تصوير سيد داوود
الكاتب والصحفي المصري محمد فرج مع كتابه الصادر حديثا "مياومة.. هايكو عامل معاصر" (الجزيرة)

في "مياومة.. هايكو عامل معاصر" لا يسعى الكاتب والصحفي المصري محمد فرج (1981) وراء شكل أدبي بعينه، ورغم ذلك يضمّن العنوان اسم جنس شعري محدد "هايكو" (شعر ياباني تقليدي)، ليبدو عنوان هذا النثر القصير والمفتوح لغزا، ولربما دعوة لأن نستخدم الهايكو كوسيلة للتفكير في كتابته.

وعادة ما يكون الزمن في شعر الهايكو مضارعا، لأنه نص يقع في اللحظة، لا قبلها ولا بعدها، فهذه العلاقة اللحظية المباشرة جزء أساسي من قيمة الكتابة نفسها، ولا سيما أنها لحظية لا تجعل كاتب الهايكو منفعلا بل مستقبلا هادئا لما تعنيه لحظة وقت حدوثها، وبالتالي قد يسجل الرائي/الشاعر مشاهد مزدحمة وصاخبة مثلما يفعل بالهادئة والمقفرة.

أوجاع فلسفية

وهكذا هو نص فرج الصادر مؤخرا عن دار "المحروسة" في القاهرة، ولا بد أن يكون كذلك، حيث إن الكاتب يسجل الاستمرارية المطلقة والمضنية لحياة الإنسان عامل اليومية، تلك التي تجعل الزمن يسير في كل اتجاه ويفقد خطه ويبدو معه الراهن المعيش أبديا ولن ينتهي إلا بنهاية حياته نفسها.

من هنا، نجد العامل (يطلق عليه اسم "العامل" طوال النص ولا نعرفه باسم آخر) يخبرنا بسقوط زميله وموته من النافذة بنفس الهدوء الذي يكتب فيه للمدير يطمئنه على سير العمل، وبنفس الهدوء الفلسفي الذي يتحدث فيه عن أوجاع جسده، ويفكر في عائلته، ويروي فيه حلمه، ويتأمل لحظة موته.

"مياومة"، كلمة أخرى من العنوان يمكن لأي قارئ أن يجد شيئا من نفسه فيها، فرغم أنها تعبير ارتبط بعمال اليومية الذين يعملون في البناء والفلاحة وكل الأشغال المؤقتة التي تتطلب مجهودا عضليا فإن الكاتب المصري فرج يلفت نظرنا إلى أنه أيضا وصف ينطبق اليوم على أبناء البرجوازية الصغيرة، أولئك المتعلمون والمثقفون الذين يعملون بعقود مؤقتة أو "الفريلانسر" أو "بدوام جزئي" أو بعدد أيام محددة.. إلخ، ليظهر أن هذه كل توصيفات أكثر أناقة لصفة "عامل مياومة".

كتاب مياومة - محمد فرج
"مياومة.. هايكو عامل معاصر" للكاتب المصري محمد فرج (الجزيرة)

يفكر النص بشكل غير مباشر فيما يحدث للعامل نفسه حين يصبح "المؤقت" واليومي أساسا للعلاقة مع المهنة، فسير العمل نفسه لا يتأثر بتغير طبيعة هذا الارتباط.

يقول "سيدي المدير.. لا تقلق، ها نحن ذا.. واقفون على حافة اليوم.. نحن هنا نعرف تماما ماذا سنفعل في ساعات العمل، سنلعب ألعابا سحرية من أجل صنع جسر طويل يأخذنا سريعا إلى فوق الكارثة التي تريد أن تهديها لنا".

مياومة معاصرة

تحمل فكرة المياومة المعاصرة التي يتأملها فرج صاحب المجموعة القصصية "خططا طويلة الأجل" (العين/2019)، في جوهرها نهاية القيمة النفسية والعاطفية للعمل، وفك الارتباط بين العامل المنتِج وما ينتجه، فما يتبقى من أي مهنة هو الروتين والإنتاج الأوتوماتيكي، ليس الرضا عن الذات ولا تحقيقها ولا الاندفاع ولا الإخلاص، إنما الاستسلام المطلق لمكننة الإنسان "يجلس العامل أمام الشاشة، يكمل عملا، يبدأ آخر (..) ويظل العامل ينتظر رسائل تفيد بأن ما تم قد تم فعلا، ويتمنى لو أنه حاز إعجاب أحدهم، ورسائل أخرى تذكر بضرورة إنجاز ما يجب إنجازه".

