مقابلة خاصة.. العلامة محمود شاكر وحوار الأباطيل والأسمار

blogs الشيخ محمود شاكر
العلامة الراحل محمود محمد شاكر دافع عن العربية وواجه التغريب وخاض معارك أدبية حول أصالة الثقافة العربية وحقق كتبا تراثية (مواقع التواصل)

القاهرة – في السابع من أغسطس/آب 1997، ودّع العلامة والمفكر والكاتب الكبير محمود محمد شاكر الحياة (ولد عام 1909 بالإسكندرية شمال مصر) تاركا إرثا أدبيا مهما وعدة كتب ومؤلفات، ورغم قلة الحوارات التي أجراها في حياته فقد وافق على إجراء هذا الحوار في 5 فبراير/شباط 1994، ثم أغلق أبو فهر بعدها داره وأصبح من الصعب جدا زيارته أو حتى الاطمئنان عليه إلا عن طريق ولده الدكتور فهر شاكر.

ولم ينشر هذا الحوار من قبل، إلى أن نشرته الجزيرة نت في هذه الصفحة في نوفمبر/تشرين الثاني 2020 وها نحن نعيد نشره الآن لأهميته.

ووصفه عالم التراث الراحل الدكتور محمود الطناحي بأنه "رزق عقل الشافعي، وعبقرية الخليل، ولسان ابن حزم، وشجاعة ابن تيمية"، وقال عنه الأديب عباس العقاد إنه "المحقق الفنان".

وقال العلامة شاكر في حوارنا معه إنه ترك مكانه في الشعر لغيره، وانشغل بفحص التراث بعيون القلب، واعتبر أن "بلادنا العربية منكوبة بقناصل المحتلين والأجراء والعملاء الخونة، من تلاميذ المجرم دنلوب وأبناء الخائن يعقوب".

وذلك في إشارة إلى كل من المعلم يعقوب أو الجنرال يعقوب الذي تعاون مع الحملة الفرنسية التي احتلت مصر بقيادة نابليون بونابرت في نهاية القرن 18، وكذلك دوغلاس دنلوب وهو معلم ومبشر أسكتلندي كلفه اللورد البريطاني كرومر بوزارة المعارف، ووضع نظاما تعليميا اعتبر أنه لخدمة أهداف الاحتلال الإنجليزي لمصر، وأطيح به في أعقاب ثورة 1919.

وقال محمود شاكر إن كتابه "القوس العذراء" تجربة متميزة في تاريخ الشعر العربي المعاصر، معتبرا "جهاز الاستشراق هو الفيلق المتقدم لجهاز الاستعمار وجهاز التبشير".

واعتبر أن "أمتنا تمتاز بالثقافة المتكاملة.. على عكس الثقافات الجزئية التي تميز الأمم الأخرى"، وأضاف "كتبت (المتنبي) على منهج فريد، مباين كل المباينة لكل ما كان معروفا من مناهج البحث حتى عام 1935".

وقال "أنا ومنهجي شيء واحد. ومن لا يريد أن يعرف، فلا أحب أن يعرفني أو أعرفه"، واعتبر أن "جامعاتنا تمارس الدجل والوهم باسم البحث العلمي… ولدي من الأسرار ما يفضح 5 أجيال كاملة"، وأفاد بأن "جائزة الملك فيصل العالمية التي حصلت عليها عام 1984 أفضل عندي من جائزة نوبل، لأنها تقويم لي من أبناء لغتي وديني وانتمائي".

التقيته وأنا خائف ومضطرب، لأول مرة في حياتي وليس لآخر مرة، وذلك لكثرة ما سمعت عنه من كلام عنيف، ولاعتداده بنفسه الذي يفوق كل تقدير، وللفارق الزمني الكبير، فقد كان علما شامخا قبل أن أولد بثلث قرن من الزمان، بعد رحلة علمية من العيار الثقيل.

