العلوم الطبيعية في مغرب القرن الـ17.. حوار الجزيرة نت مع جاستن ك. ستيرنز عن كتابه "كشف العلوم"

يشير الأكاديمي جاستن ك. ستيرنز لنموذج الطبيب عبد الغني الزموري صاحب مؤلف "القول المفيد في علاج الحصى بقول سديد" الذي عاصر حقبة السلطان أحمد المنصور الذهبي، مثالا لعالِم لا تتم الإشارة إليه كجزء من مجتمع علمي كان يعيش في المغرب، ويُظهر كيف أن العلوم الفلسفية كانت تمارس على نطاق واسع وراسخ ومقبول داخل الدوائر العلمية في المغرب في القرن الـ17

جاستن ك. ستيرنز(Justin K. Stearns) أستاذ مشارك في جامعة نيويورك
جاستن ك. ستيرنز أستاذ مشارك في جامعة نيويورك، ونشر عام 2011 كتابه الأول "الأفكار المعدية.. العدوى في الفكر الإسلامي والمسيحي القديم في غرب البحر الأبيض المتوسط" (مواقع التواصل الاجتماعي)

يدور الجدل حديثا حول الفصل والوصل في العلاقة بين أجناس العلوم الطبيعية والدينية، ويتحدى كتاب جديد أفكارا سائدة عن العلوم الطبيعية في العالم الإسلامي عبر إظهار حيوية المجتمع الإسلامي، وكيف ازدهرت العلوم الطبيعية فيه بطريقة غير مماثلة لنظيرتها في أوروبا.

يقدم كتاب "كشف العلوم: العلوم الطبيعية في المغرب في القرن الـ17" (Revealed Sciences: The Natural Sciences in Islam in Seventeenth Century Morocco) الذي ألفه جاستن ك. ستيرنز (Justin K. Stearns) الأستاذ المشارك في الدراسات العربية بجامعة نيويورك، مناقشة حول وضعية العلوم الطبيعية في المغرب خلال القرن الـ17 كجزء من المنظومة المعرفية الناظمة للممارسة والدراسة الإسلامية.

ويظهر في الكتاب -الصادر عن مطبعة جامعة كامبريدج العريقة لسنة 2021- مدى ترابط العلوم الطبيعية بنظيرتها الدينية، وهو ما يتجسد مثلا بكيفية تدريس الرياضيات وعلم الفرائض (المواريث) معا، أو كما ذكر المؤلف في الفصل الثالث عن اعتماد الفقهاء على الطب لمعالجة تحديات تشريعية جديدة، وهو أمر يتوافق مع رؤية الفقيه المالكي المغربي أبي علي الحسن اليوسي (توفي 1102 هـ/1691م) للعلوم الواسعة والتي تستوجب على العارف ضرورة تقييمها لإفادة الأمة الإسلامية.

كما يرى الكتاب أنه من الصعب فصل ما أنتج من علوم "طبيعية" في السياق الإسلامي عن المعرفة الدينية بحكم ترابط دوافع انبعاثهما من طرف العلماء المشتغلين فيهما معا، حيث تمت دراسة العلوم الطبيعية عبر الشبكات التربوية المغربية، التي كانت راسخة في المؤسسات الدينية مثل المسجد والجامع، وهي مؤسسات اعتمدت على الدعم الاقتصادي المباشر من الأوقاف الإسلامية، مثل الصدقات النابعة من الزوايا الصوفية.

ولم يكن بالإمكان لغالبية العلماء الذين درسوا هذه العلوم في هذه المؤسسات أن يستمروا في الكتابة والدراسة بشكل أعمق في مجالات الطب وعلم الفلك وعلم التنجيم والكيمياء والأدب لولا هذه الشبكة المترابطة.

