الأكاديمي المغربي محمد بوعزة: الناقد يحتاج إلى ثقافة أدبية وخبرة واسعة بالنصوص وحركة الثقافة الأدبية

الأكاديمي المغربي محمد بوعزة: النقد تفكير في العالم من خلال فعل قراءة النصوص، وليس مجرد اشتغال أدبي شكلاني بالنص كموضوع منفصل عن العالم

الناقد المغربي محمد بوعزة
الناقد الأدبي والأكاديمي المغربي محمد بوعزة (الجزيرة)

الدارالبيضاء – يعد الأكاديمي المغربي محمد بوعزة من النقاد المغاربة القلائل الذين يمتلكون وعيا نقديا ويشتغلون في صمت داخل المختبرات العلمية، إذ يتلمس القارئ لمؤلفاته النقدية هذا الصمت في عشق القراءة وشغف البحث والحفر في نصوص أدبية غربية وسياقاتها التاريخية وما تنحته من أفكار ومفاهيم.

في أعماله النقدية لا يتوقف بوعزة فقط عند التعريف بالمنجز الأدبي الغربي، بل يساهم ضمنيا في مساجلته ومقارعة أفكاره وما يأتي به من أفكار، هذا مع حرصه الشديد على تبيئة بعض المفاهيم وتوليفها داخل أعمال أدبية عربية.

وهذا شأن كتابه "هيرمينوطيقا المحكي: النسق والكاوس في العالم الروائي لسليم بركات" حيث تحضر النظرية الغربية بوصفها سياقا فكريا، لكنه لا يسقطها على العمل الروائي، وإنما يحفر عميقا في تربة النص وخصوصياته، ثم يبلور جملة أفكار ومفاهيم انطلاقا من العمل الروائي لا من النظرية الأدبية نفسها.

وقد شارك بوعزة في الكثير من الندوات داخل المملكة وخارجها، بل قدم العديد من المحاضرات المنفردة داخل مختبرات علمية عربية. كما صدر له العديد من الدراسات النقدية نذكر منها: "تأويل النص: من الشعرية إلى ما بعد الكولونيالية"، "تحليل النص السردي"، "إستراتيجية التأويل"، "حوارية الخطاب الروائي"، "سرديات ثقافية".

والتقت الجزيرة نت الدكتور بوعزة وكان لها معه هذا الحوار:

خطاب النظرية

  • يتميز كتابك "تأويل النص: من الشعرية إلى ما بعد الكولونيالية" بكونه دراسة نقدية تنهل زخمها النقدي من متون فكرية معاصرة مثل: رولان بارت وبول ريكور وإدوارد سعيد وغيرهم. لماذا الارتكاز على هذه الأسماء الغربية، علماً بأنّ مؤلفاتها فكرية أكثر منها نقدية؟

هؤلاء المنظرون تؤكد أعمالهم النقدية والفكرية أطروحتي النقدية، وهي أن النقد تفكير في العالم من خلال فعل قراءة النصوص، وليس مجرد اشتغال أدبي شكلاني بالنص كموضوع منفصل عن العالم. هذه الفكرة مشتركة لدى بارت وبول ريكور وإدوارد سعيد. كل واحد منهم من منظوره الخاص، عمل على "التفكير النقدي" في النصوص من باب الفكر التنظيري الذي ينظر (يفكر في) للأدب ضمن السياق الكلي للوجود الإنساني في العالم.

إن النص بالنسبة لهم كان أداتهم المفهومية في فهم العالم، وبالتالي، فإن ما يميز خطاب هذه النماذج هو تداخل الأدبي بالنقدي والفلسفي، إذا أخذنا، مثلا، ميخائيل باختين (الفيلسوف واللغوي الروسي) فإن قوة تفكيره الأدبي آتية من كونه يجسد حوارية حقيقية بين النقد الأدبي وفروع المعرفة (الفلسفة، علم اللغة، عالم الاجتماع. وأنا أتصور أن النقد خطاب معرفي متخصص وفكري، منفتح على المعرفة الإنسانية بشتى مشاربها العلمية والفلسفية الاجتماعية، مع اعتبار أن الأدب نفسه مغامرة وجودية مازالت تسعى إلى فهم الشرط الإنساني في أبعاده الذاتية والاجتماعية والفلسفية، وليس مجرد لعب بالكلمات.

صحيح أن الكلمات مادة الأديب في التشكيل، ولكنه يشكل عوالم من كلمات مسكونة بإيحاءات ودلالات تحيل على عوالم ممكنة موازية لعالمنا المعيش.

لهذا السبب جاء التركيز على هذه الأسماء، لأؤكد أن الخطاب النقدي هو خطاب أدبي وفكري في الآن ذاته، وأن النقد الأدبي نمط من الفكر النقدي، يوفر لنا معرفة بالعالم من خلال الاشتغال على النصوص، تعمق فهمنا بذواتنا وبوجودنا. صحيح، إننا نقرأ النصوص الأدبية ونستمتع بجمالياتها، ولكنها في الآن نفسه تضيف شيئا إلى معرفتنا بمعضلة  الوجود الإنساني عبر التاريخ، وهذا الأثر الرؤيوي هو ما يتبقى من الأدب، حين تفقد الأساليب والتقنيات راهنيتها وتدخل التاريخ الأدبي.