دوت في الأسماع عام 1987 مقدمته للطبعة الثانية من كتابه "المتنبي" والتي نشرت في كتيب مستقل بعنوان "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا"، وأصبحت بين المثقفين كمقدمة ابن خلدون، وعليه فقد تأبطت الديوان المفخم "نجاوى محمدية" لشاعر الإنسانية المؤمنة عمر بهاء الدين الأميري، والذي كان هدية رابطة الأدب الإسلامي العالمية لأبي فهر، وذهبت رسولا من الرابطة إلى داره العامرة في مصر الجديدة.

دخلت، وسلمت، وقبّلت يده على الرغم منه، ثم جلست إليه وكان هذا الحوار الذي ملأ الصمت 3 أرباعه، وأقحمت الكلمات نفسها في أقل من ربعه ولا أكثر.

  • بارك الله فيكم شيخنا الجليل، ومتعكم بالصحة والعافية؟

– جزاك الله خيرا يا بني.. من أنت وماذا تريد؟

عرّفته بنفسي تعريفا موجزا على استحياء، ثم قلت له: هذا الديوان "نجاوى محمدية"، هو هدية الشاعر السفير عمر بهاء الدين الأميري، وقد أرسلتني رابطة الأدب الإسلامي به إليكم، وبعدة كتب أخرى، وأستأذنكم في إجراء حوار صحفي، لأنها فرصة قد لا تتكرر بالنسبة لي.
– لا داعي للكلام. (ثم سكت!)

• بدأ اللقاء بحديث الشعر، واستذكرت مطلع قصيدة قديمة منسوبة له، يقول فيها:

اذكري قلبي.. فقد ينضر من ذكراك عودي

أنا غصن في رياض الدهر ظمآن الصعيد 

صوّحتني غلة الوجد، وأجّت في وريدي 

ومشت نارا على أنوار زهري وورودي 

فاذكري قلبي فقد ينضر من ذكراك عودي

أنا غصن كخيال السيف في وهم الطريد

– كفى، كفى. هذه القصيدة نشرت في مجلة الرسالة عام 1940 (بالرجوع إلى المجلة تبين أنها منشورة في العدد 344 من السنة الثالثة عام 1940)، وهناك غيرها شعر كثير، لكنني -منذ مدة طويلة- لم أعد أنظر إلى شعري بعين التقدير، منذ تركت مكاني في الشعر لغيري وانشغلت بما هو أهم وأعمق.. وأنفع.

  • ما هو ذلك الأهم؟ 

– الدرس الأدبي والمنهجي، وفحص التراث بعيون القلب، والذود عن حرماته ضد اللصوص وقطاع الطرق وربائب الاستعمار وقناصل المحتلين في بلادنا المنكوبة بهؤلاء الخونة والأجراء والأنذال، من المتورطين في معركة "التبشير الثقافي" والعمالة الحضارية.

  • ولمن تركت مكانك ومكانتك في الشعر؟ 

– لمجموعة جيدة ومُجيدة، يأتي في مقدمتها محمود حسن إسماعيل.

  • وهل لكم أشعار تعتزون بها.. مهما كان موقفكم من مسيرتكم کشاعر؟ 

– نعم.. هناك "القوس العذراء"، وهناك "اعصفي يا رياح"، والتي أقول فيها:

اعصفي يا رياح من حيث ما شئت وعفي الطلول والآثارا

وانزفي يا رياح آية هذا الغيم حتى يحور ليلا سرارا

وازأري يا رياح في حرم الدهر زئيرا يزلزل الأعمارا

وقد غناها مؤخرا المطرب الشاب "علي الحجار" بصورة معبرة ومؤثرة.

  • (بعد صمت طويل).. لقد رفضتم كل الوظائف الحكومية والرسمية طوال عمركم المبارك، فلماذا قبلتم بعد ذلك عضوية المجمع اللغوي في دمشق والقاهرة؟ 

– لأن مثل هذه الوظائف ستأكل وقتي، وربما تضع في طريقي ما لا يقنعني، أو يشبعني. أما عضوية هذه المجامع اللغوية فهي تقدير وتوظيف لدوري وحصادي الذي يسعدني دائما أن أضعه في خدمة أمتي وديني.

