فقيه الدراسات اليهودية والأدبين العربي والعبري.. حسن ظاظا و"مسيرة البهلول"

أستاذ الدراسات العبرية الراحل حسن ظاظا
أستاذ الدراسات العبرية الراحل حسن ظاظا له أكثر من 50 دراسة بلغات مختلفة عن الفكر والأدب والتاريخ العبري (مواقع التواصل الاجتماعي)

أدخلني إلى عالم العلامة الدكتور حسن ظاظا، منذ وقت مبكر من عمري العلامة الحاج سيد عاشور (1915 – 2005) الأب الروحي لدارسي اللغة العبرية في مصر.

والرجلان يمثلان حكاية واحدة ممتدة بالتطابق على خط الدراسات العبرية، وما يتعلق بها من فقه وتاريخ وحضارة، وفتن ومؤامرات وفنون وآداب، ترتبط بالشخصية اليهودية المركبة.

الدكتور حسن محمد توفيق ظاظا، الذي ينتمي إلى أصول كردية، ولد بمنطقة الدرب الأحمر التاريخية، بالقاهرة العتيقة في 23 يونيو/حزيران عام 1919، ثم انتقل إلى الحياة بالريف المصري وحفظ القرآن الكريم بمكتب قريب من مسكن الأسرة المتوسطة الحال، ثم عادت الأسرة إلى القاهرة وحصل على الشهادة الثانوية العامة عام 1937، وكان الأول على المديرية التعليمية بالقاهرة، والـ14 على القطر المصري، وذهب لتوه ليبحث عن وظيفة لإعالة الأسرة حيث توفي والده، وهنا تدخل الشيخ مصطفى عبدالرازق وكيل الجامعة المصرية، فألحقه بالجامعة كما ألحقه بعمل في جريدة البلاغ كمترجم للغة الإنجليزية، موقعا على أوراقه على أنه ولي أمره نظرا لتميزه وتفوقه، وانتقل منها بعد ذلك للعمل بالأهرام، وحصل عام 1941 على الليسانس الممتازة في اللغة العربية واللغات السامية من جامعة القاهرة.

من صفحات الكشكول

في عام 1941 حصل على الماجستير في الأدب العربي والفكر اليهودي من القدس، ثم سافر إلى فرنسا حيث تخرج عام 1951 وحصل على دبلومة مدرسة اللغات الشرقية بباريس، ثم حصل عام 1957 على دكتوراه من السوربون في الآثار والأديان والحضارات بمرتبة الشرف الأولى.

وعمل مدرسا للأدب العبري بجامعة الإسكندرية حتى عام 1969 حيث ترأس كرسي الدراسات اللغوية بجامعة الإسكندرية، إلى جانب طوافه بالكثير من الجامعات العربية والإسلامية بليبيا ولبنان والسودان والعراق والمغرب، إلى أن استقر به المقام كأستاذ فقه اللغة والدراسات العبرية بجامعة الملك سعود بالرياض، واستمر في رئاسة هذا القسم لمدة 12 عاما، إلى أن أحيل للتقاعد، لتتمسك به المملكة العربية السعودية مستشارا بمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية حتى وفاته صبيحة يوم الجمعة 23 من ذي الحجة عام 1419هـ الموافق 9 أبريل/نيسان عام 1999 بمستشفى الملك خالد الجامعي ليدفن بمقابر النسيم بالعاصمة السعودية الرياض.

أجاد الدكتور حسن ظاظا اللغات العربية والعبرية والإنجليزية والفرنسية وكذلك الفارسية والكردية والسريانية والحبشية، فضلا عن اللاتينية والأمهرية، كما كان من أمهر المتخصصين في تاريخ الفنون التشكيلية وعلم المتاحف، حيث حصل على دبلومة متخصصة فيه من "اللوفر" عام 1953.

تزوج من السيدة (فاطمة) من الإسكندرية، ولكن نظرا لغيرتها الشديدة لم يكتب لحياته الزوجية معها النجاح، فانفصلا بعد عودته من باريس، وتزوج من السيدة (أندريا) وهي فرنسية وأنجب منها بنتا وولدا يعيشان في باريس، هما (مالك وزينب)، إذ عاش بفرنسا قرابة الـ15، كما عاش ضعف هذه المدة تقريبا بالسعودية.