يحاول الكتاب توصيف وضع العلوم الطبيعية في حقبة القرن الـ17 التي تزامنت مع تفكك الدولة السعيدية بالمغرب، إذ انزلق المغرب بعد وفاة السلطان مولاي إسماعيل عام 1727 إلى حالة من عدم الاستقرار السياسي حتى بلغ السلطان محمد بن عبد الله العلوي (محمد الثالث) الحكم؛ إذ تميزت مرحلته التي امتدت لـ33 عاما بوجود سلطة سياسية وعسكرية مركزية، كما شهدت حقبته مشروعا إصلاحيا طموحا لإصلاح المؤسسة الدينية في المغرب.

وتميزت هذه الفترة بوجود تجاذبات بين السلطة المركزية والسلطة الدينية للفقهاء، أرخت بظلالها على وضعية العلوم الطبيعية بالمغرب؛ حيث حجّمت دور العلوم العقلية بالمغرب في تلك الحقبة، حسب تصور الأكاديمي والباحث خالد الرويحب.

غلاف كتاب Revealed Sciences
كتاب "كشف العلوم" يظهر حيوية المجتمع الإسلامي الحديث عبر دراسة حالة المغرب في القرن الـ17 (الجزيرة)

بيد أن كتاب "كشف العلوم" يرى أن مصير العلوم الطبيعية بالمغرب خلال القرن الـ18 يكتنفه شيء من الغموض، كما أن الوضع ليس بتلك القتامة المتخيلة، إذ إن قواميس السير الذاتية تظهر وجود علماء تابعوا ممارستهم للعلوم الطبيعية خلال حقبة السلطان محمد بن عبد الله، كما أن فهرسة ابن عجيبة التي سلّط الكتاب الضوء عليها، تظهر استمرار ممارسة العلوم الطبيعية واعتبارها جزءا من حياة بعض العلماء المغاربة البارزين إلى حدود القرن الـ19.

كما تمتع علماء كبار مشتغلين بالعلوم الطبيعية بحظوة كبيرة، وكمثال على ذلك أسهب الكتاب في مناقشته لحالة أبي علي الحسن اليوسي الذي اتسمت علاقته بالسلطان بالاحترام. وهذا الحوار الذي سيصب حول مضامين الكتاب، سيسعى إلى كشف وضع العلوم الطبيعية بالمغرب في هذه الحقبة الزمنية من تاريخ المغرب، فإلى الحوار:

  • اخترتَ حقبة بعينها من تاريخ المغرب حتى تُظهر من خلالها وضعية العلوم الطبيعية، لماذا اخترتَ هذه الحقبة بالتحديد؟ كما أنك حاولت إظهار وضعية هذه العلوم بالمغرب من خلال دراسة وضعية بعض علمائها المغاربة، كيف كان ذلك؟

أحاول تقديم لمحة عن التاريخ السياسي والفكري للمغرب إلى حدود القرن الـ17، جنبا إلى جنب مع واقع البيئة التعليمية التي شهدها المغرب في القرن الـ16، وهو القرن الذي تلا وفاة أحمد المنصور الذهبي عام 1603. وقد تناولت أيضا بعض التحديات التاريخية والمفاهيمية الرئيسية لكتابة التاريخ الفكري لهذه الفترة؛ والمرتبط أساسا بسرد الانحدار الفكري المغربي خلال هذه الفترة.

حاولت أن أظهر بعض معالم عدد من المفكرين الكبار مثل أبي علي الحسن اليوسي، كما اهتممت بالحياة الفكرية لتلك الفترة. وخلال هذه الحقبة، لعبت الزوايا الصوفية الموجودة في المناطق النائية في المغرب دورا تكميليا مع ما كان يحدث عادة في المناطق الحضرية مثل فاس ومراكش، حيث لعبت هذه الزوايا دورا مهما في محو الأمية والانخراط في التقاليد العلمية الموجودة في المغرب آنذاك على وجه التحديد في حالات مثل الزاوية الناصرية في تمكروت وزاوية سيدي أحمد أوموسى في إيليغ، والتي استضافت عددا من العلماء كما تمتعت بوسائل اقتصادية كافية لدعم دراسات في مجموعة واسعة من العلوم.