  • هل ترى أنكم قد حصلتم على التقدير المناسب لهذه الرحلة الصعبة والمتفردة التي قطعتها وحدك كمتسلق الجبال؟

– رغم حصولي على جائزة الدولة التقديرية عام 1981، وجائزة الملك فيصل العالمية للأدب عام 1984، وهي أفضل عندي من جائزة نوبل، لأنها تقدير لي من أبناء ديني ولغتي وانتمائي، والجميل أن الكتاب الذي رشحني لنيل هذه الجائزة كان كتاب "المتنبي" الذي كتبته وأنا في السادسة والعشرين من عمري عام 1935، إلا أن التقدير الأولى لي هو أن الله هداني مبكرا لأدرك دوري، ووضعني على الطريق الصحيح الذي أخدم به ديني ولغتي وأمتي، ولذلك فأنا أعتبر أن كل يوم مرّ من عمري هو تقدير متجدد لي، يهتف بي دائما "سر إلى الأمام.. فأنت على حق".

  • هل تؤمن بالتعليم الجامعي والدرجات الجامعية والدراسات العليا بها؟

– نعم، أؤمن بهذا كله أشد الإيمان، وأقدره أعظم التقدير، ولكن معظم جامعتنا اليوم تمارس الدجل والوهم باسم البحث العلمي، ومعظم درجاتها العلمية وألقابها البراقة ما هي إلا أردية وأغطية وأستار لجهل مطلق، ويسرني جدا مساعدة الباحثين الجادين الذين يرغبون في طلب العلم حقا.

والأسرار التي عندي في ذلك مخزية ومحزنة، وتفضح 5 أجيال كاملة من أصحاب الألقاب الضخمة والأسماء المتورمة.

العلامة الراحل محمود شاكر
العلامة الراحل محمود محمد شاكر كان عضوا بالمجمعين اللغويين في دمشق والقاهرة (الجزيرة)

أباطيل وأسمار

  • البعض يراك متحاملا على الثقافة الغربية بشكل صارخ، لدرجة التخوين في كل شيء، ومن كل شيء؟

– هذه نظرة المتعصبين السطحيين، والجهلاء المتفيهقين، فإن كل ما كُتب بأسلوب مقنع ومقبول، لا يرفضه عقل، بل يرتضيه كل الرضا.

لأنه لا يمكن لأي إنسان أن يدّعي لنفسه أنه على شيء من الثقافة، ما لم يستبحر في ثقافة الآخرين، بعد أن يملك لغتهم، ويفقه حياتهم. لكن تحصيل ما عند الآخرين وهضمه شيء، والاسترقاق الثقافي لهم شيء آخر!

أما ما كتب بماء الأهواء والإغواء والإغراء، مما حاول حبكه دهاقنة الاستشراق وقناصل الاستعمار، زورا وبهتانا، فلا حرج عليك أن تلقي به في "سلال المهملات"، وما سقته من الأباطيل والأسمار لا يعدو أن يكون قطرة من بحر.

ذلك لأن ثقافة كل أمة تستلزم 3 عناصر أساسية، هي: الإيمان والعمل والانتماء، وهي سرّ ملثم في كل أمة من الأمم، وهذا مما يستحيل على المستشرق أو المستغرب. بحسبه تحصيل بعض المعرفة السطحية -مهما أوهم الجهلاء بالمنهج البحثي- يطنطن ويدندن بها على أنغام الاستخراب، ولكنه "سراب" يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.

وأضرب لك مثالا: أرأيت رجلا من غير الإنجليز أو الألمان مثلا، قد أصبح مسموع الكلمة مرهوب الجانب في آداب هاتين الأمتين؟ هذا غير ممكن. فما الذي يجعل غير الممكن هذا، ممكنا في أمتنا وثقافتنا؟! نحن وحدنا.

فجهاز الاستشراق هو الفيلق المتقدم لجهاز الاستعمار وجهاز التبشير، يرتاد لهما الطريق، ويدلهما على مسالك الأمم والممالك، وهو المسؤول عن تضخيم وتفخيم أدوارهما، وبيعها على جهلائنا أو أقزامنا الصغار.

