منظر الثورة على الثورة.. محمد جلال كشك والنضال في زمن الملكية والجمهورية

عاش جلال كشك عمره الفكري والصحفي وتاريخه النضالي والحركي في معارك فكرية متعددة مع السلطات المصرية المتعاقبة والحركتين الشيوعية والقومية

محمد جلال الكشك
أصدر محمد جلال كشك عشرات الكتب الفكرية والسياسية والتاريخية (الجزيرة)

محمد جلال كشك صحفي ومفكر مصري ناضل ضد حكم الملك فاروق الأول والرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، وانتقل من طليعة العمل الشيوعي إلى صدارة الفكر الإسلامي، وأغنى المكتبات العربية بإصدارات غطّت مختلف المجالات.

عاش جلال كشك عمره الفكري والصحفي، وتاريخه النضالي والحركي، وهو يستطيع أن "يذبّ" قلمه في عين "العفي" وقتما يريد، كما يقال، وكان أول من هتف للجمهورية عام 1951 قبل أن يعلنها الرئيس محمد نجيب بنحو عام.

رحلة حياة

ولد "حطيئة" الصحافة السياسية المصرية محمد جلال كشك عام 1928 بقرية "المراغة" بمحافظة سوهاج لأب كان يعمل بالقضاء الشرعي، وأم من العائلة نفسها، ذات حسب ونسب، وتلقى تعليمه الأولي والثانوي بالقاهرة، بمدرسة "بمباقادن" في منطقة الحلمية الجديدة بالدرب الأحمر العريق.

تخرّج في كلية التجارة بجامعة القاهرة عام 1952 بقسم العلوم السياسية، وكان قد انضم إلى الحزب الشيوعي المصري عام 1946 قبل أن يلتحق بالجامعة، واعتقل إثر ذلك فأدى امتحان السنة النهائية من داخل معتقل "هايكستب" الذي دخله بتهمة التحريض على قتل الملك؛ إذ قاد مظاهرة من زملائه الشيوعيين وهتف ضد حافظ عفيفي رئيس الديوان الملكي كما هتفوا بالجمهورية وسقوط الملكية، ولم يفرج عنه من هذا الاعتقال إلا بعد قيام حركة الضباط الأحرار 23 يوليو/تموز 1952.

أخرج جلال كشك وهو طالب شاب كتابه "مصريون لا طوائف" ثم أتبعه بكتابه الذي أثار ذعرًا وقلقًا لدى دوائر الحكم حينئذ، وهو كتاب "الجبهة الشعبية" الذي ظل سرًّا مكتومًا إلى أن كشف عنه المستشار الفقيه المؤرخ الراحل طارق البشري في كتابه "الحركةالسياسية في مصر (1945-1952)".

فقد كان الاعتقاد السائد لدى الدوائر المختصة أن الكتاب صادر عن منظمة شيوعية تحمل الاسم نفسه، وعزز من ذلك الاعتقاد أن الكتاب كان يدرس داخل الخلايا الشيوعية السرية كمنهج دراسي خاص؛ حتى أشار أخيرًا طارق البشري إلى أن صاحب الكتاب هو الباحث المتفرد "محمد جلال كشك" الذي اعتقل بسببه بتهمة التدبير لقلب نظام الحكم، ولم تسقط عنه القضية إلا بعد حركة الضباط عام 1952.

عرف محمد جلال بمواجهته للغزو الفكري وكرهه للتسلط والدكتاتورية، ويرى أن القومية لا تستطيع تخليص العرب من محنهم، في حين أن بإمكان الإسلام فعل ذلك لكونه "يربط بين العرب والبربر والأكراد وغيرهم".

تفكيك المانيفستو

بدأ جلال كشك عمله الصحفي والفكري وهو طالب، فأصدر كتابين وهو ما يزال طالبًا في الجامعة، كانا بمنزلة طلقتين مدوّيتين، وكان حينئذ مغموسًا حتى أذنيه في الشيوعية منظمًا، ثم مرّ بعد ذلك بمرحلة عدم اتزان، لكنها كانت فترة كافية لالتقاطه الأنفاس وإعادة التوجه والتوجيه، وتنقل من جرائد "الجمهور المصري" إلى "الجمهورية" إلى أن أبعد عنها بعد اعتقاله مدة عامين ونصف العام حين استطاع أن يجاهر عسكر يوليو/تموز 1952 برجولة ووطنية وفهم وثقافة واستشراف.

ونقله الضباط الأحرار بعدئذ إلى العمل بمجلة "بناء الوطن" تحت الرئاسة المباشرة من الضابط (أمين شاكر) الذي حرض عليه؛ حتى اعتقل جلال كشك أشهرا عدة، كانت بمنزلة "كسر جناح" كما يعبّر جلال كشك نفسه.