  • كان هناك من يصور وجود تعارض بين العلوم الدينية والعقلية في الحضارة الإسلامية عموما وهو ما يشمل المغرب، لكنك عبر سِيَر مجموعة من العلماء مثل اليوسي تُظهر عكس ذلك في الواقع المغربي، كيف ذلك؟

خلال القرن الـ19 والقرن الـ20، تبنى العلماء الأوروبيون والعرب سردية التدهور الفكري للعالم الإسلامي خلال الفترة الحديثة المبكرة. كان أحد العناصر الأساسية في هذه السردية هو أن العلماء الذين اشتهروا بمعرفتهم بالعلوم العقلانية والفلسفية تعرضوا للاضطهاد من قبل المؤسسة الدينية التي تعاملت مع العلوم الطبيعية على أنها غير شرعية ومقاربة للهرطقة.

في القرن الـ17 كان اليوسي مدركا بالفعل أن المنطق الذي تمدد في المنطقة الإسلامية والذي كان يعادي الفلسفة لا يعبر سوى عن موقف جاهل بها، بالطبع، لا يعني أنه لم تكن هناك معارضة للعلوم الفلسفية والطبيعية في بعض الأوساط، بل للتأكيد على أن مثل هذه المعارضة لا يمكن أن تعبر عن رأي الغالبية.

إن القراءة المتأنية لمجموعة من المواد المتعلقة بالسيرة الذاتية والتصنيف تقدم لنا فهما منطلقا من السياق لمكانة العلوم الطبيعية في مجتمع مسلم معين في نقطة زمنية معينة. وهو ما يمكن أن نستشفه من خطابات اليوسي؛ حيث لا ينبغي فقط فهم جميع العلوم التي تفيد المجتمع المسلم على أنها شرعية وفقا للفقه الإسلامي. وقد حاولت تأطير تاريخ العلوم الطبيعية في العالم الإسلامي في إطار يجمع بين ثنائية الازدهار والاضطهاد للتحقق من طبيعة هذه العلوم في إطار الدراسات المغربية في القرنين الـ16 والـ18. وقد أظهرتُ أن أدبيات السيرة الذاتية تحتفي بالعلماء المتخصصين في العلوم الطبيعية.

فالطبيب عبد الغني الزموري صاحب مؤلف "القول المفيد في علاج الحصى بقول سديد" والذي عاصر حقبة السلطان أحمد المنصور الذهبي، يعد مثالا لعالِم لا تتم الإشارة إليه كجزء من مجتمع علمي كان يعيش في المغرب، كما أن العلوم الفلسفية كانت تمارس على نطاق واسع وراسخ ومقبول داخل الدوائر العلمية في المغرب حينها.

  • كيف كانت العلوم الطبيعية في القرن الـ17 في المغرب؟ وما أهم المجالات التي شهدت حيوية؟ وهل تعرضت العلوم الطبيعية بالمغرب لهجوم ونقد؟

كانت الدراسات في العلوم الطبيعية في المغرب في تلك الحقبة غنية ومتنوعة، حيث غطت علم الفلك وعلم التنجيم والطب والكيمياء، بالإضافة إلى العلوم الطبيعية الأخرى التي لم أسلط الضوء عليها في الكتاب. هذه الديناميكية تعكس حضور وأهمية دراسة هذه العلوم وتدريسها في أدبيات السيرة الذاتية لتلك الفترة، رغم ذلك فإن هذا الأدب نظرا لتركيزه على العلوم الشرعية، فهو لم يعكس -كما يجب- الواقع الاجتماعي والفكري للعلوم الطبيعية بالشكل المطلوب، والذي يعبر عن واقع تلك الحقبة.