فأنا لست متحاملا على الثقافة الغربية، وإلا لما أجدت الإنجليزية، ولما قرأت بها قراءات واسعة، فقد بدأت حياتي مترجما في "المقتطف"، وترجمت أشعارا وآثارا لأدوين مارکهام، وريتشارد لاغاين، وأوسكار وايلد، وروبنسون جفرر، وغيرهم، ولكنني متحامل على الثقافة المجزوءة والمزورة والمتآمرة التي يبوء بها صناعها المجرمون وحملتها المأجورون، وساء يوم القيامة حملا.

وما فعله ذلك الفيلق الخائن بأمتنا وثقافتنا يحتاج إلى رجال ينفون تحريف الغالين وانتحال المبطلين، من أمثال لويس عوض وسلامة موسى، كواجهة لجيل كامل من أبناء الصليبية العاتية والحضارة الغازية الذين تبسط تحت أقدامهم السلطة، وتوضع بين أياديهم الأموال، ليستبيحوا كل شيء في الأمة، دون حسيب أو رقيب.

  • لقد قام الدكتور مجدي وهبة بالرد على "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا" برسالة شهيرة عنوانها "غضب مرتقب" (An anger observed)، ونقلها إلى العربية وقدّم لها زهير شاكر، ونشرت في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1991، ما تعليقكم عليها؟ 

– مثلما قال زهير شاكر في تقديمه: ليس هذا لقاء بين شبيهين متماثلين في الرأي أو التكوين أو التوجه، بل هو بين رجلين على طرفي نقيض من حيث هذه العناصر الثلاثة.

فأولهما، قبطي من أسرة عريقة المال والسياسة والثقافة الأجنبية، ومعروف بصلاته الوثيقة بالأوساط الاستشراقية.

وثانيهما: فهو مسلم، من أسرة مسلمة عريقة أيضا في خدمة علوم العربية والإسلام، تمرد منذ شبابه الباكر على التعليم الجامعي المصطبغ بالصبغة الاستشراقية، ونذر نفسه للعروبة والإسلام، فهما -على ما يبدو- خطان متوازيان، لا يلتقيان.

  • ماذا تعني "الثقافة" بالنسبة لكم؟

– أنا مؤمن أشد الإيمان بالثقافة "المتكاملة" التي ميزت حضارتنا على امتداد عمرها الذي عاشته، فكرا أو ذكرا، على مدى قرونها الطويلة.

  • وهل استطعت أن تقدّم من نفسك أو مشروعك، مثالا لهذه الرؤية؟

– نعم، وكما قلت مرارا وتكرارا، لقد تتبعت التراث العربي بعقلي وقلبي وبصري وبصيرتي ولساني، وأعملت كل ما وهبني الله عز وجل من فطرة وسليقة في ذلك العمل البالغ المشقة والتعب، ولكني كنت أنشد رحلة متميزة في "الفحص الأمين" لكل الإرث الذي آل إليّ من آبائي وأجدادي، بغية الوصول إلى إبانة صادقة ودلالة ناطقة، لميراث هذه الأنفس والعقول والأفهام.

 ما بين المنهج والتطبيق

  • إذن كيف تحول هذا المسلك الشخصي إلى منهج؟

– لقد جهدت واجتهدت في تحويل هذا المشوار الضخم إلى "منهج"، التزمت به في دراستي الضخمة حول "المتنبي" وأنا في السادسة والعشرين من عمري، بعد أن استوى لي المنهج واستبان، وتم إنضاجه على نار هادئة.

وحين قرأت "الرسالة الشافية" للإمام عبد القاهر الجرجاني المتوفى عام 474 للهجرة، وجدتني قد عثرت فيها على ما يعزز منهجي في "اللفظ والنظم"، وكان هذا السُلَّم الراقي عند عبد القاهر الذي صعد على درجه شيخه الفارسي سيبويه الذي تتلمذ من قبل على شيخه الجليل الخليل بن أحمد الفراهيدي المتوفى 175 للهجرة.

