المفكر المغربي امحمد جبرون للجزيرة نت: الفكر السياسي الإسلامي ابن بيئته ويعكس خصائص عصر التدوين

المفكر المغربي امحمد جبرون
المفكر المغربي امحمد جبرون يعتبر أن الفكر السياسي الإسلامي نشأ بشكل متدرج كما هي الحال في فقه السياسة (مواقع التواصل)

لا يزال جدل التراث السياسي الإسلامي حاضرًا بقوة في المشهد الثقافي العربي، ويشكل جزءًا كبيرًا من النقاش الذي يمتزج التاريخي فيه بالفلسفي، في حوار لا يخلو من إسقاطات سياسية على الواقع المعاصر.

وفي سعيها لاستجلاء جوانب من هذا الجدل، تستضيف الجزيرة نت المفكر والمؤرخ المغربي امحمد جبرون، في حوار حول تشكل وآثار التراث السياسي الإسلامي مع تفاعلات الحداثة الراهنة.

وانطلاقًا من الكتب والدراسات والمشاركات العلمية التي قدمها في ملفات أكاديمية عديدة، تمحور انشغال المفكر المغربي حول قضايا الثقافية الإسلامية، وكذلك معضلات التحول الديمقراطي في العالم العربي، وأصدر في هذا الصدد مؤلفات عديدة، أبرزها؛ تاريخ المغرب الأقصى من الفتح الإسلامي إلى الاحتلال (الدوحة 2019)، ونشأة الفكر السياسي الإسلامي وتطوره (الدوحة 2016)، وإمكانية النهوض الإسلامي.. مراجعة نقدية في المشروع الإصلاحي لعبد الله العروي (بيروت 2012)، ومفهوم الدولة الإسلامية (الدوحة 2014)، كما فاز بجوائز أكاديمية عربية مهمة عديدة، فإلى الحوار:

كيف يمكن وصف السلطة السياسية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وكيف شكلت هذه الحقبة الفكر السياسي الإسلامي؟

إن السلطة السياسية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كانت سلطة زمنية بالرغم من صفة النبوة التي اتصف بها قائد هذه السلطة ورأسها النبي محمد عليه الصلاة والسلام، ومعنى هذا أن حيثيات وموجبات ممارسة السلطة، وامتدادها، وطبيعتها؛ نشأت في اتصال وتجاوب مع الواقع، وبالتالي كانت السلطة السياسية في الواقع ممارسة متغيرة بحسب الظرف، وليست ممارسة ثابتة ونمطية، وهو ما تجلى على مستوى مفهوم الأمة وعناصرها الأساسية، وأيضا على مستوى تطور العلاقة بغير المسلمين من اليهود والمشركين.

ومن ثم، فالفكر السياسي النبوي هو فكر مدني، واقعي، مصلحي، وأخلاقي. وقد تمثل الخلفاء الراشدون بعد النبي عليه السلام هذا الفكر، وساروا على نهجه، غير أن هذا الأمر لم يستمر طويلا لأسباب كثيرة أشرنا إلى بعضها في كتابنا "نشأة الفكر السياسي الإسلامي وتطوره"، وعلى رأسها التأثير الفارسي، الذي دفع التجربة السياسية الإسلامية بقوة نحو "النص"، حيث لاحظنا تحول الفكر السياسي الإسلامي تدريجيا إلى مجال للثوابت، والنصوص، والقطعيات. الشيء الذي لم يكن واضحا في النصوص والممارسات السياسية الإسلامية المبكرة.

الفكرة السياسية حسب تعبيركم هل تعرف وجودًا كبيرًا في القرآن الكريم؟ وهل ينعكس حجم هذا التواجد في السيرة النبوية؟

الفكرة السياسية الإسلامية في جوهرها أخلاقية، تشكل خلفية للأحكام النصية، وإنها ثابتة لا يلحقها النسخ أو التغيير بخلاف النصوص التي تعرضت للنسخ، واختلفت أحكامها حسب الظروف والأحوال؛ ولهذا فالمرجعية الأساسية للفكر السياسي الإسلامي -سواء في القرآن أو السنة- هي مرجعية أخلاقية، تستند إلى منظومة قيمية متشابكة ومتكاملة. فعلى سبيل المثال، إذا كان العدل اقتضى في مرحلة من مراحل تطور الإسلام المبكر قسمة الغنائم بين الفاتحين والمجاهدين حسب الاستحقاق، فإن القيمة نفسها اقتضت العدول عنه في مرحلة أخرى، واستبداله بالأسهم والأجور، وهكذا.

ولا يخفى على القارئ أن هذا الأمر فيه نصوص قطعية، وقد يبدو الفقه العمري في هذا الباب خارجا عن النص، لكنه في الحقيقة في عمق النص ومقاصده الأخلاقية التي تجاهلها كثير من الفقهاء والأصوليين بتركيزهم على ظاهر النصوص ومنطوقها.

