الكلية الإسلامية والجامعة الأوروبية.. هل ألهم المسلمون نهضة الغرب التعليمية؟

تصميم غلاف كتاب : نشأة الكليات؛ معاهد العلم عند المسلمين وفي الغرب
جورج مقدسي يرى في كتابه "نشأة الكليات.. معاهد العلم عند المسلمين وفي الغرب" أن الجامعات الغربية نشأت مستقلة (الجزيرة)

اعتبارا من النصف الأول من القرن 17 وحتى النصف الثاني من القرن 18، أي قبل الثورة الأميركية، نشأت الكليات التعليمية في المستعمرات البريطانية الجديدة بطريقة غير رسمية على هيئة مؤسسات وقفية خيرية وكانت تتمتع بالحق المميز الذي تختص به الجامعات وهو منح الدرجات العلمية، ويعود هذا النمط إلى كلية "ميرتون كوليج" البريطانية التي تأسست عام 1264م وكانت نموذجا للكليات التي أنشئت لاحقا في المملكة المتحدة في أكسفورد وكامبريدج.

وفي كتابه "نشأة الكليات.. معاهد العلم عند المسلمين وفي الغرب" يشرح المؤلف والأكاديمي الأميركي الراحل جورج مقدسي علاقة تاريخ معاهد العلم الإسلامية بالتاريخ الديني للإسلام، وإلهامها للنهضة التعليمية الأوروبية والغربية، كما يناقش نشأة هذه المعاهد العلمية وتفاعلها مع الحركات الدينية الفقهية والكلامية.

ويركز الكتاب الذي صدرت طبعته الإنجليزية الأولى عام 1981 على مؤسسة تعليمية بعينها، هي "الكلية الإسلامية" ويناقش طريقتها المدرسية، ونتاجها التعليمي خاصة في القرن الرابع الهجري الموافق للقرن 11 الميلادي في بغداد، وهي الحقبة المكانية والزمانية التي ازدهرت فيها هذه المدرسة.

ويناقش الأستاذ السابق بجامعة ميتشغان وهارفرد وبنسلفانيا -في الكتاب الذي صدرت ترجمته العربية عن دار مدارات- "وجود نظائر وتشابه وتطابق في المسارات والاتجاهات" المستخدمة في طرق التدريس، معتبرا أنها ليس مجرد متشابهات، فحتى المصطلحات الفنية تتطابق في حالات كثيرة.

ويرى المؤلف أن لمعاهد العلم عند المسلمين علاقة كبيرة بالنهضة الأوروبية، ويناقش "وجود نظائر وتشابه وتطابق في المسارات والاتجاهات" المستخدمة في طرق التدريس، معتبرا أنها ليس مجرد متشابهات، فحتى المصطلحات الفنية تتطابق في حالات كثيرة.

لقاء مميز

وفي مقدمة الطبعة العربية للكتاب عرّف بشير نافع، أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة لندن، بالمؤلف معتبرا أن لقاءه مع أستاذ الدراسات الإسلامية البارز هنري لاووست (توفي عام 1983) أثناء دراسته الدكتوراه في جامعة السوربون هي التي وضعته على أول طريق دراسة الإسلام في العصر الوسيط.

وكان لاووست باحثا في الدراسات الإسلامية واشتهر بعنايته الخاصة بابن تيمية، وعلى خطاه قام مقدسي باختيار الحنبلي المثير للجدل أبي الوفا بن عقيل موضوعا لرسالته الأكاديمية التي نشرت بالفرنسية ولا تزال تعد مرجعا رئيسا حول تاريخ الحنابلة والتاريخ الفكري للإسلام في القرن الخامس الهجري.

وأطلق مقدسي اسم "الكلية" (بالإنجليزية College) على مؤسسة التعليم الإسلامية، وليس الجامعة، للاختلاف في الأسس التي استندت إليها الجامعة في السياق الغربي، باعتبار أن الكلية تنشأ من مبادرة شخصية وقفية بينما ولدت الجامعة باعتبارها هيئة مرسمة تتمتع بامتيازات وحقوق وحماية، ولم يعرف تاريخ التجربة الإسلامية نظام الجامعة كما شرح مقدسي في فصله الأخير من الكتاب.