يبدأ النص من اللحظة الأولى في نهار يعرفه ملايين البشر، فرد ينهض من سريره في الصباح ويستعد لمغادرة بيته إلى العمل، ثم نراه يتحرك في اللقطات التالية في صورة إنسان انتزع منه شيء ما لكنه لا يحاول استرداده، حتى استيقاظه جرى رغما عنه كأنه تم بـ"ريموت كونترول"، "بخيوط غير مرئية لكنها شديدة القوة والليونة ينسحب الواحد من سريره إلى مقر العمل، تسمح له الخيوط بغسيل وجهه".

قصة الشقاء اليومي

وينتهي النص بموت العامل، نحن إذًا أمام خط كلاسيكي لقصة الشقاء اليومي للإنسان من الولادة إلى الموت، لكن الولادة في النص بين أيدينا تتجسد في النزول صباحا من السرير، حيث يولد الإنسان يوميا من النوم منهكا ومهزوما أمام النهار، يخرج مرارا وتكرارا من هذا الرحم المصطنع ليبدأ في الكد من أجل العيش والكسب ثم ينام ويعاود الكرة من جديد، فنسيج الكتاب كله ولغته يقومان على استجابة الكاتب لمعنى الاعتياد على الألم، ولوعي المؤلف العميق بمرور الوقت بالمعنيين اليومي المعيش والوجودي الأعمق.

يجمع فرج كل هذا الزمن الثقيل في حبة ليمون معلقة على شجرة ينظر إليها أحد زملاء العامل من النافذة ويتمنى أن يقطفها، بعد أيام تسقط الليمونة ويراقبها وهي تتعفن وتعلن نهاية رغبة معلقة بهذه التفاهة "في الأيام التالية لم يستطع الزميل التوقف عن مراقبة الليمونة وهي تتعفن بهدوء".

لا يقتصر "مياومة.. هايكو عامل معاصر" على النص المكتوب فحسب، بل ضم إليه الكاتب أيضا 7 صور فوتوغرافية التقطها بنفسه، مما يحيل إلى علاقة النص بالصور المنشورة معه، فغالبا ما تظهر الأخيرة في أي عمل مهجن ثانوية مقارنة مع النص أو أنها هنا لتخدم الكلمات، أي أننا بمعنى ما أمام مفهومي المتن (الكتابة) والهامش (الصورة).

هاتان ثيمتان واضحتان في بناء النص المكتوب أيضا، فالعامل يعيش وجوده اليومي كما لو أنه عالة عليه، أو أنه يقع على هامش حياته نفسها.

يقابل الكاتب الهامش كمكان يتحرك فيه العامل، بتطلّع المصور إلى هامش أكثر رأفة من موضوع الكتابة نفسها، وهذا ما تصنعه معظم الصور، إذ جرى التقاطها خارج العمل والبيت وبعيدا عن الشاشة والمكتب والغرف والأسئلة، مما جعلها أقرب إلى لحظات من الهروب المتقطع والمتردد أيضا.. ألا يرغب العامل للحظة مثلا في حياة الكلاب السائبة المسترخية في مكان عام؟

Omran Abdullah - انبثق شعر الهايكو عربياً من صميم المثقافة العربية اليابانية مطلع القرن الماضي، ويدور الجدل حول مشروعيته، ويكي كومون - شعر الومضة والتأمل.. الهايكو العربي يُفشل رهانات النقاد ويتجه من اليابان للمغرب والعالمية
الهايكو العربي انبثق من صميم التواصل الثقافي العربي الياباني مطلع القرن الماضي (مواقع التواصل)

أشياء يومية

التقط الكاتب الصورة الأولى من الأسفل، فيها شبح إنسان يسير ممحوا تحت سطوة المبنى الذي يظهر فوقه وليس خلفه، السماء من جهة والشكل الهندسي للبناء من الأخرى وإنارة الشارع المسلطة على المشاة، 3 عناصر تهيمن على الإنسان الماشي وتنحيه من المركز، بعض الأغصان تحجب جانبا من الأفق وتقاطع هذه الهيمنة والوحشة، ويتكرر هذا الدور المنوط بالأشجار في الصور التالية مثلما نجده في النص "مشكلة الإنسان مع عظامه بدأت حين كف عن تسلق الأشجار".

