نحو عدالة إبداعية.. جائزة كتارا للرواية العربية وديمقراطية السرديات

شعار كتارا للرواية العربية
جائزة كتارا للرواية تعد أكبر جائزة من نوعها في العالم العربي (الجزيرة)

تتحول الجوائز الثقافية إلى شكل من أشكال بناء التاريخ الأدبي الجديد، وتمنح إمكانية تصوير تفاصيل من واقعنا العربي في ضوء الحاجة إلى المستقبل الذي يزداد ظلمة بفعل تجربة المحو الهوياتي جراء الهيمنة الرأسمالية على منظومات القيم وبورصة اللامعنى وسطوة الأوبئة بمختلف مظاهرها.

وفي هذا المناخ الذي ينعكس على الساحة العربية، حققت جائزة كتارا للرواية العربية إضافة نوعية في تمكين فئات إبداعية أخرى من الظهور والبروز وإثبات الذات العربية في ارتباطها الوثيق بعدد من الموضوعات التي ظلت خارج تفكير الجوائز ودور النشر واتحادات الكتاب والهيئات الحكومية، حيث تعلو سلطة الأسماء على قوة الإبداع. فلا أحد كان سيعرف بكتاب لم نقرأ لهم أو نقرأ عنهم في مساحات اللقاءات الثقافية، حتى انتبهت إليهم جائزة كتارا للرواية العربية عبر منحهم الفرصة لعرض مخطوطات رواياتهم المتراكمة على مكاتبهم لفترات طويلة حتى لو لم تكن منشورة.

بل إننا اكتشفنا كتابا جددا في أدبيات كنا نعتقد أنها تلاشت برحيل الكبار المؤسسين، سواء كان ذلك الأدب ينتمي إلى الرواية البوليسية أو الرواية الواقعية السحرية التي نكاد لا نعثر لها على أثر في رواياتنا العربية، وهنا بالذات يحقق السرد "ديمقراطيته" الخاصة من جهة الكاتب ثم من جهة النوع الأدبي، ومن جهة ثالثة هي الحق في المعنى على نحو مختلف ما دام فعل الكتابة نفسه هو بحث دائم عن إمكانات فهم الذات الإنسانية واستغوارها بما يجعل الذات تواجه واقعها في هشاشته.

ولعل الاحتفاء بنمطين من أنماط الرواية المخطوطة والمنشورة يحقق ذلك التعايش الذي جمع بين أجيال من المؤسسين وأجيال جديدة تحمل مشعلها الخاص.

دمقرطة الثقافة

وفي هذا السياق، يرى الكاتب الروائي المغربي طه محمد طه الحيرش أن جائزة كتارا للرواية العربية حققت دمقرطة الثقافة حين فتحت "باب الترشح والنشر لكل من يملك ملكة الكتابة وموهبة الإبداع، دون اعتبار للونه الديني أو السياسي أو انتمائه القطري، فكانت وفية لأهدافها السامية، في إشاعة الجمال ونشر مبادئ الكتابة السردية الهادفة، فتحت الباب على مصراعيه لأقلام جديدة شابة أبانت عن علو حرفها، فكان أن اكتشفنا جمالا لم يكن ليرى النور لولا مثل هذه المبادرات".

ويشبّه صاحب رواية "شجرة التفاح" جائزة كتارا بوصفها "بقعة ضوء، أو نافذة إغاثة استطاع عبرها من كانوا كتابا مغمورين أن يتسلقوا جدار الشهرة بجدارة، ويتبوؤوا مكانة بجوار الأسماء المعروفة دون وساطة من أي جهة عدا وساطة القدرة على الإبداع الحق".

كما لا يغيب عنا دور الترجمة في الرقي بالأدب، ونشره على أوسع نطاق، ولمختلف القارئين خاصة باللغات العالمية، ذلك عندما عمدت المؤسسة إلى ترجمة جميع الأعمال الفائزة.

ويتابع الروائي محمد طه الحيرش، قائلا إنه يفتخر، وبحياد، بأن جائزة كتارا، بالإضافة إلى ما ذكره من ميزات، أنها استطاعت -ولها السبق في هذا- أن تهتم بالرواية البوليسية أو أدب الجريمة، على عكس باقي الجوائز والمسابقات الأخرى التي تهتم بالأدب الرومانسي والأيديولوجي، عندما رشحت رواية "شجرة التفاح" لتظفر بإحدى جوائزها؛ إذ إن هذا النوع من الكتابة ظل مغيبا عن الظهور بسبب التهميش والإهمال، وكذا عدم التفات النقاد العرب إلى دراسة هذا الجنس الأدبي مقارنة بالغرب، حيث يحتل هذا الصنف الدرجة الأرقى، ويحظى بمقروئية واسعة، خاصة مؤلفات (أغاثا كريستي، وأمبيرتو إيكو، وداون براون، وغيرهم).

ويتوقع -كنتيجة للمبادرة التي قامت بها مؤسسة كتارا- إشعاعا مرتقبا لهذا النوع من الكتابة، وعودة هذا الجنس الأدبي ليفرض نفسه من جديد، كواحد من أكثر الكتابات الأدبية شيوعا وانتشارا.

عدالة إبداعية

أما الأكاديمي والبلاغي المصري عماد عبد اللطيف، فيرى أن "فتح ملف الجوائز الأدبية مهم وملح في عالمنا العربي الراهن. فهناك تساؤلات متنوعة تحتاج إلى نقاش موسع وعميق، من هذه التساؤلات ما إذا كانت الجوائز تسهم في ترسيخ قيم إبداعية وتهميش أخرى، وما إذا كانت تسهم في تحقيق عدالة إبداعية بواسطة تسليط الضوء على أعمال ومبدعين مهمشين، أم أنها تأثرت بما يهيمن على العالم العربي من ممارسات التمييز والتحزب والشللية.

