الانتصار احتمال بعيد للغاية.. الحركات الاجتماعية منذ 1768 وحتى الزمن الراهن

Supporters of the Imam Mahmoud Dicko and other opposition political parties attend a mass protest demanding the resignation of Mali's President Ibrahim Boubacar Keita in Bamako
الحركة الاجتماعية تقوم على أكتاف قضية سياسية أو اجتماعية وتسعى لمقاومة نظام سياسي أو اجتماعي معين (رويترز)

"اكتسب مصطلح "الحركة الاجتماعية" على مستوى العالم نغمة جذابة، ومن ثَم فإن المشاركين والمراقبين والمحللين الذين يستحسنون حدثا من أحداث العمل الجماعي الشعبي هذه الأيام سرعان ما يسمونه حركة اجتماعية، بغض النظر عن دقة استخدام هذا المصطلح.

ويكتسب كتاب "الحركات الاجتماعية" أهميته من كون مؤلفيه المؤرخ والأكاديمي الأميركي تشارلز تيلي (1929-2008) وعالمة الاجتماع الكندية ليزلي وود، وترجمه ربيع وهبة؛ إذ يقوم على وضع تعريف قياسي للحركات الاجتماعية، كما يتتبع نشأة الحركات الاجتماعية منذ أواخر القرن 18 وما بعده، وصدرت الطبعة الأولى للكتاب عام 2004، وتوالت الطبعات المعدلة لتصدر آخرها عام 2012، متضمنة الإشارة إلى الربيع العربي.

خلال عملية رصد تاريخ الحركات الاجتماعية، بدا أن هناك قواسم مشتركة تصلح لتوصيف الحركة الاجتماعية، وفي ذلك السياق لا بد من الانتباه إلى أنه "لا أحد يملك مصطلح الحركة الاجتماعية؛ فالمحللون والناشطون والنقاد ما زالوا أحرارا في استخدام العبارة كما يريدون.

بيد أن هناك طريقة متميزة في تتبع السياسات العامة، بدأت تتكون في البلدان الغربية أواخر القرن 18، ونالت اعترافا على مستوى واسع في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية أوائل القرن 19، وتوطدت في مجموعة متجانسة مستدامة من العناصر أواسط القرن نفسه، ثم تبدلت بصورة بطيئة ومضطردة بعد تلك النقطة، وانتشرت بصورة واسعة على مستوى العالم الغربي، وأصبحت تدعى حركة اجتماعية.

هذا المُرَكَّب السياسي جمع بين 3 عناصر: "حملات من المطالب الجماعية على السلطات المُستهدفة، وعدد من تحركات رفع المطالب تشمل الجمعيات ذات الأغراض الخاصة، واللقاءات العامة، وبيانات إعلامية ومظاهرات، وأخيرًا تمثيل عام لصفات الجدارة والوحدة والزخم العددي والالتزام فيما يتعلق بالقضية"، حسب المؤلف.

غلاف كتاب الحركات الاجتماعية النسخة الانجليزية
صدر كتاب "الحركات الإجتماعية" للمرة الأولى عام 2004 وتمت ترجمته وإعادة طبعه عدة مرات (مواقع التواصل الإجتماعي)

ابتكار الحركات الاجتماعية

مثّل 1768 عام الاضطرابات، سواء في لندن أو بعض الولايات الأميركية (كانت لا تزال مستعمرات بريطانية)، وبدءا من هذا العام ظهرت ابتكارات في الحراك الشعبي أسهمت في صياغة الحركات الاجتماعية، كما أن هناك 4 عوامل ميّزت التغيرات السياسية والاقتصادية في تلك الفترة؛ مما أسهم في نمو الحركات الاجتماعية، وهي: الحرب، والحركة البرلمانية، والرسملة (مشتقة من رأس المال)، والحركة البروليتارية، وجرى الربط بينها كالآتي:

أدت التعبئة ومدفوعات الحرب بشكل متزامن إلى زيادة تأثير النشاط الحكومي على رفاهة عامة الناس، وأدخلت ممثلي الحكومة في مفاوضات حول الشروط التي يمكن بموجبها أن يسهم أصحاب الأراضي والتجار والجنود وغيرهم في الجهد الجماعي.

ورغم حق التصويت المحدود، فإن تحول السلطة نحو البرلمان أفاد -إلى حد كبير- في زيادة أثر الأعمال التشريعية على رفاهية الجميع، واكتسبت الأطراف كافة في بريطانيا العظمى والمستعمرات -بحكم التنظيم الجغرافي للتمثيل البرلماني- مزيدا من الاتصال المباشر مع الناس، مع المشرّعين المنتخبين الذين اتخذوا تحركات سياسية متعاقبة.