إن مراجعة أمثلة هذه العلوم، وإن كانت بإيجاز كما فعلت في الكتاب، ولفت الانتباه إلى الطرق التي ارتبط بها مؤلفوها بالشبكات العلمية والروحية المركزية في ذلك الوقت، تشير إلى إنتاج علمي أكثر ديناميكية في هذه المجالات وحضور اجتماعي أكثر تأثيرا مما وصفته التراجم لتلك الفترة.

وهنا أؤكد أن العلوم الطبيعية والرياضية لعبت دورا مهما في العوالم الفكرية والشرعية والاجتماعية المغربية التي ميزت تلك الحقبة.

أشير إلى أنه على الرغم من أهمية العلوم الطبيعية في المغرب في تلك الحقبة الزمنية، فإنها تعرضت لهجوم وانتقادات من بعض العلماء؛ فقد هوجمت الكيمياء بشكل خاص من طرف علماء مثل مسلمة بن أحمد المجريطي، وفي خطابات اليوسي المشهورة نجد أنه يدرج قصص مهاجمة صحة علم الكيمياء رغم أنه دافع عنها في كتابه "القانون في أحكام العلم وأحكام العالم وأحكام المتعلم".

  • هل أنتج العلماء المغاربة في تلك الحقبة دراسات في العلوم الطبيعية فقط، أو أن إنتاجاتهم كانت أوسع من ذلك؟

العلماء المغاربة لم ينتجوا فقط دراسات في العلوم الطبيعية، بل ناقشوا أيضا طبيعة وفعالية وصلاحية العلوم، مع التركيز غالبا على مخاوف المتكلمين بخصوص المسائل العقدية.

للاعتماد على حجة قدمها أندرو كننغهام فيما يتعلق بالفلسفة الطبيعية في أوائل أوروبا الحديثة، عندما كتب العلماء المغاربة في العلوم الطبيعية، كانت كتاباتهم تصب في البحث عن الله وعن تجليات قدرة الله في هذا العالم الزمني. ومن خلال كتاباتهم في العلوم الطبيعية جسّدوا إدراكا عميقا بفكرة خلق الله المستمر للعالم. هذا الوعي لم يقلل أو يُعِق تقديرهم للعلوم الطبيعية، كما لم ينتقص من دافعهم لاكتشاف التحولات الجديدة، بل دفعهم هذا الإدراك إلى تكثيف انخراطهم في هذه العلوم.

  • أشرتَ إلى وجود تحديات واجهتْ مسارك في إنتاج هذا البحث القيّم، ما أبرز هذه التحديات؟ وما الرسالة التي تريد تمريرها للباحث العربي المشتغل بهذه الدراسات؟

التحديات التي ارتبطت بالكتاب متعلقة أساسا بالمصادر، إذ إن غالبية المواد تظل حبيسة المخطوطات التي يغلب عليها صعوبة الوصول إليها وكذا قراءتها. ومن ناحية أخرى، فإن الموارد الأرشيفية للمؤسسات التعليمية ذات الصلة التي كان من الممكن أن تساعد على تسليط مزيد من الضوء على العلوم الطبيعية بالمغرب نادرة ويصعب الوصول إليها. وتعد مشكلة المصادر مشكلة كبيرة وتسهم في تأخر تأريخ التاريخ العلمي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

أما نصيحتي للباحثين هي أن هناك قدرا كبيرا من العمل الذي يتعين القيام به من أجل بناء صورة متكاملة للوضع العلمي بالمغرب، يتعين على الباحث التركيز على حقبة زمنية دقيقة، وعدم الانشغال بسؤال النهضة والانهيار بقدر انشغاله بطبيعة الحقبة التي يشتغل بها لتتبع التفاصيل، ويقوم بمراكمتها لإعطاء إجابة أعمق لسؤال النهضة المنشود الذي يشتغل به عدد كبير من الباحثين دون امتلاكهم صورة عن الوضع بشكل دقيق.

المصدر : الجزيرة