جان دوست ويوميات الجائحة وخيالات الخوف "في قبضة الكابوس"

غلاف كتاب في قبضة الكابوس
رواية "في قبضة الكابوس" تقدم يوميات الخوف في زمن الجائحة الذي يستدعي مخاوف المؤلف القديمة (مواقع التواصل الاجتماعي)

مثل موضوع الأوبئة والأمراض حقلا أدبيا مخصوصا خاض فيه كبار كتاب العالم، كالروسي ديستويفسكي والفرنسي ألبير كامو والبرتغالي ساراماغو، الذين لاحقوا تلك الأوبئة والأمراض العضوية منها والنفسية.

قارب بعض هؤلاء الأدباء الطاعون والجنون والفالج والجدري والعمى والصرع والتوحد، وانسحب ذلك على المكتبة الأدبية العربية التي بدأت تشهد مثل هذه الأعمال، ولعل أشهر الأعمال الأدبية الجديدة في هذا المضمار رواية "إيبولا 76" للروائي السوداني أمير تاج السر، وهي رواية حاولت مقاربة هذا الوباء تخيليا، وذهب بعض الكتاب إلى تخيل أوبئة جديدة كما فعل الروائي التونسي عبد الجبار العش في روايته وقائع المدينة الغريبة، التي انتشر فيها وباء خطير يجعل الناس تلتصق بكراسيها ولا تقوى على الحراك.

وتنوعت هذه الأعمال حسب اتجاهات الروائيين بين التوظيف الرمزي والعجائبي والفلسفي والواقعي التسجيلي، غير أن كتابةً معايشة للأوبئة لم نكن نتوقعها قبل ظهور كوفيد-19 أو ما يعرف بجائحة كورونا.

وقد ساهم الوضع الذي فرضه الوباء الجديد على الناس في كل مكان من العالم، في سرعة انتشار كتابات خاصة أنتجتها تجربة العزل والحجر الصحي.

وقبل أن ينتهي الوباء وقبل إيجاد لقاح له، صارت تلك الكتابات تطرق أبواب الناشرين من رواية وقصص قصيرة ويوميات، مما دفع بدار أردنية فتية هي دار خطوط إلى إطلاق سلسلة تحت عنوان "مرويات الفايروس" من ضمن إصداراتها يوميات الكاتب الكردي السوري المقيم بألمانيا جان دوست وضعها تحت عنوان "في قبضة الكابوس.. يوميات حصار كورونا".

يوميات الخوف

تستمد هذه اليوميات منذ عنوانها شرعية كتابتها من خلال واقع الخوف الذي سقطت فيه البشرية والذي حوّل الحياة إلى كابوس يعيشه العالم جماعيا، لكن لكل فرد كابوسه الخاص الذي يعيشه بمفرده حتى وهو مع عائلته في الحجر. لذلك يبدأ جان دوست يومياته كالتالي:

"استيقظت في الخامسة صباحا. ما إن فتحت عيني حتى نزلت من السرير كالملسوع.

سأكتب يومياتي..

هكذا قررت بعد أن أصيب أمس وخلال حوالي أربع وعشرين ساعة فقط أربعة آلاف شخص في ألمانيا أكثر من نصفهم في مقاطعتي.

أشعر أن كورونا أصبح لدى الباب. يتربص بي، ينتظرني لأخرج حتى ينقض علي.

يا إلهي ما الذي يحدث؟".

في هذا المقطع الافتتاحي لليوميات نكون أمام كل شيء، فالرعب هنا فردي والقرار فردي، والكاتب قرر أن يكتب يومياته هو، لا يوميات العائلة ولا المقاطعة. لقد شعر بالخوف الخاص، وهذه حقيقة الخوف، فخلاف الخشية والتخوف ينبع الخوف من الذات نفسها على نفسها. ويتشكل الخوف عند الكاتب في أعلى درجاته، وهو خوف من الموت، وخوف من الإصابة بالفيروس القاتل.

إن الخوف لا يعترف بالزمن، وعندما يحضر الخوف يبتذل الزمن وترتيباته اليومية، لذلك كان قرار الكتابة الخامسة فجرا، وهو ليس زمنا عاديا حسب التوزيع النمطي لشؤون الحياة اليومية، ففي هذا الوقت عادة ما يكون الناس نياما، لكن الكاتب قفز من سريره كالملسوع ليقرر الكتابة.

هنا تتجلى علامات الخوف من خلال كلمة "كالملسوع"، فلم ينهض الكاتب كعادته، بل قفز مقررا كتابة يومياته، فهو كأنما يلوذ بالكتابة من خوف حال دونه والنوم.