ورغم استمرار كبار أصحاب الأراضي في السيطرة على السياسة الوطنية، فقد وسعت الرسملة التأثير المستقل للتجار والماليين في لندن وأماكن أخرى، إذ أصبحوا المعتمدين لدى الحكومة والمديرين لرأس المال.

وقللت حركة البروليتارية (الطبقة العاملة) -كما يخشى كثير من المعلقين الاجتماعيين- من اعتماد العمال على أصحاب أراضٍ بعينهم وأصحاب حرف ورعاة معينين، ومن ثَم أطلقت العمال ليدخلوا الحياة السياسية مستقلين بأنفسهم.

وعزّزت هذه التغيرات في مجملها التحالفات العارضة بين كل من الأرستقراطيين المنشقين والبرجوازيين (الذين افتقدوا إلى العدد في تحركهم بشكل مستقل ضد كتلة الطبقات الحاكمة) والعمال غير الراضين (الذين افتقدوا الحماية القانونية والاجتماعية التي كان الرعاة يمدونهم بها).

وسهّلت تلك التحالفات بدورها ملاءمة الجمعيات ذات الأغراض الخاصة وتوسّعها، والاجتماعات العامة، وحملات الالتماس والمسيرات المنظمة وغيرها من الأشكال ذات الصلة في رفع المطالب من قِبَل الطبقة العاملة وناشطي البرجوازية الصغيرة، لكنها صعّبت على السلطات مهمة الحفاظ على الحظر القانوني لتلك الأنشطة، خاصة عندما انضم لها عامة الناس.

أبعدت تلك التحالفات الطبقة العاملة نفسها وناشطي البرجوازية الصغيرة عن العمل الهدّام المباشر كوسيلة لرفع المطالب.

وخلقت التحركات المشتركة بين الأرستقراطيين المنشقين والبرجوازيين الراديكاليين والبرجوازيين الصغار الغاضبين والعمال إرهاصات ومساحات قانونية لأعمال الحركة الاجتماعية، حتى بعد انتهاء الحملات والتحالفات التي كانت جارية آنذاك.

مغامرات القرن 19

يستعرض الكتاب نماذج لـ4 دول: فرنسا، بلجيكا، الولايات المتحدة، المملكة المتحدة. ويخلص إلى أن الانتخابات التنافسية المتلاحقة كانت من أكبر معززات ظهور الحركات الاجتماعية، واسترشدت الفعاليات بوسائل القرن 18 في النضال الاجتماعي، الأمر الذي يؤكد أحد حجج هذا الكتاب، وهي أن عملية ظهور ونمو الحركات الاجتماعية ليست وليدة اللحظة، بل كانت نتاج تراكم من النضال الاجتماعي، والتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

ووفّرت الحملات الانتخابية فرصا لتجمعات وحشود كبيرة كان من الصعب على السلطات استبعاد غير الناخبين منها، كما أنها حوت نقاشات لم يكن ممكنا إسكاتها بعد نهاية الحملات الانتخابية، وعظّمت الانتخابات أهمية الأعداد على مستوى الدعم لأي جماعة، وسمحت التقسيمات الجغرافية بإدخال نقاشات محلية وإقليمية في حيز النقاش العام، وأخيرا كان التقسيم القانوني بين متمتعين بحق التصويت ومحرومين سببا في رفع مطالب المحرومين من هذا الحق.

توسعات وتحولات القرن 20

أثّرت فترة الحربين العالميتين في صعود الحركات الاجتماعية، لكن بعد ذلك انطلقت موجة بدأت عام 1968 في أوروبا الغربية وامتدت خارجها في الأميركتين وبولندا والتشيك، مع اختلاف في المطالب وأسباب الاحتجاجات. "ومن ردود الأفعال حول صراعات عام 1968 بالولايات المتحدة وغيرها تطورت الفكرة القائلة إن الحركات الاجتماعية القديمة التي نشأت لصالح قوة العمال وفئات أخرى مُستغَلة بلغت أشدها. أما الحركات الاجتماعية الجديدة التي وُجهت نحو الاستقلال والتعبير عن الذات ونقد المجتمع ما بعد الصناعي فقد اعتقد كثير من المراقبين أنها تقتلع الحركات القديمة وتحل محلها".