تضخم الخطاب النقدي

  • في واقعنا يتم إسقاط نظريات بارت وباختين ودريدا على أعمال روائية هشة ومرتبكة في صناعتها. كيف تنظر إلى هذا الواقع الأدبي الجديد الذي تُساهم في تفريخه مختبرات البحث العلمي؟

لابد في البداية من أوضح مسألة أساسية، ليس كل باحث جامعي بالضرورة ناقدا، لأن الناقد، بالإضافة إلى شرط المعرفة المتخصصة بالنظريات والمناهج، التي يمكن أن يتحصل عليها بالدراسة الأكاديمية، يحتاج بنفس القدر إلى ثقافة أدبية واسعة بالنصوص وحركة الثقافة الأدبية واتجاهاتها في أجناسها المختلفة (الشعر، الرواية، المسرح، التراث، الفنون..) وتواريخها، وأيضا معرفة بالآداب والثقافات الأخرى في العالم، لأن هذه الثقافة الموسوعية هي التي تمكنه من قراءة النص بإدراجه في مقارنات وعلاقات تغني قراءته وتأويله.

هذا الشرط الثاني لا يتوفر بالضرورة في كل باحث جامعي. والبحوث الجامعية، التي تنجز في المختبرات العلمية بالجامعات، يقصد بها تقييم حصيلة الطالب في التكوينات التي خضع لها، واختبار مدى تمثله للمناهج وقدرته على أجرأة هذا "التكوين النظري" على المستوى التطبيقي، وليس تقييمه بوصفه "ناقدا".

قد يتحصل الباحث على معرفة أكاديمية بالمناهج، ولكن هذا لا يجعل منه ناقدا. وأنا أتصور أن المختبرات العلمية في جامعاتنا العربية، ومن خبرتي في التدريس، للأسف، من خلال الطريقة التي تعمل بها، لا تساهم في دعم حركة النقد الأدبي العربية إلا في حالات استثنائية نادرة، لأنها في معظمها لا تملك إستراتيجية علمية، ولا تتوفر على مشاريع بحثية مبنية على رؤية علمية، ولا تعمل وفق شروط المعرفة العلمية المتخصصة.

سلبية أم إيجابية؟

  • ألا ترى أنها الظاهرة بقدر ما هي إيجابية تقدم قراءات مغايرة لطبيعة الأعمال الأدبية العربية، وتلعب دورا سلبيا في التعريف بها، لأنها لا تتماشى مع السياقات التاريخية وجدّة التصورات الفكرية الغربية؟

في نظري، هذه الإشكالية، أي إسقاط المناهج والنظريات الغربية على النصوص العربية بشكل لا يراعي خصوصيتها وسياقها، ترتبط بمعضلة أساسية، وهي غياب الوعي النقدي. وبدون استيعاب النظرية في أصولها الفلسفية والتاريخية التي تشكلت في سياقها، وإخضاعها للمساءلة النقدية، بهدف تطويعها وتكييفها، لا يمكن إلا أن نسقط في استهلاك النظريات واستنساخها.

ولذلك أشدد على أهمية الوعي النقدي الذي يستوعب النظرية في أصولها، ويخضعها للفحص والاختبار في ضوء شروط السياق الثقافي الجديد. هذه العملية النقدية تؤدي بالضرورة إلى إعادة صياغة سياقية للنظرية من جديد في صورة معدلة ومحورة، تضيف إليها أبعادا جديدة في الممارسة النقدية التي تكمن قوتها في أنها إنتاج جديد للنظرية في ضوء الاحتمالات التي يفرضها النص، والتي قد لا تكون متوقعة، أو لا توافق مقاصد النظرية.

هذا التفاوض العسير بين النظرية والممارسة، والسياق المنوط بمهمة الوعي النقدي، هو ما يؤدي إلى تطوير النظرية وتوسيع أفقها بالمراجعة والتنقيح والتوليد. ورغم هذا الواقع النقدي، أنبه إلى ضرورة ألا نسقط في التعميم، لأن هناك نماذج نقدية جادة قدمت مشاريع نقدية متماسكة معرفيا، تستجيب لمعايير النسق في إنتاج المعرفة، واستطاعت أن تنتج معرفة نقدية بالنص العربي مُتَمَثّلةً شروط سياقه الثقافي.

لأنها تدرك أن التنظير لا يعني استعارة المناهج وفرضها بالقوة على النص الأدبي العربي، وإنما يتأسس على الوعي النقدي بالنسبية الثقافية التي تحتم إعادة تكييف النظرية في السياق الثقافي الأصلي للنص العربي، ومراعاة "الكون السيميائي" الذي تكون فيه. فكل ثقافة لها كون "سيميائي" خاص بها، يحدد خصوصية نصوصها وآفاقها الإبداعية وأشكال تفاعلها مع الثقافات الأخرى.