كذلك من الضروري مناقشة الدور الذي تقوم به الجوائز الأدبية في إثراء الإبداع بكتابة أعمال ما كان لها أن تكتب لولا الجوائز. ويتابع في حديثه عما تحتاج هذه الموضوعات من معالجة دقيقة، ولا سيما أن العالم العربي أمام تنوع كبير في آليات عمل هذه الجوائز نفسها، وتفاوتها من حيث المصداقية والنزاهة. ومن ثم فإن الإجابة عنها لا يمكن أن تنجز بواسطة تعميم حالة جائزة بعينها على الجوائز الأخرى.

وبرأيه، لعل أفضل وسيلة لمقاربة هذا الأمر هو طرح الأسئلة السابقة على عينة كبيرة من الأدباء والنقاد، وفحص استجاباتهم لها.

ويؤكد عماد عبد اللطيف في هذا الصدد أن جوائز الأدب العربي أثرت بشدة في جماليات الكتابة الروائية، وفي مواقف المبدعين في العالم العربي الراهن، فضلا عن كونها محفزا فعليا في إنجاز أعمال جديدة. أما في ما يتعلق بأثر الجوائز في جماليات الكتابة، فيظن أن كثيرا من المبدعين الذين يقدمون للجوائز يحاولون التزام "وصفات" يظنون أنها قد تجعلهم يقفون تحت مظلة الجائزة لا خارجها. ومن ثم، يستبعدون الخوض في موضوعات بعينها، قد يؤدي خوضهم فيها إلى استبعادهم، أو يتبنون مواقف داعمة لما يظنون أن أيديولوجيا الجائزة تعبر عنه.

وينهي عبد اللطيف بالقول إن الأثر الأكبر للجوائز العربية هو حفز الكثير من المبدعين على إنجاز أعمال ما كان لهم أن ينهوها دون هذا الحافز الخارجي. ويظن أن هذا أكثر آثار الجوائز إيجابية، ويكاد يجزم أننا لو أجرينا إحصاءات دقيقة لحجم الإبداع الروائي قبل الإعلان عن جائزة كتارا للرواية العربية، مقارنة بما بعدها، فإننا سنرى زيادة دالة يمكن تفسيرها بوساطة أثر الجائزة في الحفز على الإبداع.

وبالنسبة إليه، يبقى أمر القيمة شأنا آخر، وإن كان يظن كذلك أن التنافسية التي تفرضها الجوائز قد تحفز المشاركين المحتملين فيها على بذل أقصى الجهود الممكنة لتحقيق الإبداع والإتقان.

هوية العالم

وتنطلق الكاتبة والروائية فتحية دبش (تونس/ فرنسا) من إشكالية تطرحها: هل للعالم هوية جامعة؟ وتعتبر أن الإجابة عن هذا السؤال لعلها لا تكون بالصعوبة التي نتصورها ويمليها تجاذب العالم في الماضي كما في الحاضر والمستقبل، إذ يبقى الأدب في تاريخ البشرية هوية جامعة على اختلاف سماتها، من ثقافة إلى أخرى ومن زمن إلى آخر ومن مكان إلى آخر ومن مدرسة إلى أخرى.

وترى دبش أن الأدب عامة يشكل نقطة مركزية تنمو داخلها وحولها القيم المادية والمعنوية، وهو ما يفسر غزارة الحفاوة به من خلال غزارة الجوائز المرصودة للشعر كما للنثر إبداعا ونقدا. وبقطع النظر عن الجدل القائم بين قيمتها المادية والمعنوية من جهة، ومدى مصداقيتها وشفافيتها من جهة أخرى، يبقى تنوع الجوائز مظهرا من مظاهر دمقرطة الكتابة من خلال محاولتها تغطية مجمل النشاطات.

وتتابع الكاتبة دبش معتبرة أن هذا التنوع يعكس حركة الأدب بين الثبات والتحول، وبالتالي فلسفة الجوائز في العمل على ترسيخ تقليد أدبي، ليس همه بالضرورة توسيم تجربة إبداعية كاعتراف بمسيرة ما، وإنما تعمل على ترسيخ فلسفة النص المفارق كما هو الشأن في الحديث عن جائزة كتارا على الأقل. فالجائزة اعتراف بنص ما وبكاتب ما وبمشروع ما وحتى بدار نشر ما.

وبالرغم من أن التتويج لا يعني بالضرورة أن النصوص غير المتوجة ليست ناجحة، كما أنه ليس برهانا ثابتا على ريادة نص متوج، ولكنه يكتب في إطار بين الإطارين: اكتشاف أو تثبيت كما برهنت عليه جائزة كتارا في دورتها الأخيرة التي شهدت فوز أسماء عريقة إلى جانب أسماء جديدة.

هذه الجوائز هي بشكل من الأشكال بناء لتاريخ أدبي داخل التاريخ الجامع لثقافة ما ولواقع أنتج هذه النصوص، وهي أيضا خلخلة لموازين الظهور، إذ لا يكفي أن يكون للاسم رنينه الأدبي وإنما لا بد للنص أن يكون له ثقله الابداعي و"الثيمي". ومن هنا اعتبرت دبش أن التتويج بجائزة ما -خاصة الجوائز الكبرى عربيا- هو بمثابة التبني "للثيمات" المطروحة والتقانات المستخدمة في النصوص المتوجة، وهو الخط الذي تميزت به كتارا فصار خطها المضيء على الإضافات النوعية.

المصدر : الجزيرة