الروائي السوري-الكردي جان دوست
في حوار سابق مع الجزيرة نت قال الروائي السوري الكردي جان دوست إن تجربته الروائية تبحث عن إجابات عن أسئلة المصير في تاريخ حافل بالخيبات (مواقع التواصل الاجتماعي)

يجر القرار الكاتب من اليوميات إلى المذكرات منذ "اليومية" الأولى ليسرد علينا قصته مع الخوف والعزلة القديمين حين كان أولاد عمه يقتحمون عليه غرفته عنوة للسهر معه، مما اضطره لغلق النافذة بـ"خشب كتيم" لكي لا يشي نورها بوجوده، واعتبر تلك النجاة الأولى مما سماه بـ"فيروس التفاهة والسطحية" التي تجعل منه فردا في قطيع. ولكنه يعود إلى حاضر اليومية في النصف الثاني، ويتساءل إن كان هذا الخوف الجديد قد جعله من جديد فردا في قطيع بما أن الجميع يعيش حالة خوف:

"لكن ها هو الخوف يحوّلني إلى فرد خائف في جماعة خائفة كبيرة. يجعلني الخوف طائرا مذعورا يبحث عن عشه أو عن سرب يلتحق به ليجد الأمان" .

إن هذا الخوف الذي سقط فيه الكاتب حوّله من كاتب يكره مخالطة القطعان حتى إنه كان يردد دائما المثل الألماني "الغربان تطير في أسراب والصقر يحلق وحيدا" إلى التخلي عن صورة الصقر والبحث عن وضع الغراب الآمن.

الكاتب "الأقلي"

الكاتب الخائف لا يتوقف عن دوره في تأمل العالم وسياسات العالم، ومنذ الوهلة الأولى يجره الشعور الفردي إلى التنظير. ولأن الكاتب "الأقلي" لا يمكن أن يكون إلا كاتبا سياسيا كما قال الفيلسوفيان الفرنسيان جيل دولوز وفيليكس غاتاري في حديثهما عن رائد الكتابة الكابوسية التشيكي الألماني كافكا، فإن جان دوست الكردي يحوّل الحديث عن الخوف باعتباره تجربة فردية إلى الخوف باعتباره سلاحا في يد الشموليات، الأنظمة والجماعات، يقول:

"الخوف هو منشأ القطيعية إذن. الخوف محور تدور حوله رحى الطاعة، ولذلك نرى الأنظمة الشمولية تعزز الإحساس بالخوف في المجتمعات التي تحكمها.

يقول: هناك عدو متربص يحيق خطره بكم، ولن يمنعه عنكم سواي. هكذا تريد الشموليات أن تقنع جماهيرها. حتى إذا لم يكن هناك عدو حقيقي خلقت أعداء وهميين، جائحة ربما، ظاهرة طبيعية أو أي عدو تُشغل بها الجماهير وتُستنفر مخاوفها لتوقظ غريزة القطيع".

ينتبه الكاتب إلى أن محيطه الحميمي أيضا سقط في حالة الخوف، وأن عليه أن يخفف وطأته بصفته رب العائلة، لكنه وإن حمل قناعا وحاول إخراجهم من دائرة الخوف، فإنه في يومياته يعترف بأنه لم يكن قادرا على ذلك لأن الخوف جاثم على وجهه ولا يمكن مداراته.

إن مسألة حتمية القطيعية مثلت سؤالا مركزيا يحاول الكاتب تصفية الحساب معه منذ البداية لفهم ذاته الجديدة الواقعة تحت هذا الخوف الذي تحوّل إلى كابوس مع الأيام ومع الأرقام المتزايدة للمصابين في ألمانيا بالفيروس.

وكأن الكاتب يراجع قناعاته بشيء من العناد أحيانا، لكنه يريد أن يقنع نفسه شيئا فشيئا بأنه كان على ضلالة عندما تصوّر نفسه قادرا على العيش بعيدا عن القطيع طوال الوقت وبدأ يقنع نفسه بهشاشة الكائن البشري الذي مهما كانت رجاحة عقله فإنه يحتاج أحيانا إلى أن يتفاعل ويتعامل مع عقول صغيرة ويشاركها رؤيتها للحياة وتدبيرها كشراء المواد الغذائية التي رفض مرات المشاركة فيها حتى رأى الرفوف فارغة في المحلات ومخزون البيت يتضاءل وأعداد المصابين في تزايد.

خوف آخر قديم

تنادي سيرة الموت وسيرة الخوف بعضها بعضا في يوميات جان دوست، حيث يذكره صوت هدير المروحية فوق بيته لإنقاذ بعض المرضى في الحي بهدير الطائرات في الحرب. وهنا تضطلع اليوميات بمهام السيرة والمذكرات، فليست المحنة الحاضرة سوى خدمة محنة أكبر قديمة غطاها النسيان.

"نظرت إلى الأعلى، إلى السماء الغارقة في عتمتها الأزلية، فشاهدت طائرة هيلكوبتر فوق بنايتنا. كانت أضواء مصابيحها تلمع بقوة أتاحت لنا رؤية المروحة العملاقة وهي تدور بسرعة. بقيت الطائرة ثابتة في مكانها حوالي نصف ساعة. سببت لنا قلقا كبيرا. ثلاثون دقيقة من القلق والتوتر مضت ثقيلة كأن كل دقيقة مقيدة إلى جبل، تذكرت أطفال الحرب. تذكرت الرعب الحقيقي الذي يعيشه الأهل في الحروب وهم يريدون تبديد مخاوف أطفالهم. تذكرت فيديو لمواطن سوري يحاول التخفيف من قلق ابنته فيضحك مع كل قذيفة تطلقها طائرة حربية وتضحك معه ابنته. لم يكن أمامه المسكين إلا هذه الوسيلة للتغلب على الخوف، أو بالأحرى تحويل الحرب إلى لعبة مع ابنته".