"إذن، وعلى خلاف الحركات السالفة التي دارت حول المصالح، وتمثلت أهدافها في انتزاع السلطة والمنافع من النظام القائم؛ جرت الحجة وقتها على أن الحركات الاجتماعية الجديدة المتمركزة حول الهُويَّة أعادت تشكيل الإطار الحقيقي للحياة الاجتماعية". ثم كانت هناك تحولات عام 1989، دشنت السياسة التنافسية الانتخابية في أغلب النظم الاشتراكية الأوروبية، كبولندا وتشيكوسلوفاكيا، وبالطبع هدم جدار برلين".

كما كان هناك عامل تحول مهم آخر في الحركات الاجتماعية في القرن 20، إذ دخلت الحركات اليمينية على خط الحركات الاجتماعية، وحدث ذلك لأجل التعبئة المضادة للمطالبات الإصلاحية أو الراديكالية، كما أصبحت هناك تحالفات دولية بين الحركات الاجتماعية، الأمر الذي أسهم في تعزيز نموها.

الحركات الاجتماعية تدخل القرن 21

بالانتقال إلى القرن 21، نرى أن وسائل الاتصال أصبحت عاملا مهما في الحركات الاجتماعية، وهو ما بدا في ثورات الربيع العربي، التي وُصفت بأنها ثورات فيسبوك، لكن الكتاب يطلق 4 تحذيرات: الملامح الأحدث للحركات الاجتماعية تنتج عن التغيرات في السياقين الاجتماعي والسياسي أكثر من كونها تنتج عن الابتكارات التكنيكية.

وبالإضافة إلى ذلك، تعمل وسائل الاتصال في اتجاهين: أحدهما خفض تكلفة الاتصال بين الناشطين المتصلين أساسا ببعضهم البعض، وثانيهما استبعاد الذين يفتقدون إمكانية الوصول إلى وسائل الاتصال الجديدة.

ويلاحظ المؤلف أن معظم نشاط الحركات الاجتماعية حتى الآن يعتمد على أشكال تنظيم محلية وقومية ووطنية، ويعتبر أن مجابهة العولمة أصبحت تسيطر حاليا على مشهد الحركة الاجتماعية.

الدمقرطة والحركات الاجتماعية

يجادل الكتاب بأن طبيعة الحركات الاجتماعية تتشكل لأجل مطالب خاصة ببرنامج أو هوية أو مكانة الحركة المَعنيّة، وهي مطالب لا تكون لها بالضرورة صلة بالديمقراطية؛ فالمطالبات الخاصة ببناء مدرسة أو عمل طريق لا تزكي الديمقراطية، لكنها -من دون شك- تفيد في تعزيز الحريات الديمقراطية؛ لذا فإن الحركات الاجتماعية تفيد الديمقراطية على المستوى التراكمي؛ وذلك عندما توسع مجالا أو تزيد عدد المشاركين في السياسة العامة، وتساوي بين ثقل المشاركين فيها، وتضع حواجز أمام أشكال عدم المساواة، كما أن العكس بالعكس إذا قامت الحركات الاجتماعية بالتمييز بين فئات المجتمع، أو ضيقت مجال المشاركة في السياسة العامة، فإنها تُسهم في نزع الدمقرطة عن المجتمع.

مستقبل الحركات الاجتماعية

يخلص الكتاب إلى تصور أحد 4 سيناريوهات لمستقبل الحركات الاجتماعية في بقية القرن 21، ويلخصها في "التدويل، والانحدار الديمقراطي، والتحول إلى الاحترافية، والانتصار".

ويشرح المؤلف فكرته معتبرا سيناريو التدويل تحولا دقيقا بعيدا عن الحركات الاجتماعية المحلية والإقليمية والوطنية في اتجاه نشاط الحركة الاجتماعية العالمية، أما انحدار الديمقراطية فمن شأنه إحباط جميع أنواع الحركات الاجتماعية، لا سيما الحركات الكبرى، لكنها قد تترك جيوبا لنشاط الحركة الاجتماعية المحلية أو الإقليمية، حيث تعيش بعض المؤسسات الإقليمية.

وبالنسبة لخيار التحول إلى الاحترافية، فهي في الغالب ستقلص الأهمية النسبية للحركات الاجتماعية المحلية والإقليمية، بينما تحول طاقات الناشطين والمنظمين إلى مستويات وطنية، أو على الأخص مستويات دولية وعالمية.

وأخيرا، يصف الانتصار حلم الحركات الاجتماعية المجيد في كل مكان، حيث تعمل على جميع المستويات من المحلي إلى العالمي كوسيلة لتقديم مطالب شعبية. ويتنبأ الكتاب بأن التدويل يُحتمل استمراره لعقود، لكن الانتصار احتمال بعيد للغاية.

المصدر : الجزيرة