مسيرة البهلول

اشتهر ببرنامجه الأشهر "من قلب إسرائيل" الذي كان يعده ويقدمه من الإذاعة المصرية بالقاهرة، يفتت ويفكك ويدكّ فيه الفكر الصهيوني ليجعله أنكاثا من بعد قوة موهومة، كما كان يعد ويقدم برنامجا لغويا طريفا بإذاعة الإسكندرية لمدة 15 عاما هو "أصل الكلام"، ومعظم حلقات هذه البرامج لم تكن تعتمد على نص مكتوب، بل كان يرتجل مادتها أمام الميكروفون، معتمدا فيها على موسوعية ثقافته وذاكرته البلّورية، حيث كان يقال عنه دائما: إنه عقل يمشي على قدمين، ويقف على سن قلمه.

وكان العلّامة ظاظا واحدا متفردا، ومرجعا دقيقا وأصيلا للفكر اليهودي وكل ما يتعلق به من فنون وآداب وتاريخ وحضارة وفلسفة وسياسة واقتصاد، يعقد بالرياض منتدى الأحد من كل أسبوع، ويجمع حوله طلابه وأصدقاءه ومريديه في صالون فكري أدبي قلّ نظيره في العمق والمتعة والموسوعية.

وفي صالون الرياض روى ملحمته الشعرية مسيرة البهلول التي أرخّ فيها فنيا لحياته من خلال الاستكناه التاريخي والثقافي للمنطقة، وما مرت به من تحولات جذرية وسياسية، خلطت أوراقها، وبدلت أدوارها ورسالتها.

وسيرة البهلول عبارة عن ملحمة تقع في أكثر من (350 صفحة) وتنقسم إلى 10 أناشيد كبرى، كل نشيد يروي فيه الراوية جزءا من سيرته من خلال الشعر العربي الموزون والمقفى، فإذا انتقلت الرواية إلى شخص آخر، كانت روايته من خلال الشعر التفعيلي، وقد أشاد النقاد بهذا العمل الرفيع فنيا وأدبيا، وعدّوه في القمة من العطاء الأدبي في العصر الحديث.

والدكتور ظاظا شاعر فحل منذ بواكير حياته، وقد نشرت أشعاره بمجلات الثقافة والشعر والهلال والفيصل وغيرها من الدوريات، وتمتاز أشعاره بعمق فلسفي، وثقل فكري، وبناء فني محكم السبك والحبك، في لغة جديدة، وتصوير فريد، تبرز ألوانه وظلاله من خلال معانيه وتشكيلاته الماتعة الجميلة.

ومن ذلك مثلا.. هذه الصورة العميقة السلسلة المتماسكة من قصيدته "الأرض" التي نشرت بالعدد العاشر، من السنة الأولى لمجلة "الشعر" في أكتوبر/تشرين الأول 1964.. والتي يقول في مطلعها:

الأرضُ مُستلقيةٌ حالمهْ … تحت النَّدَى والأنجم الساهمهْ

تَرَنّحَ النورُ على صدرِها … مستسلمًا للنشوةِ العارمه

في دفئها في عطرها في الهوى الْـ … كامنِ في أنفاسها الناعمه

وفي فناءٍ بعضُ أوهامِهِ … أبْهَى من الديمومةِ الدائمه

حدودُه تَضِلّ فيها الرؤَى … وتنطوي في تيهها هائمه

وتبلعُ الآفاقَ حتى ترى الـ … مجهولَ لا بَدْءٌ ولا خاتمه

ويلي من الأرض إذا ما سَجَتْ … على مُحيطِ الظُلمةِ القاصمه

كان ظاظا زاهدا، متواضعا، إلفا مألوفا، وله صحبة علمية، وصداقة أخوية شهيرة جهيرة بالعلامة سيد عاشور تاجر الأقمشة الشهير بالحمزاوي بالأزهر، وعم الدكتورة رضوى عاشور، الروائية والأكاديمية الراحلة، وخريج مدرسة التجارة العليا عام 1932، الذي كان يجيد 11 لغة، في مقدمتها اللغة العبرية، وقدم بالاشتراك مع الدكتور ظاظا عدة دراسات لعل أهمها "شريعة الحرب عند اليهود".