ينحدر الخوف شيئا فشيئا نحو التحلل في المصير، فيسقط الكاتب في خيالاته واعتقاده أنه مصاب وتبدأ رحلة خوف جديد، خوف حقيقي يقطع الأنفاس ويمزق متانة اللغة كما تشعر الشخصية الكاتبة بتمزقات الحلق، ويزداد رعب الكاتب بوصول أخبار صحبه من شتى أنحاء العالم مصابين بكورونا، مما يحول حياته إلى "ديستوبيا".

لغة اليوميات

ترصد الكاتبة الأردنية هناء البواب في مقدمة الكتاب ذلك التحوّل الذي حدث للغة جان دوست أثناء تحوّله من الكتابة الروائية إلى كتابة يومياته، فتقول: تعرضت هذه اللغة المهيبة لأول انكسار فاضح، وهدر للهيبة على يد "الكابوس" الذي قبض عليه في أيام الفيروس الذي لعنه في عباراته لحظة لحظة، فكيف لكاتب متمرد أن يقع تحت سطوة الحظر والوجع.

تغير الكتابة لغتها كما تغير الثعابين أثوابها لتنتج لغة جديدة مع كل فصل، والكتابة تغير لغتها مع كل جنس، فاللغة الشعرية التي ينظم بها جان دوست شعره ليست لغة جان دوست الروائي التي تتخفف من شعريتها قليلا لتتمسك بمتانتها، ولكن مع اليوميات نكون أمام اعترافات وتسجيل لوقائع بعضها واقعي وبعضها ذهني، لذلك تتنازل اللغة أكثر عن الشعرية والاستعارية في الغالب لتكون أكثر واقعية. وهذا ما حدث مع جان دوست في كتابة كابوسه اليومي.

لقد تحولت لغة دوست تحت وقع الخوف إلى لغة الحد الأدنى أحيانا، وهي لغة الصحافة أحيانا أخرى وتلوذ بالعامية إذا لزم الأمر لتقول الحال:

"هل جاء كورونا ليقول للإنسان مهما علوت في معارج السماء فإنك من ماء مهين؟ وإن أصغر مخلوق يستطيع أن يهزمك ويخربط ويكركب حياتك من أقصى الأرض إلى أدناها؟".

غير أن الكاتب في يومياته ليس حالة واحدة، بل هو متقلب كل يوم بحسب جديد الوباء الذي ينعكس على النفس، فيبدل اللغة بلغة والنبر بنبر آخر، وفي ظل الحجر تتعاظم لغة التأمل الفلسفي، كما يحن أحيانا الكاتب إلى لغته الشعرية الاستعارية خاصة في الصباح حيث يعلن له النور أنه ما زال حيا وأسرته وأن الوباء لم يتسلل من الباب، كما تعود اللغة إلى استعارتها السوريالية في المساء، ففي المساء كما تنشط الآلام والأوجاع تكثر حركة الموت وخطاه في المدينة الألمانية.

يقول "في المساء، في حوالي السابعة والنصف تحطمت آنيّة السكون فجأة. تمزقت ستائر الهدوء الذي نعمنا به طيلة النهار، امتلأت السماء الصافية الخالية من حركات الطائرات فجأة بهدير مرعب. لم نفهم في البداية. بعد قليل جات ابنتي الكبرى مي…: إنها حوامة. هي فوقنا بالضّبط".

تنقلب اللغة عند ذروة الخوف إلى همهمات وتختزل في دعاء مقتضب: يا رب. لقد صارت اللغة كلها استغاثة للهشاشة. كاتب معارض قوي وشرس يقف في وجه فيروس نكرة مرتجفا رعبا.

على هذا النحو من التداعي يختلط السرد في يوميات جان دوست بين تسجيل الوقائع في الحاضر واستعادة شبيهات اللحظة في الماضي في سوريا، مراوحة بين تثبيت اللحظة وفلسفتها والتأمل في مكونتاها.

تسجل اليوميات لحظات القوة ولحظات انهيار الكاتب وهوسه بالمرض، وتكتب ضروب المشاعر في العزلة وحالة الخواء التي يسقط فيها الكاتب تدريجيا والعالم يتلاشى أمامه شيئا فشيئا.

هكذا تخلق اليوميات فلسفتها الخاصة باعتبارها ممارسة حرة تمتح من التاريخ ومن الواقع ومن السيري ومن الوثائقي ومن الانفعالات والتأملات. لكنها تؤرخ دون أن تقصد أحيانا لفترة تاريخية هي في هذه اليوميات: أيام كورونا في ألمانيا بعيون روائي وشاعر شرقي في الحجر والمنفى معا.

المصدر : الجزيرة