  • كيف كتبتم دراستكم التاريخية "المتنبي"؟

– كتبت "المتنبي" على منهج فريد مباين كل المباينة لكل ما كان معروفا حينئذ من المناهج، وقد أخرجته عام 1935، ولم يطبع بعد ذلك إلا عام 1987. وقد أحدث هذا الكتاب ضجة واسعة، كنت أرى نفسي دونها، ولكن أهم ما رسخه هذا الكتاب هو المنهج، وما قبل المنهج، وما بعده.

وقد أخرج بعده الدكتور طه حسين عام 1938 كتابه "مع المتنبي"، ودارت بيني وبينه معركة حامية على مدى 13 حلقة نشرت بجريدة البلاغ في حينها، لأن علاقة كتاب طه حسين بكتابي كانت كعلاقة كتاب طه حسين "الشعر الجاهلي" بمقالة "مرغليوث" في سقطة علمية فاضحة.

  • من تحب أن يصحبكم على الطريق؟

– إنني ممن يريدون أن يعرفوا، والذي لا يريد أن يعرف فلا نسب بيني وبينه، ولا أحب أن أعرفه أو يعرفني ساعة من ليل أو نهار.

  • كيف استطاع أبو فهر أن يكون "القوس العذراء" في الثقافة والفكر العربي والإسلامي؟

– حاولت أن أكون رجلا صادقا وأمينا ومفيدا وعميقا، وأن أكون مجددا ومحافظا في آن واحد في كل ما كتبت من "أباطيل وأسمار"، أو شرحت وحققت من "طبقات فحول الشعراء" لابن سلام الجمحي، أو في "إمتاع الأسماع" أو في تعليقاتي على "جمهرة أنساب قريش"، أو في تعليقي على كتاب أبي جعفر الطبري في تفسيره للقرآن في 16 مجلدا ضخما، وفي كل ما خط قلمي من كلمات ومقالات أو نطق به لساني من جمل وعبارات، حتى فيما قدمت من أشعار مثل "القوس العذراء" أو "اعصفي يا رياح"، أو غيرها مما لم ينشر من "الحجازيات" التي كتبت في صدر الشباب. فإنني أؤمن إيمانا راسخا أنني أؤدي "وفي الصدر حزّاز من الوجد حامز"، كما قال الشماخ رضي الله عنه، وهو يبكي قوسه العذراء!

وقد صدرت عدة دراسات عن هذا الديوان من الأستاذ الشاعر عادل الغضبان، والدكتور زكي نجيب محمود، والدكتور محمد مصطفى هدارة، والدكتور محمد أبو موسى، وغيرهم، وقد طبع لأول مرة في فبراير/شباط 1952، ثم نشر بعد ذلك بثلاثين عاما، عام 1982.

"والقوس العذراء" ليست سوى فريدة من فرائد زفرات صادقات، استوحيتها من قصيدة الصحابي الجليل الشماخ بن ضرار الغطفاني الذي اشتهر ببراعته في الوصف، فوصف قوسا قطعها القواس "عامر الخضري"، فقوسها وسواها وأحبها كل الحب، ثم اضطر لبيعها في موسم الحج، فأخذته اللوعة وألهبه الجوى، فقال في ذلك المشهد 23 بيتا، استوحيتها في قصيدة طويلة، بلغت 290 بيتا، بدأتها بقولي:

أين كانت في ضمير الغيب من غيل نماها

كيف شفت عينه الحجب إليها فاجتباها

إلى أن اختتمتها بقولي:

ورأى كفيه صفرا ورأى المال، فتاها

لمحة، ثم تجلى الشك عنه، فبكاها

ورثاها بدموع، ويحه كيف رثاها

فتولى وسعير النار يخفي ولظاها

حسرة تطوى على أخرى، فأغفى، وطواها

وأذكر أن الدكتور إحسان عباس قال يوما عن هذه القصيدة: "خصائصها ترشحها لأن تكون معلما على طريق الشعر الحديث، ولو شفعها شاكر بنظيرات أُخر، لرسخ مذهبا شعريا جديدا".