التعليم الإسلامي والأوروبي
ويبدأ مقدسي عمله حول تاريخ التعليم في الإسلام بدراسة نشوء وتطور المذاهب الفقهية الإسلامية، والعلاقة الوثيقة بين المذهب ومؤسسة المدرسة باعتبارها تطورا نوعيا في معنى التعليم وهدفه (مقارنة بحلقة المسجد مثلا)، ولأن المدرسة لم تكن ممكنة دون الوقف، يذهب مقدسي إلى تقديم واحدة من الدراسات بالغة الأهمية لأصل نظام الوقف وشروطه وأهدافه وعلاقته بالضمير الإسلامي، بحسب مقدمة نافع للترجمة العربية لكتاب مقدسي.

ويناقش مقدسي وجهتي النظر الرئيسيتين بين دارسي الإسلام وأوروبا الوسيطة، حول العلاقة بين نظم التعليم الإسلامية والغربية، وهما الأولى التي ترى عدم وجود تأثير كبير للمسلمين على فلسفة التعليم الأوروبي، والثانية التي ترى أن قنوات الاتصال في صقلية وإيطاليا والأندلس، بين العالمين الإسلامي والأوروبي، ساعدت في قيام نهضة تعليمية في القارة الأوروبية.

وبحسب مقدمة نافع فإن ثمة فارقا جوهريا في رأي مقدسي بين الوقف الإسلامي ونظيره البيزنطي، إذ يؤسس الوقف الإسلامي طوعا من قبل شخص مسلم ويُمنح، أبديا، وبصورة مستقلة عن الدولة أو أي مؤسسة رسمية أخرى، بينما يُعطي الوقف البيزنطي لمؤسسة الكنيسة، التي هي أصلاً هيئة اعتبارية، لتوزيعه على الفقراء.

ويستدرك نافع قائلاً إن ما بدأ في الظهور في أوروبا الوسيطة كان تغييرا في صفة الوقف، تحت تأثير إسلامي على الأرجح، أسس لوجود الكلية والجامعة، وخلف ذلك فإن تشابها كبيرا يمكن رؤيته في أنماط التعليم ووسائله ومناهجه بين المؤسسات التعليمية الأوروبية الجديدة (في ذلك العصر) والمدرسة الإسلامية، كما أسس كلاهما للنهج المدرسي الذي يعتبر بداية النهج العلمي الحديث.

وفي الفصل الثاني من الكتاب، تعرض مقدسي لتقسيمات حقول المعرفة التراثية، ونظام التعليم والمنهج الدراسي المتبع، وطريقة التتابع النظري والتسلسل للمقررات الدراسية، وتناول كذلك تنظيم العملية التعليمية وطريقتها، مستشهدا بمجموعة من العلماء، وشرح ما تعنيه "الطريقة المدرسية" ولا سيما مناهج الجدل والمناظرة والتقرير، التي تأخذ الطالب إلى مراتب التعليم الإسلامي العليا.

واستعرض نموذجا من البرنامج اليومي للمدرسة الصالحية التي أنشأها الملك الصالح نجم الدين أيوب -سابع سلاطين مصر في زمن الدولة الأيوبية- عام 641هـ/1243-1244م، وتناول ترتيب المجلس والجالسين في الحلقات، ووظيفة الأصحاب، والدعاء في المجلس، وأيام التدريس والعطلات، وسنوات الدراسة الطويلة.

وقارن مقدسي كذلك بين طرق التعلم والتذكر التي تتضمن الاستظهار والإعادة والفهم والمذاكرة ودفتر المذكرات، كما استعرض طريقة النظر، والجدل والإجماع، والمناظرة والمحاجاة، وأساليب المناظرة، وإجازة التدريس، كما ناقش مسألة استعمال العنف في المناظرة، وموضوع إجازة الإفتاء.