على إثر ذلك، ترك كشك لهم "الجمل وما حمل"، وذهب للعمل في "روز اليوسف" عام 1962 محررا للشؤون العربية، وظل يعيش هذا "الكبد" حتى خرج من مصر بعد الهزيمة النكراء في 5 يونيو/حزيران 1967 ليعمل "بالحوادث" اللبنانية؛ وليتنفس بعضًا من هواء الحرية الغض المنعش، ليستطيع عن بعد، "دكّ الحصون الناصرية المتورمة كذبًا، أو الشيوعية المدّعية على الأمة بالباطل".

مع العمالقة

ولاحقا أصبح جلال كشك رمزا ضمن كوكبة فكرية يمثلها المفكرون محمد المبارك والدواليبي وعبد الحليم أبو شقة وأنور الجندي ومحمد عمارة ومنير شفيق وغيرهم، ممن دخلوا في جدل محتدم مع الحركة الشيوعية العربية وتيارات الماركسية.

وتحت غبار المعركة أخرج جلال كشك "54" كتابًا ومسرحية واحدة، غاية في السخرية هي (شرف المهنة)، وإن كان له 6 مسرحيات أخرى مخطوطة.

ومن الملاحظ أن كل كتابات جلال كشك تطفح بالسخرية اللاذعة والمرارة؛ فهو يذوّب فكرته أحيانًا في ماء الورد والسكر، وأحيانًا في ماء الصبر والحنظل، وفي كلٍّ؛ فإنه يهندس الفكرة، ويدبّب لها سنّ قلمه، ويدق جذورها في أرض البحث العلمي الرصين، ثم يطلقها في الفضاء البعيد، تتحدى الأعاصير والزعابيب وتكتسب في كل يوم أرضًا جديدة.

وكان خصومه يعانون من قلمه اللاذع خاصة الصحفي الراحل محمد حسنين هيكل الذي خصص كشك له كتب "ثورة يوليو الأمريكية"، و"الفضيحة.. هيكل يزيف التاريخ"، و"الناصريون قادمون"، وكذلك كتبه "كلمتي للمغفلين"، و"دخلت الخيل الأزهر"، و"إيلي كوهين من جديد".

لم تكن تقف وراءه مؤسسة كالأهرام وراء هيكل، والأخبار وراء مصطفى أمين، بل النظام بأسره كان يترصده ويتهدده، ويتوعده فيغلق في وجهه كل أبواب مصر.

وبعد رحلة الشقاء والعذاب، والغربة والسجون، عاد جلال كشك في السنوات الأخيرة من عمره، ليمتع قرّاءه بمقالاته العميقة الرشيقة في مجلة "أكتوبر".

كشف العوار

لجلال كشك رؤى إصلاحية عدة، كان فيها رائدًا وقائدًا، بل كان في بعضها مغامرًا واستشهاديًا، يلقي بنفسه وسط حقول الألغام.

فهو أول من هتف بالجمهورية عام 1951 في العهد الملكي، وهو أول من طالب بتأميم القناة وإلغاء الاحتكارات الأجنبية عام 1951، وهو الوحيد الذي كذّب عضو الضباط الأحرار علي صبري، وكشف عن زيف الأرقام التي استند إليها في كتابه "سنوات التحول الاشتراكي 1961-1966″؛ وفور نشر مقال جلال كشك فُصل من رئاسة مجلس إدارة جريدة الجمهورية ورئاسة تحريرها.

وهو الذي خصص قلمه لما عدّه "كشف عوار هيكل"، وانتقد الشيوعية بشدة؛ حتى نشرت "البرافدا" (الصحيفة الأكثر توزيعا في الحقبة السوفياتية) ردًّا بتوقيع السياسي السوفياتي إيفان مايسكي يقول "إن استمرار جلال كشك في الصحافة المصرية يسيء إلى الاتحاد السوفياتي"، وذلك عقب نشره سلسلة مقالاته الشهيرة "خلافنا مع الشيوعية"؛ فنفي من الصحافة المصرية من 1964 إلى ما بعد 1967،محرومًا من كل شيء، وهو الرجل الأشهر الذي وضع ثوار يوليو/تموز على المجمرة.

وعرف كذلك بمعركته مع المفكر لويس عوض؛ إذ رأى كشك في عوض امتدادًا لمدرسة التدجين الاستعماري والعمالة التاريخية لتفسير التاريخ زورًا وبهتانًا.

توفي محمد جلال كشك في 5 ديسمبر/كانون الأول 1993 أثناء مشاركته في مناظرة تلفزيونية مع الكاتب المصري نصر حامد أبو زيد الذي ثار بشأنه جدل حينئذ يتعلق بردّته وتطليق زوجته.

وتروي المصادر أن كشك أصيب أثناء المناظرة بأزمة قلبية أدّت إلى وفاته على الفور، وقد دفن بمصر مع 3 من كتبه كان أوصى أن تدفن معه، هي "السعوديون والحل الإسلامي"، و"دخلت الخيل الأزهر"، و"قيل الحمد لله".

المصدر : الجزيرة