العمل عن بعد وآثاره بعيدة الأمد.. أسئلة عالم كورونا وأجوبة علماء الاجتماع والعمران

البروفيسور فيشينزو رومانيا أستاذ علم الاجتماع بجامعة بادوفا بإيطاليا و البروفيسور علي عبد الرؤوف أستاذ زائر في جامعة حمد بن خليفة بقطر
البروفيسور فيشينزو رومانيا أستاذ علم الاجتماع بجامعة بادوفا بإيطاليا (يمين) و البروفيسور علي عبد الرؤوف أستاذ زائر في جامعة حمد بن خليفة بقطر (الجزيرة)

جاءت جائحة كورونا بتغييرات عدة بينها توسع العمل عن بعد بصورة غير مسبوقة؛ مما أثار أسئلة كثيرة تتعلق بجوانب إبداعية واجتماعية ونفسية وحتى عمرانية.

يقول البروفيسور فيشينزو رومانيا (Vincenzo Romania) أستاذ علم الاجتماع بجامعة بادوفا الإيطالية -للجزيرة نت- إن الجائحة "تمثل تحولًا في نماذج تنظيم العلاقات الإنسانية على جميع المستويات العلائقية، والجماعية، والاقتصادية، والثقافية، والدينية"، ويتجلى هذا الأمر "على مستويات مختلفة من الأهمية في أجزاء مختلفة من العالم، ومع ذلك فإن بعض الآليات مشتركة بين جميع البلدان والشعوب".

ويضيف رومانيا أن "مسألة العدوى هي في الواقع عنصر جديد، أضيف إلى التباعد الاجتماعي. تؤثر في تفاعلاتنا وتمنعنا من الامتثال لقواعد السلوك المعتادة. وبينما كانت لغة الجسد في الماضي في معظم الثقافات تمثل بشكل أساس مسألة تعبير رمزي عن الاختلافات الاجتماعية، فقد أصبحت في الوقت الحاضر ناقلًا لخطر العدوى بصورة متزايدة، ويمكن أن تتحول إلى وصمة عار".

ونتيجة ذلك، يتابع رومانيا القول إن هناك تغيرات اجتماعية مهمة، ستستمر أيضًا بعد نهاية الوباء منها "زيادة رقمنة سلوك التقارب، وزيادة تحويل تفاعلات العمل إلى تفاعلات عمل ذكية، وزيادة المسافة الاجتماعية في فضاءات مثل المدرسة والعمل، وزيادة ازدراء فئات معينة مثل السجناء السابقين والأجانب واللاجئين، وخصخصة التجربة الدينية ورقمنة المجتمعات الدينية".

أما في ما يتعلق بالانتقال نحو العمل الذكي يرى رومانيا أنه يتطلب تحولًا هيكليًا شاملًا يؤثر في تعديل ميزانية وقت العمال، وتغيير في الثقافات التنظيمية السائدة، وأخيرًا، تحويل العلاقة بين العمل والعمارة الحضرية" معتبرًا أن هذه التحولات لن تكون فورية وستحتاج إلى "إعادة تصور أوسع للمعنى الاجتماعي للعمل والتفاعلات البشرية".

العمل عن بعد وآثاره النفسية

حسب كريستين شوكلي (Kristen Shockley) الأستاذة المشاركة في علم النفس بجامعة جورجيا، التي قامت بدراسة لمصلحة مؤسسة العلوم الوطنية الأميركية (National Science Foundation) عن الآثار النفسية التي أحدثها العمل عن بعد في زمن الجائحة على عينة من الناس غيرت من عملها التقليدي نحو العمل عن بعد، فإن هذه الدراسة حملت بين طياتها أمورا مثيرة للاهتمام، منها أن نسبة الذين يريدون أن يستمروا في العمل عن بعد هي 100% من العينة.

وحسب شوكلي، لا تشير البيانات حقًا إلى أن الناس يتراخون أثناء عملهم عن بعد؛ فالأغلبية إما يحافظون على إنتاجيتهم ذاتها أو أكثر. وهناك تجربة أجريت في مركز اتصالات، وجدوا فيها أن العمال الذين عملوا من المنزل أجروا مكالمات أكثر بشكل ملحوظ، وعملوا ساعات أطول، وجودة مكالماتهم كانت تكافئ جودة مكالماتهم في السابق، وهو ما يكرس الشعور بأن كفاءة العمل من المنزل عالية كذلك، لأنها تكون بعيدة عن توترات فضاء العمل أو تشنجات زملاء العمل، كما ترى شوكلي أن مفهوم "المكتب في المنزل" سيحدث فرقًا كبيرًا في مدى جودة وراحة الأشخاص في العمل عن بُعد.

وأجبرت جائحة كورونا ملايين الموظفين على أن يتحولوا بسرعة إلى العمل عن بعد. ومع ذلك، لا تزال بعض المنظمات والمؤسسات غير مستعدة لاستيعاب قوة عاملة تعمل عن بُعد، والموظفون الذين اضطروا إلى الانتقال بسرعة إلى العمل عن بعد معرضون لمشاعر عدم اليقين، والارتباك، والعزلة الاجتماعية، فضلا عن تعذر إتمام بعض الأعمال عن بعد.

العمل عن بعد والتصميم العمراني

وفي هذا الصدد يقول المعماري والأكاديمي علي عبد الرؤوف، الأستاذ الزائر في جامعة حمد بن خليفة في قطر، إنه "ينبغي أن يكون المعماريون والمخططون الحضريون على علم بمثل هذه القوى الجديدة التي تؤثر في سلوك الناس في جميع أنحاء العالم خاصة الحقبة الجديدة من العمل في المنزل واحتياجاته الفراغية والتصميمية ومعدلاته الإنتاجية ومكاسبه الاقتصادية والبيئية والإنسانية".

