فيلسوفة فرنسية: تراجع المسيحية أعاد تشكيل الحضارة الغربية

تقول المؤلفة والفيلسوفة الفرنسية شانتال ديلسو: على مدى قرنين من الزمان، حاولت المسيحية الحفاظ على تأثيرها ونفوذها لكنها اصطدمت بمطالب التحديث وإطلاق الحريات الشخصية.

راهبة تمشي بجوار كنيسة نوتردام جنوبي غربي فرنسا قبيل مؤتمر الأساقفة الفرنسيين مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الجاري (الفرنسية)

في كتابها الجديد "نهاية المسيحية"، ترصد المؤلفة والفيلسوفة الفرنسية شانتال ديلسول أبرز التحولات التي شهدتها الحضارة الغربية خلال القرون الماضية في ظل تراجع المسيحية بوصفها مرجعية مركزية للقوانين والأعراف والأخلاق.

وفي حوار مع صحيفة "لوفيغارو" (Le Figaro) الفرنسية، تقول ديلسول -مؤسسة معهد هانا أرندت للأبحاث- إن الديانة المسيحية تميل إلى الاندثار في عدد من دول العالم، وخاصة في الغرب، لكنها تنتشر في أماكن أخرى، وبالتالي لا يوجد ما يبرر الحديث عن نهايتها بوصفها دينا.

لكن المسيحية التي تقصدها المؤرخة والروائية الفرنسية في كتابها هي تلك الحضارة التي تعتمد أعرافها وقوانينها على العقائد المسيحية، ومن الواضح -حسب رأيها- أن هذه الحضارة اضمحلت منذ نهاية القرن الـ20.

ونادرا ما توجد الآن دول تعتمد فيه قوانينها وأعرافها على المسيحية مع استثناءات قليلة. ففي معظم الدول المسيحية، أصبح الطلاق والإجهاض قانونيا، مما يعني أن المسيحية بوصفها ديانة لم تعد موجودة، بحسب الباحثة التي ولدت لعائلة باريسية كاثوليكية يمينية ودرست على يد عالم الاجتماع الليبرالي المحافظ جوليان فرويند.

الفيلسوفة شانتال ديلسول تصف نفسها بأنها "ليبرالية محافظة" وأسست معهد هانا للأبحاث عام 1993 (غيتي)

أزمة المسيحية

وترى ديلسول أن المسيحية بوصفها ديانة -وخاصة الكاثوليكية- تعيش أزمة في أوروبا وأميركا الشمالية، مقابل ازدهار البروتستانتية في عدة مناطق، خاصة الحركة الإنجيلية. وتضيف أن الديانة المسيحية تنتشر في الصين أيضا، لكن الحضارة المسيحية شيء آخر، وتأثير المسيحية على المجتمعات يتراجع في كل مكان، حتى في أميركا اللاتينية.

وتعتقد ديلسول أن بوادر انهيار الحضارة المسيحية بدأت تتشكل منذ مدة طويلة، وتحديدا منذ التمرد على الأعراف والقوانين الكنسية خلال عصر النهضة، ثم من خلال عصر التنوير.

لكن الأمور لم تسر بالوتيرة ذاتها في جميع أنحاء العالم المسيحي، ففي الدول البروتستانتية التي شهدت ثورات، أي إنجلترا وهولندا والولايات المتحدة، اندمجت البروتستانتية بالحداثة وتماهت معها، في حين عارضت الكنيسة الكاثوليكية فكر التنوير.

منذ ذلك الحين، تضيف ديلسول، دخلت المسيحية مرحلة صعبة، حيث تطلبت الحداثة الاعتراف بحرية الضمير، وهو ما رفضته الكاثوليكية التي بقيت معادية لليبرالية والفردية. وعلى مدى قرنين من الزمان، حاولت المسيحية الحفاظ على تأثيرها ونفوذها، لكنها اصطدمت بمطالب التحديث وإطلاق الحريات الشخصية.

وفي النصف الثاني من القرن الـ20، انحسر التأثير المسيحي ولم يعد للكنيسة أي تأثير، حيث حافظت على طبيعتها بوصفها مؤسسة مقدسة وذكورية، وهي أمور لم تعد مقبولة في المجتمعات المعاصرة، بحسب تعبيرها.

مع ذلك، لا ترى ديلسول أن الكنيسة اندثرت تماما، وتقول "يمكن أن تتدهور ويعمها الفساد، وقد حدث كل هذا من قبل. لكنها استمرت عبر القرون رغم كل شيء، وسوف تنهض مجددا، لأن الأمر لا يتطلب سوى قلة من الكاثوليك لتكون هناك كنيسة".

هل تعني نهاية المسيحية نهاية الحضارة الغربية؟

تؤكد ديلسول أن الحضارة الغربية التي ولدت مع نهاية الإمبراطورية الرومانية، مزيج من الحضارات اليونانية والرومانية واليهودية والمسيحية، وبالتالي فلا شك في أن اندثار المسيحية يهز أركان الحضارة الغربية ويغير ملامحها، لكنه لا يؤدي إلى اختفائها.

وتعتقد الفيلسوفة الفرنسية أن "الإنسانية" باعتبارها المرجعية التي أخذت مكان العقيدة المسيحية في المجتمعات المعاصرة، تعد إحياء للقيم المسيحية مثل الرحمة والتسامح والتوبة والغفران والمساواة بين الجميع، لكن هذه القيم لم تعد مرتبطة بالدين، بل تستند فقط إلى العرف والتطبيقات العلمانية.

مستقبل الكاثوليكية

وفي تقرير سابق لصحيفة "لوبوان" (le point) الفرنسية، كتب مسؤول الشؤون الدينية جيروم كوردليي عن مستقبل المسيحية والكاثوليكية في أعقاب قضية الكشف عن الاعتداءات الجنسية الهائلة على الأطفال في كنائس فرنسية. ونقل التقرير عن شانتال ديلسول أن الذي وقع في المجتمع اليوم هو أن الحداثة قد انتصرت، ومثل هذا الانتصار "نهاية للعالم المسيحي" بعد 16 قرنا من الهيمنة.

 

وأقرت ديلسول بأن الإيمان تضاءل لكنه لا يزال موجودا، وسيكون هناك دائما مؤمنون، في حين أن "المسيحية ذات السلطة"، والتنظيم الاجتماعي الذي تنتجه، والحضارة التي تجسدها تنازع "سكرات بطولية مؤثرة".

وذكرت أن ظاهرة تحول الكنيسة إلى البروتستانتية وما تمخضت عنه من تنقية للطقوس والرموز، سرّعت من انحطاط المقدس في الكنيسة الكاثوليكية، بحسب تعبيرها.

وعالجت الفيلسوفة سقوط ما أسمتها "الإمبراطورية المسيحية" من منظور تاريخي، مشيرة إلى أن ذلك يسلط الضوء على التعاسة الحالية لهؤلاء الكاثوليك الذين يرون عالمهم ينهار، فهل هذه نهاية التاريخ؟ يتساءل الكاتب.

المصدر : الصحافة الفرنسية + لوبوان + لوفيغارو