مشروع نقدي

  • أنت من النقاد العرب الذين راكموا مشروعا نقديا قويا ومغايرا، بل إنك ممن اعتنوا بالكتابات الروائية للسوري سليم بركات.  لماذا هذا الشاعر بالضبط وليس أمجد ناصر وغيره من الشعراء العرب الذين كتبوا الرواية؟

أسباب عديدة دفعتني للاهتمام بالتجربة الروائية لسليم بركات، لكن أبرزها من الناحية الموضوعية أن كتابته الروائية تشكل تحديا للمقاربات التي تعتمد مناهج ونظريات جاهزة، فلا يمكن -مثلا- تطبيق مفاهيم السرديات والسيميائيات السردية المعروفة بشكل آلي على رواياته، لأنها كما كشفت في دراستي محكومة بقانون العماء "الكاوس" (chaos).

هذا الخيال الانتهاكي الجامح، الذي ينتهك بعنف فانتازي الحدود بين العوالم المختلفة، بين العقل والجنون، بين الخيال والواقع، بين الظاهر والباطن، وشخصيات غير نمطية تقيم في الحدود القصوى والمتطرفة للسلوك، ولا تخضع لمعايير السلوك "المقبول" وتبني حكاياتها الصغيرة على الهوامش المنبوذة، هو منبع الغرابة.

وبالتالي، فرضت علي هذه الكتابة/المغامرة ضرورة التفكير في صياغة مقاربة جديدة تتجاوز شكلانية المقاربات السردية البنيوية التي كانت في تلك الفترة، وتكتفي بإخضاع النصوص لقوالبها وخططها الجاهزة، مقاربة تغامر باستكشاف ما وراء السرد، وتحاول أن تفهم "المنطق الخفي" الذي يكمن وراء هذا "الكاوس" الروائي الذي يغرق العالم المتخيل لرواياته في استعارات الظلام والتيه والمحنة.

وكانت الحصيلة أنني قدمت قراءة تأويلية ثقافية، استنطقت فيها خصائص هذا الكاوس (الفوضى) الروائي وأنماطه التي توزعت بين العماء الميتافيزيقي والعماء التاريخي والعماء الفردي في كون دلالي يطغى فيه العماء على الانتظام، والحمق على العقل، والشاذ على المألوف، والتيه على الاستقرار، والتحول على الثابت.

قراءة بركات

  • في كتابك النقدي "هيرمينوطيقا المحكي: النسق والكاوس في العالم الروائي لسليم بركات" حاورت نقديا سيرته الروائية وأبرزت مخزونها الجمالي ومعمارها الفني على مستوى النسق واللغة والخطاب. ألا ترى أن روايات بركات لم تحظ بنفس الاهتمام الذي حظيت به سيرته الشعرية؟

صحيح. وقد أوضحت في كتابي، أن من بين الأسباب التي دفعتني إلى الاهتمام بالتجربة الروائية لسليم بركات، بالإضافة إلى تميزها الفني والتخييلي على صعيد الخطاب الروائي العربي، صمت النقد العربي عنها وتجاهلها.

هذا التجاهل يرجع في الغالب إلى أسباب أيديولوجية تتصل بالواقع الإشكالي للأكراد في الثقافة العربية. إن هذا الصمت النقدي يعكس ضمنيا سكوت الثقافة العربية على هوامشها الثقافية المغايرة والمختلفة.

وعلى الرغم من أن بركات "الكردي الضال" يكتب باللغة العربية، فإن هذا اللسان لم يشفع له. في حين أنه بهذا الانتساب الإبداعي للغة العربية أسهم في إثراء الكون السيميائي للثقافة العربية بالخيال الكردي الجامح، بسردياته وملاحمه وأساطيره وتواريخه الثرية.

  • ماذا عن حدود التقاطع والتلاقي بين الروائي والشعري؟

يحدث التقاطع بين الروائي والشعري في روايات بركات على مستوى اللغة التي يكتب بها، وتتلبس بروح الشعر. لكن ما يحدث هنا في السرد الروائي عنده أن هذه اللغة وإن احتفظت ببعض خصائصها الشعرية، تجري "سردنتها" بإخضاعها لمقتضيات السرد والحبكة في تقديم الشخصيات وبناء العوالم الحكائية والأزمنة.

بحيث لا تتم شعرنة السرد إلى الدرجة التي تمّحي الحكاية وتطغى فيها اللغة على السرد، كما في الكثير من تجارب الشعراء الذين تحولوا إلى جنس الرواية، وكتبوا رواياتهم بمنطق الشعر الذي يموضع اللغة في منزلة البطولة الشكلانية، ويضحي بمنطق السرد الذي يتطلب بناء حكاية وعالم روائي، وليس مجرد إغراق النص الروائي في الشطحات والتهويمات اللغوية. الجملة الروائية تظل جملة سردية وإن تلبست باللغة الشعرية، وعندما يكسر هذا المعيار السردي، تسقط الرواية في الشعرنة السائلة.

المصدر : الجزيرة