الأدب العجائبي والمختلق العربي.. لماذا ذهبت ريادة "الخارق المتخيل" للغرب؟

مقامات الحريري
ألّف الأديب محمد الحريري البصري المقامات التي اشتهرت باسمه ومزج فيها بين القصص والصنعة الأدبية المتقنة (ويكيبيديا)

عارف حمزة-هامبورغ

في النقد الغربي شاع استعمال مصطلح "عجائبي" و"فانتازي" لوصف الحكايات التي تحمل العجب والدهشة والخيال الخارق وغير الواقعي. وفي السياق العربي يطرح العديد من الكتاب والأدباء والنقاد العرب سؤال مبرّر إلحاق ريادة الأدب الفانتازي أو العجائبيّ بالغرب، ولماذا تمّ تجهيل العرب في هذا السياق؛ فهل يوجد في السرد العربيّ ما هو سبّاق على السرد الغربيّ في ذلك؟ 

هل يعود هذا التقصير إلى الدارسين والنقّاد العرب أنفسهم؟ أم إلى محقّقي المخطوطات التي بقي الكثير منها في المتاحف الغربيّة؟ أم يعود ذلك إلى تقصير حكومات الدول العربية في دعم البحوث والدراسات؟

ربّما كل واحد من هذه الأسئلة بحاجة لمبحث خاص، لكن هناك سؤالا يدور دائما ضمن فضاء "المؤامرة"، وهو: هل ساهم الغرب الاستعماريّ في منع العرب من تلك الريادة، من ضمن عملها الدؤوب في نهب ونقل وإخفاء الكثير من المخطوطات؟

مخطوطات للفُرجة
اشتغل العديد من النقاد في هذا السياق، ولم يكن آخرهم الناقد السوري كمال أبو ديب الذي حقّق مؤخرا "كتاب العظمة" للمؤرخ القديم أبو الشيخ الأصبهاني (توفي 369 للهجرة/ 979 للميلاد)، وضمّنه أبو ديب في كتابه "الأدب العجائبيّ والعالم الغرائبي".  

ويرتبط استكشاف أسبقية العرب في الأدب العجائبي بالبحث في المخطوطات القديمة، فهناك كميّة هائلة من المخطوطات العربية التي لم تتم دراستها، وبينها أكثر من سبعمئة ألف مخطوطة عربية وإسلامية موزعة بين تركيا (250 ألف مخطوطة) وإيران (200 ألف مخطوطة) والهند (55 ألف مخطوطة) وألمانيا (40 ألف مخطوطة) وبريطانيا (15 ألف مخطوطة) وفرنسا (أكثر من 7 آلاف مخطوطة وورقة) وإسبانيا (10 آلاف مخطوطة) وأميركا (24 ألف مخطوطة) و"إسرائيل" (30 ألف كتاب ومخطوطة).

هذا فضلا عما هو مجهول من المخطوطات، وما احترق منها وأتلف خلال الحروب الكثيرة التي دمرت مدنا بأكملها، والتي جعلت أنهارا كثيرة تجري بلون الدم تارة، وبلون الحبر تارة أخرى.

كتاب
كتاب "الأدب العجائبي والعالم الغرائبي" للناقد السوري كمال أبو ديب (الجزيرة)

"الفانتاستيك" أو الإبداع التخيلي
أطلق الفيلسوف الفرنسي البلغاري تزفيتان تودوروف (1939-2017) مصطلح الفانتاستيك على الإبداع التخيلي، و"نسب ظهوره عشوائيا إلى القرن الثامن عشر في أوربا"، كما يقول الناقد السوري كمال أبو ديب الذي يرى أن الوقت قد حان لدراسة التراث العربي العظيم في هذا التصنيف الأدبي.

ويرى أبو ديب أن نصوصا عربية "مثل كتاب العظمة، ومنامات الوهراني، وألف ليلة وليلة، والحكايات العجيبة والنوادر الغريبة، (ربما يقصد بها الحكايات العجيبة والأخبار الغريبة، تحقيق هانس فير)، والسير البديعة من مثل سيرة الهلاليين وسيف بن ذي يزن، لَبين كنوز الكتابة الفاتنة في العالم، بمثابة دررٌ يندر نظيرها في فضاء الإبداع التخيلي الجموح". 