  • لماذا لم تقم بتقديم منهجك حول "الثقافة المتكاملة" أولا، ثم تقدم النموذج التطبيقي لهذا المنهج؟

– كان من السخف والترخص أن أبدأ للناس بشرح منهجي، ثم أكتب ما أكتب لأقول للناس هذا هو منهجي، وها أنذا أطبقه فيما تقرؤون، بل العكس هو الصحيح. وهذا أمر في الأدب أشبه ما يكون بالنظرية في ميدان العلوم الطبيعية، ولا بد أن يقوم على سعة نادرة في العلم وبراعة فذة في الاستنباط"، على حد قول فؤاد صروف في المقتطف حينئذ.

  • يؤخذ على أبي فهر إعراضه عن الحياة الثقافية بشكل واضح طوال حياته؟

– فساد الحياة الأدبية والفكرية هو الذي اضطرني إلى شرح المنهج، وما قبل المنهج، فيما بعد، وهذا يعني أني أوضحت المادة، والتطبيق وهو أصل أصيل في كل لغة وكل لسان وكل أمة وكل علم وكل ثقافة. وأنا لم أعرض عن الحياة الثقافية من تلقاء نفسي، بل إن جوها العام كان جوا طاردا لكل أصيل أو مهتم بشأن ديننا وأمتنا ولغتنا وتراثنا.

"قناصل السطو وصبيان التفريغ"

  • لكننا نعلم، ويعلم كثيرون، أن لكم صحبة ثقافية رفيعة من أهل الصفوة؟

– نعم، لنا صحبة عميقة وواسعة، بجيل كامل من الأساتذة والتلاميذ يضم فقهاء وأدباء وشعراء وساسة ومفكرين، يحسنون تذوق الكلام وهضم التراث، ويجيدون فهمه والإفادة منه، وحمايته من ألاعيب المتربصين والمخربين الصغار، من عبيد السطو الغربي الأثيم، وصبيان التفريغ والانبطاح والتبعية.

ولعل أعلام مدرسة النهضة وأبناء التجديد والأصالة من أرباب الثقافة المتكاملة والفكر الحي، هم مني وأنا منهم، سواء التقينا على صحبة أم لم نلتق.

  • مثل من؟

– من هذا القبيل أستاذي (مصطفى صادق) الرافعي الذي ظللت على علاقة وطيدة به منذ كنت أراسله وأنا في السنة الأولى الثانوية عام 1921 إلى أن توفاه الله عام 1937، وسعيد الأفغاني، ومحمد لطفي جمعة، وعثمان عسل، والشيخ الباقوري، وعبد العزيز كامل، والشاعر التركي الكبير إبراهيم صبري، ابن شيخ الإسلام العلامة مصطفی صبري الذي حكم الزعيم الخائن "أتاتورك" عليه وعلى والده بالإعدام، والأديب الموهوب يحيى حقي، والزعيم السياسي الأديب فتحي رضوان، ومالك بن نبي، وعلال الفاسي، ومحمد سعيد العريان، إضافة إلى الشاعر الضخم محمود حسن إسماعيل الذي تركت الشعر من أجله، مؤمنا أنه سيقوم بهذه المهمة خير قيام.

  • وماذا عن الثوار والأحرار والعلماء والدارسين من شتى أرجاء العالم الإسلامي الذين يتخذون من داركم دارا وقرارا؟

– كانت دارنا والحمد لله منذ الأجداد دارة للثوار والمصلحين، والقادة والدارسين، وأعتقد أنه ما من رجل من هؤلاء إلا وشرفت به دارنا. لكن على المستوى الشخصي فإنني أعتز كثيرا بصحبة آل الخطابي وعلال الفاسي المجاهدين بالمغرب العربي، وآل صبري من زعماء الترك، كما أعتز بالشيخ محب الدين الخطيب.