رغم ذلك يظهر أن المصور يجرب قدرة التصوير الفوتوغرافي على إماتة الأشياء التي تبدو حية من خلال الضوء أو ما يحيط به، فتظهر الطبيعة في صور كلها بالأسود والأبيض متربة وكئيبة وكأنها تعكس وحشة الناظر إليها رغم محاولاتها التخفيف من وطأة العالم.

بعض الصور تقترب من الأشياء اليومية، ثمة فنجانا قهوة صغيران بظلين طويلين، تحتهما خشب الطاولة يذكرنا بالأشجار مرة أخرى، هذه التي يظل يقدمها لنا الكاتب كأنها تنقذ كل شيء من غياب الجمال، ورغم ذلك لا يظهر أن الإنسان يتلقى هذا الجمال من دون أن ينزع منه شيئا، في الصورة الأخيرة وعاء من الصبار وحده في بؤرة واضحة مجردة الخلفية، ننجذب كناظرين إلى الفضاء الهادئ والمغلق لهذا الكائن، يبدو أنه يشعر بالألفة مقارنة بوجود الإنسان في العالم الخارجي.

العمل وجسد العامل

يمكن لهذه الصورة الأخيرة أن تكون صورة التحول من جسد إلى صبارة، إذ يصور فرج علاقة العمل بجسم العامل كما لو كانت حفلة تعذيب يتعرض فيها الأخير إلى تنويعات من الألم "على المقعد بأكتاف مضمومة ومحنية إلى الأمام، سيتغير شكل عظام الجسد، تنضغط الفقرات، تلتهب الأعصاب، تنسد، تتكون بؤر ألم لن تفارقه في ما بعد".

يوجد جسم العامل في كل صفحة من الكتاب تقريبا، فاقدا لتمثيل صاحبه الذي يفكر أن يحوله إلى شيء مفيد لرب العمل، ربما يستفيد من طاقة السأم والغضب لتوليد الكهرباء، أو يمكن لحدبته أن تصير حديقة مثلا، وسرعان ما ندرك أن هذه الحدبة هي إصابة عمل لا يعترف بها، وأنها حدبتنا كلنا، الوشم الذي بتنا نُعرف به، نحن العمال المعاصرون خلف الشاشات، بعضنا كجماعة واحدة.

يتماهى العامل مع عمال معاصرين كثر، دون أن يمنعه ذلك من الاشمئزاز واللامبالاة، والتي يعبر عنها "كان أحدهم يدخن مستندا على سور الشرفة، لم ينتبه للجزء الذي استند عليه (…) فجأة انكسر السور وسقط زميلنا، سمعنا صوت ارتطام جسده بالأرض (..)، سمعنا صيحة رئيس الوردية ينهبنا لضرورة العودة واستكمال العمل فدخلنا.. وألقى بعض منا سجائره (..) لتسقط بجوار جسد الزميل".

يبني فرج كتابه بحيث تكون كل صفحة كتلة بحد ذاتها، كل صفحة تتضمن حالة مختلفة تصب في نهر التعب، أحيانا قليلة يفعّل منظر ما ميكانيكا التواصل مع العالم من جديد خارج حياة الشغل، ذلك العالم الذي يفقده بلا توقف في حياة سجينة تدور بين المقعد والسرير.

أحيانا مثلا يحب العامل شرفته، ضوء الشمس، ضفة نهر، مقعدا في حديقة، ولكن حجم الكتاب الصغير وأسلوبه المكثف والقصير لا يمنعان من أن نشعر بأننا نريد أن نقرأ أكثر، خاصة حين يمر الكاتب بلحظة يجد نفسه في مظاهرة "شعر أن الصراخ يفتت الحجر الضخم بداخله"، ولكنها تنتهي قبل أن يجرب حتى أن يصرخ كالآخرين فيها، ربما مر الكاتب بسرعة على لحظة الاحتجاج هذه بنفس السرعة التي انتهت بها، اختفى وهج الصراخ، وكل ما تبقى هو أثر الشقاء العادي.

المصدر : الجزيرة