 

 

الكلية والجامعة
وفي الفصل الثالث "مجتمع أهل العلم"، يستعرض مقدسي الجماعة المدرسية -مدرسين وطلابا- شارحا نظام الدرجات التعليمية، ومستويات الطلاب في المدارس، ويتناول طريقة توزيع غلة الوقف ومستحقات الطلاب من الأموال، ضمن استعراضه لأجور الطلبة، ونظام المنح والعطايا، وميزانيات المدارس مثل المدرسة العمادية الشافعية والمدرسة الشامية الجوانية، ودار القرآن والحديث التنكزية، والمدرسة الفارسية، ويناقش كذلك تقلب غلة الوقف وحالات اختلاسها ونماذج من سوء التصرف.

وقسم المؤلف مناصب ومهن ووظائف التعليم للمدرس ونائبه، ومساعديه مثل المعيد والمفيد، وتناول دور المفتي والقاضي، ووظائف النحوي وشيخ القراءة والوعاظ والإمام والمعلم، والمؤدب، والنقيب رئيس الأشراف، والناسخ والورّاق، والمصحح والمراجع والخادم.

وفي الفصل الرابع، قارن المؤلف بين تجربة الغرب المسيحي وتجربة العالم الإسلامي، مؤكدا التشابه في طرق التدريس ووظائفه ومناصبه، والمشابهة في ظواهر مثل تقدم الدراسات القانونية وتدهور الدراسات الأدبية.

ويعتبر مقدسي الجامعة شكلا من أشكال التنظيم الاجتماعي ظهر في الغرب المسيحي في النصف الثاني من القرن 12، مؤكدا أنها لم تكن من نتاج العالم الروماني الإغريقي، كما لم تنشأ بداية من المدارس الأسقفية أو مدارس الأديرة التي ظهرت قبلها، لأنها كانت تختلف عنها في تنظيمها ودراساتها.

ويرى مقدسي أن الجامعة لا تدين في وجودها بشيء للحضارة الإسلامية، وهي من إبداع الغرب المسيحي في تنظيمها ونظام امتيازاتها التي حصلت عليها من البابا والملك، ويرجع الفضل في منح تلك الامتيازات والحماية إلى الوضع الغريب الذي وجد فيه الطلاب أنفسهم وهم بعيدون عن أوطانهم، إذ وجدوا أنهم يعاملون معاملة الأجانب في مدينة لا يتمتع بوضع المواطنين فيها سوى سكانها المحليين.

وفي مقابل الجامعة التي وصفها بالغريبة على التجربة الإسلامية، فإن الكلية بصفتها مؤسسة خيرية قائمة على الإحسان والصدقات، كانت أصيلة في نظام التعليم الإسلامي لارتباطها بنظام الوقف، وأنشئت أول كلية في الغرب اللاتيني في باريس عام 1180م على يد اللورد جوكيوس الذي كان قد عاد لتوه من زيارة القدس، وكانت أشبه بنُزل للطلاب الفقراء.

حركات فكرية
واعتبر مقدسي أن دراسته تتغيا تعميق الفهم لفترة بالغة الأهمية في تاريخ الفكر الإسلامي، لأن الحركات الفكرية يزداد فهمنا لها عندما ندرسها في إطار العوامل التي أدت إلى قيامها، كما أن الأعمال الفكرية يتسع نطاق فهمنا لها -شكلا ومضمونا- بمقدار إحاطتنا بطرق التعليم والدراسة والتأليف، وإلمامنا بتفاصيلها الجوهرية.

وشدد مقدسي على كون كتابه لا يقدم استعراضا إجماليا للتربية الإسلامية، لأن مثل هذه الدراسة الشاملة لا بد أن يسبقها إجراء عديد من الدراسات المعمقة أولا، وإنما يحاول التركيز على مؤسسة تعليمية بعينها، هي الكلية الإسلامية، خاصة في شكلها المدرسي، كما يركز على "طريقة النظر" التي كانت نتاج هذه المؤسسة التعليمية.

المصدر : الجزيرة