كما أعتز اعتزازا بالغا بالمفكر الألمعي الجزائري المهندس مالك بن نبي، صاحب مشروع النهضة والتمدن، ورجل الظاهرة القرآنية، وصاحب الرؤية الإصلاحية الشاملة، وقد شرفت بأن قدمت له كتابه الهام "في مهب المعركة" الذي طبع بالقاهرة عام 1941، وهو من أنفس ما كتب أخي مالك من مقالات وبحوث، لأنها تكشف عن فكر رجل خبير بالأمور ساعة بعد ساعة، ثم خرج برؤية أصيلة في عمقها، مستشرفة في رؤيتها، ذلك لأنها تكشف لنا عن تاريخ الشرور التي ارتكبها الاستعمار في بلادنا، في أكبر مؤامرة على العالم الإسلامي وتوابعه، وما نحياه اليوم من نكبات ونكسات، ما هو إلا من بنات فلك الاستعمار، لا بنات فلك الشمس والقمر.

وهذا المفكر الخبير هو أفضل رجل يكشف لنا عن الظاهرة "القابلية للاستعمار" التي جعلتنا نحيا حياة كأنها نابعة من أنفسنا، ولكنها حياة الرقيق الذين ينقادون كالأنعام، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

ومالك بن نبي رجل رأس مال ثقافته هو "الدين" الذي هو فطرة الإنسان، وبقدر قوة الدين وقوة فهمه تتضح المعالم في كبح الجموح، ورد الضلالة والزيغ والهوى والجور.

وهو الأصل الأصيل في ثقافة الأمم الأصيلة، وأمتنا تمتاز بين كل الأمم بهذا الأصل الأصيل المحفوظ على مدى 14 قرنا من الزمان، وهو الذي حفظ عليها ثقافتها رغم ما مرّ بها من نوازل وقوارع ونكبات، وما تسلل إليها من آفات وعلل وأمراض، جراء الحروب الصليبية التي استمرت في جاهليتها الجهلاء لأكثر من قرنين ونصف من الزمان.

  • ترى ما السر الكامن في الحضارة الإسلامية؟

– سر قوة الحضارة الإسلامية هو علم الدين الذي يربط الدنيا بالآخرة، والإنسان بالزمان والمكان، وتجعل صناعته فيها غرس الخير ونماء الإحسان.

  • البعض يرى أن "مصر الحديثة" مدينة لرجلين: رجل الحكم "محمد علي"، ورجل العلم "رفاعة الطهطاوي"، ما رأيكم؟

– رفاعة الطهطاوي -رغم عبقريته- إلا أنه أحدث صدعا في ثقافة الأمة، وهو الذي قسمها إلى شطرين بين "الأزهر" و"الألسن"، وما تورط الطهطاوي في ذلك الفصل الشائن بين الديني والمدني إلا بتحريض من محمد علي، ذلك الجاهل الذي لم يقرأ ولم يكتب ولم يتعلم قط أو يتهذب، ولكنه سعى بكل حيلة لتحطيم الأزهر -مركز الثقافة المتكاملة على مدى قرون متطاولة- وأسقط هيبته وعزل شيوخه عن جمهور الأمة، ومن يومها ذهبت الثقافة المتكاملة أدراج الرياح.

  • وماذا عن محمد علي؟ 

– محمد علي مغامر غدار، ومعظم أبناء السفاح الغربي في ثقافتنا المعاصرة من ربائبه وربائب أولاده من بعده، وأمتنا المعاصرة كما تعاني من تلاميذ "دنلوب" في الغزو الفكري، تعاني من تلاميذ المعلم يعقوب في الغزو الوطني والعسكري، وعلى حد قول البحتري:

ومن العجائب أعين مفتوحة .. وعقولهن تجول في الأحلام

فتلاميذ الخائن "يعقوب" من حزب فرنسا، لا يقلون قسوة ولا خطورة ولا خيانة عن تلاميذ المنصّر العاتي دنلوب من حزب بريطانيا، وكل تلاميذهم من العملاء والخونة والمجرمين والمخربين يجب أن يطاردوا ويعاقبوا كما يطارد اللصوص والشطار وقطاع الطرق.

المصدر : الجزيرة