وهذا ما يفرض إشكالية أولى، حسب علي عبد الرؤوف الذي أردف -للجزيرة نت- متحدثًا عن "خدعة التواصل الرقمي والاندفاع غير المسبوق إلى تفعيل التباعد الاجتماعي عبر التواصل الرقمي" حيث "تتألق باقات برامج التواصل الرقمي من فيسبوك وواتساب وزوم وغيرها في زمن العزلة، وتمكننا من عقد الاجتماعات بل والندوات الافتراضية".

وحسب عبد الرؤوف "تيسر لنا أيضا هذه البرامج حوارات عائلية ودردشات مع الأصدقاء، وتقدم لنا تكنولوجيا الإنترنت باقات ثريّة من الأفلام والمسلسلات بل وفيديوهات التمارين الرياضية ووصفات الطعام لكي تخفف عنا العزلة والانفصال، وهنا يجب الانتباه إلى أن التواصل الرقمي لا ينبغي أبدا أن يحل محل التواصل الاجتماعي الحقيقي في فضاءات المنزل والعمل والحديقة والمدينة".

وباعتبار أن المنصات الرقمية أدّت دورا بارزا بوصفها أداة تواصل مهمة أثناء الوباء فيبدو، حسب عبد الرؤوف، "أن هذا الدور سيستمر لأنه يحقق الأمان؛ إذ تسمح التكنولوجيا الرقمية لكثيرين بمواصلة إدارة أنواع معينة من الشركات والعمل على الصعيد العالمي بطرق لم نكن نتخيلها قبل جيل أو جيلين. فقد خلقت الأزمة الحالية دفعة لجميع أنواع المنصات الرقمية من التعلم عن بعد إلى التسوق عبر الإنترنت".

ويقدم عبد الرؤوف في طرحه بديلا للصياغة المتداولة "التباعد الاجتماعي" (Social Distancing) التي يتم التوجيه بها الآن؛ فوجهة نظر البروفيسور عبد الرؤوف هي "أنها ينبغي أن تسمى التباعد الجسدي المادي (physical distancing) لا التباعد الاجتماعي؛ ففي أوقات الأزمات خاصة الصحية الوبائية، من الجنون أن نبتعد اجتماعيًا لكنه مقبول جدًا أن نتباعد جسديًا وماديًا".

المسكن وكورونا

أما الإشكالية الثانية التي يثيرها المعماري عبد الرؤوف فهي مرتبطة "بما نختبره الآن من تداعيات وباء كورونا، وهو فهم وإدراك قيمة المسكن وفضاءاته ومنطق المكوث فيه لساعات ثم أيام ثم أسابيع قد تمتد إلى شهور دون مغادرته إلا لوقت بسيط كل أسبوع أو أسبوعين لشراء الاحتياجات الأساسية" حيث "جعلنا فيروس كورونا نختبر علاقتنا بمنازلنا وهل هي مساكننا أم أنها أوعية باردة لاحتوائنا، فالمنزل يصنع من الحديد والأخشاب والأحجار لكن الحب وحده هو الذي يجعله مسكنا".

والتحديات التي فرضها العمل عن بعد في ظل جائحة كورونا ليست هي الأولى في عالم العمارة؛ فحسب البروفيسور عبد الرؤوف "منذ عقد السبعينيات تعددت أخبار هدم مشروعات إسكانية مختلفة موزعة في أنحاء العالم تأكيدا لرفض العمارة الميكانيكية اللاإنسانية الفقيرة جماليا والمملّة تشكيليا" معتبرًا أن هناك ثورة ضد حركة الحداثة في العمارة والعمران، و"صرخة فارقة ضد فكرة القولبة والنموذج المتكرر للمبنى السكني بميكانيكية باردة لأماكن مطلوب منها أن تحوي داخلها عائلات وذكريات وعواطف ونضال حياة -ونسميها مساكن- ولكنها أوعية لتعليب البشر".

ولتجاوز هذه الأزمة يذكرنا البروفيسور عبد الرؤوف بـ"أليخاندرو أرافينا المعماري التشيلي، الحائز جائزة بريتزكر في العمارة عام 2016 ومنسّق بينالي فينيسيا للعمارة في العام نفسه، الذي يركز على أهمية المسؤولية المجتمعية إذ تعتمد فلسفة العمارة لديه على إشراك حقيقي للمجتمع والتواضع أمامه ليسهم أفراده بلا تحفظ في عملية تصميم وتخطيط مساكنه".

ويستطرد "تأمل مقولة الراحلة المعمارية المبدعة زها حديد (لا أعتقد أن العمارة هي بناء المأوى فقط ولكنها يجب أن تثيرك وتسعدك وتجعلك تفكر). وإذا كانت مقولة ونستون تشرشل (نحن نشكل مبانينا ثم بعد ذلك مبانينا تشكلنا) ما زالت تثير فضولنا فقد يبدو من الجوهري أن نتوقف عن بناء العواصم الجديدة والأبراج اللامعة في مدننا، وأن نركز على تصميم وتخطيط مساكن تستوعب حياة بشر يتوقون إلى دفء العائلة وقيمة الجماعة وإلى تأكيد آدميتهم وأهمية إمتاعهم بملامح من الجمال والرقي".

المصدر : الجزيرة