دراساته وأبحاثه

قدم العلامة حسن ظاظا أكثر من 50 دراسة في اللغة العربية والإنجليزية والفرنسية والعبرية تتعلق جميعها بالفكر والأدب والتاريخ العبري، الذي عاش حياته العلمية، وهو رأس هذا التخصص الدقيق، منذ درس بالقدس وإلى أن لقي الله ببلد الحرمين، ومن أهم كتبه:

"اللسان والإنسان"، و"الساميون ولغاتهم"، و"كلام العرب"، و"الفكر الديني اليهودي"، وأيضا "الشخصية الإسرائيلية"، و"الصهيونية العالمية وإسرائيل"، و"إسرائيل ركيزة الاستعمار بين المسلمين"، و"القدس مدينة الله أم مدينة داود؟".

وقد أثبت في هذا الكتاب الأخير -بموسوعيته المعروفة، وبالردود العلمية الحاسمة- أن القدس هي "مدينة الله" ألف سنة قبل داود عليه السلام، وألف سنة بعده، وكان يحرم أن يمتلك الإنسان فيها بيتا أو أرضا أو بستانا، "لكنهم اليهود الذين يُسكتون حتى صوت التلمود، الذي يحرّم عليهم ذلك، ورغم ذلك يتغنون بهذه المخالفة الصريحة للتلمود حتى في نشيدهم الوطني".

ويقول إن إقامة اليهود بالقدس، لم تدم إلا 73 سنة (33 سنة لداود وحوالي 40 سنة لسليمان) وهي الفترة الوحيدة التي كانت المدينة فيها عاصمة لهم على عكس الإدارة الإسلامية التي استمرت 13 قرنا من الزمان، وكانت من قبل "أرض كنعان" العربية التليدة، بحسب المفكر الراحل.

وقد ظل العلامة ظاظا يكتب بانتظام بجريدة "الرياض" لمدة 20 عاما، تحت عنوان "الكشكول"، كما كان يقدم دراساته ومقالاته بمجلة "الفيصل"، إلى جانب ما سبق، فإن أشعاره المبعثرة تكون ديوانا ضخما من الشعر الرفيع المتميز، ومن أقواله "الفكر الصهيوني ما هو إلا فزورة من الفوازير التي يمكن حلها بسهولة".

كما أن سيرة "البهلول" تقع في 350 صفحة وهي ملحمة محفوظة في نصوصها الأولى لدى الدكتور منصور الحازمي الأستاذ بجامعة الملك سعود بالرياض والتي يطيب لنا أن نختتم هذه الإطلالة على حياة العلامة حسن ظاظا بهذا المقطع من النشيد الأول منها، حيث يصف حال البهلول وهو يتجول في حاله وأسماله فيقول:

لفه الصمت غير نوح حمامه … والعصا ينقل الطريق أمامه
ولم يكن بالضرير لكن دنياه … تعامت عنه، وملت مقامه
والدجى يملأ السماء ثقوبا … يبلغ الغيب خلفها أحلامه
والضحى يرسل الشعاع سياطا … من لهيب تذيب حتى عظامه
والورى حوله ظلال، وأشباه … ظلال لا تستثير اهتمامه
وهو يمشي كأنما الفلك الدوار … قسرا إليه شد زمامه
والثرى مدّ تحت رجليه لغزا … يتحدى ضياءه وظلامه
هو يمشي ورأسه كل شيء … فيه يمشي مسابقا أقدامه

هذا هو حسن ظاظا، الشاعر، والثائر، والمثقف، واللغوي، كشكول الفن والآثار والنحت والتاريخ والحضارة، والرسم والموسيقى والدراسات اللغوية، الذي غاب بغيابه عالم خلوق صدوق قلّ نظيره.

المصدر : الجزيرة