ويتابع أبو ديب بأن الأوان قد آن لدراسة هذا التراث العظيم بما يستحقه من جهد وعلم ووقت.

المفتريات والتجاهل
يلفت أبو ديب النظر لمصطلح "المفتريات" الذي أطلقه الأديب الكبير بديع الزمان الهمذاني، كإحدى تقنيات السرد في المختلق العربي.

وقدّم الهمذاني (358-395 للهجرة/969-1007 للميلاد) مخترع فن المقامة، إلى "الأدب العربي الكلاسيكي أول عمل خيالي رُوي على ألسنة الناس وليس على ألسنة الحيوانات"، على حدّ قول الباحثة اللبنانية الأميركية وداد القاضي.

استخدم الهمذاني الشعر والنثر، بأنواعهما البلاغية، وكذلك السخرية في كثير من الأحيان، لوصف مغامرات بطله المتسول أبي الفتح الإسكندريّ. 

وبخلاف مقامات الهمذاني، لا يمكن تجاهل كتاب "ألف ليلة وليلة" -واسمه العربي القديم "أسمار الليالي للعرب مما يتضمن الفكاهة ويورث الطرب"- والذي مرّ عليه تودوروف نفسه بكثير من الإعجاب، وأثّر في خرائط الكتابة في العالم، ولا يُمكن كذلك إغفال إبداعات كثيرة تراكمت على هذا النمط التخيلي الواسع.

عرف جنس الفانتازيا الأدبي طريقه إلى الشعر والنثر والقصص العربي القديم (وكالات)
عرف جنس الفانتازيا الأدبي طريقه إلى الشعر والنثر والقصص العربي القديم (وكالات)

وتشتمل حكايات الكتاب -التي تم استخلاص كثير منها من أساطير فارسية أو بابلية- على قصص، مثل: "علاء الدين والمصباح السحري"، و"علي بابا والأربعون لصا"، و"رحلات السندباد البحري السبع"

حتى في الشعر العربي القديم وُجد تخيّل عالي المستوى وكتابة عجائبية لا يُمكن تجاهلها، وكذلك في الحكايات التي مزجت بين الواقعيّ والمتخيّل والساخر واستخدم الأقنعة، كما في كتابات الجاحظ على سبيل المثال، وكثير من الأدباء الذين توجد مخطوطاتهم في أماكن بعيدة ومجهولة.  

الرواية
وربط تودوروف، وغيره الفانتازيا بفن الرواية، بشكل أوسع من الحكاية، ولا يزال كثير من النقاد العرب يعتبرون الرواية العربية الأولى في هذا الفن الأدبي هي "حسن العواقب" للروائية البنانية زينب فواز التي صدرت عام 1899، بينما يغفلون -على سبيل المثال- رواية "حي بن يقظان" لابن طفيل (494-581 للهجرة/ 1100-1185 للميلاد)، والتي تحوي الكثير من التخيل واللاواقعية. 

ورغم أن هناك الكثير من المخطوطات التي ما زالت غير مُحقّقة، لكنها قد لا تميل بالريادة إلى الجانب العربي، خاصة مع البطء الشديد في العمل النقديّ العربي لمناظرة نظرائه من الغربيين، والذين يُقرّون بالتأثير الكبير للكتب العربية الإسلامية، ولكنهم يعتبرون كلّ مدارس الكتابة من ريادتهم. 

إن التراث العربي، كما يقول كمال أبو ديب، فيه الكثير من جوهر "التجاوز والجموح وكسر المألوف والمحدود والمنطقيّ والتاريخي والواقعي"، مما يجعله أولى بنسبة هذه الكتابة الأدبية العجائبيّة والغرائبية إليه لا لغيره.

إن تحقيق مخطوطة ما لا يعني نشرها فحسب، بل يعني كذلك تغييرات في الآراء النقدية والمسلّمات النقدية غير المُحقّة، ومنها كذلك ريادة الكتابة في هذا المجال. 

 
المصدر : الجزيرة