كتاب "نشأة الفكر السياسي الإسلامي" للمفكر المغربي امحمد جبرون (الجزيرة)

وصفت الفكر السياسي قبل التدوين في كتابك "نشأة الفكر السياسي الإسلامي" بأنه يغلب عليه التداول الشفهي والارتباط بالبيئة والعادات، وأنه متأثر بالمحيط الثقافي، كيف ذلك؟ وكيف أثر هذا على تشكل الفكر السياسي الذي نعرفه اليوم؟

صحيح، إن الفكر السياسي الإسلامي ابن بيئته، فقد تأثر بمعهود العرب، وعاداتهم في التسيير والتدبير؛ وبالتالي كانت الكثير من الممارسات التي مارسها القادة المسلمون الأوائل -بما فيهم النبي عليه السلام- متأثرة بالبيئة العربية، وكان الرسول عليه السلام أشبه ما يكون بقائد حلف قبلي منه بإمبراطور أو ملك، ولم تكن هذه التجربة مقدسة، ومنزلة في تفاصيلها ووسائلها من السماء، ومن ثم ففرادة التجربة السياسية النبوية لا يجب ولا يمكن التماسها في المظاهر التاريخية والزمنية التي جسدتها، ولكن يجب البحث عنها في المرجعية الأخلاقية التي أطرت هذه التجربة، ومظاهر السمو التي حققتها مقارنة بغيرها من التجارب التي كانت في محيطها، سواء الجاهلي أو الفارسي-الساساني، أو الروماني-البيزنطي.

لكن الذي يجب الانتباه إليه في هذا السياق أن هذه الخصائص "الفطرية" للفكر السياسي الإسلامي تم تجاوزها أو الغفلة عنها في عصر التدوين، حيث برزت وغلبت خصائص أخرى، أغلبها مستورد من الموروث الفارسي، وبعضه من الموروث اليوناني-البيزنطي/القيصري؛ ولهذا فالفكر السياسي الإسلامي الكلاسيكي في جانب كبير منه لا يعكس الخصائص الفطرية للفكر السياسي الإسلامي كما تمثلتها التجربة النبوية، وإنما يعكس خصائص عصر التدوين، التي في جميع الأحوال ليست أصيلة بشكل كبير.

الفكر السياسي الإسلامي الكلاسيكي في جانب كبير منه لا يعكس الخصائص الفطرية للفكر السياسي الإسلامي كما تمثلتها التجربة النبوية وإنما يعكس خصائص عصر التدوين التي في جميع الأحوال ليست أصيلة بشكل كبير

ما أهم أجناس الفكر السياسي قبل عصر التدوين؟ وكيف ظهرت؟

إن الفكر السياسي الإسلامي قبل عصر التدوين لا يمكن تجنيسه وتصنيفه بحسب أبواب العلم التي عرفت بعد التدوين. وإذا أردنا حصر عبارات الفكر السياسي الإسلامي في هذه الفترة المبكرة وتجنيسها، فيمكن القول -وباختصار شديد- إنها لم تخرج عن الأصناف التالية: فكر سياسي مرتبط بالأمثال والحكم، وفكر سياسي مرتبط بالآداب والمسامرات، وفكر سياسي مرتبط بالخطب والمراسلات، وفكر سياسي عقدي ارتبط بالكلام المبكر في الإمامة، وفكر سياسي فقهي تمثل في مجموعة من الأحكام الفقهية ذات الصبغة السياسية.

ويعكس هذا التصنيف بساطة الفكر السياسي الإسلامي في هذه المرحلة، كما أنه يكرس انطباعنا على أنه في جوهره عقلاني، وتاريخي، لم يوجد مكتملا، ولم ينزل جملة في مرحلة من مراحل تنزل القرآن وتشكل السنّة.

ما أهم السمات التي ميزت حقبة التدوين في تشكل الفكر السياسي الإسلامي؟

إن تراجع الثقافة العربية أمام الثقافة الفارسية التي كانت قوية وعالمة، ودخول الكثير من غير العرب في الإسلام، خاصة من الفرس والشوام؛ أثر بشكل قوي وفعال في العبارة السياسية الإسلامية التي ستتشكل في ضوء الموروث الفارسي بشكل رئيسي، سواء فيما يتعلق بعلاقة الدين بالسياسة والتعاضد المتين بينهما، أو تراجع منسوب العقلنة والمدنية في الفكر السياسي الإسلامي، التي كانت سمته قبل التدوين.

تراجع الثقافة العربية أمام الثقافة الفارسية التي كانت قوية وعالمة، ودخول الكثير من غير العرب في الإسلام وخاصة من الفرس والشوام أثر بشكل قوي وفعال في العبارة السياسية الإسلامية التي ستتشكل في ضوء الموروث الفارسي بشكل رئيس

إن هذا التأثر أو الاستلاب الفارسي المبكر للفكر السياسي الإسلامي، والذي كان -من ناحية- على حساب عروبته، يقدم لنا دليلا قويا على المرونة التي يتمتع بها هذا الفكر، وقدرته على التجاوب مع اللحظة التاريخية، فهو ليس معطى أو نصا جامدا، ولكنه فكر حي قادر على التفاعل مع السياق مهما كان صعبا، وبالتالي فالرسالة التي يمكن التقاطها من هذا الجانب هو أن المسلمين اليوم لهم كامل الحق في ممارسة حقهم التاريخي في التفاعل من منظور الإسلام مع العصر وحضاراته المتعددة، واستحقاقاته المختلفة.

ومن ناحية أخرى، فإن الفكر السياسي الإسلامي نشأ بشكل متدرج كما هي الحال في فقه السياسة؛ فالبداية كانت مع فقه الأموال، ثم القضاء والولايات، ثم الأحكام السلطانية، وهي آخر الأبواب ظهورا.

أشرت في دراستكم القيمة إلى أن الفكر الإسلامي تجاذبته تيارات مثل علم الكلام والفقه والآداب السلطانية والفلسفة، كيف ذلك؟ هل أزمة الفكر السياسي الإسلامي جذورها فقهية كلامية؟

إن الفكر السياسي الإسلامي ليس جملة واحدة أو جنسا منسجما يمكن تعريفه على نحو خاص ودقيق، وإنما هو عنوان لفعالية فكرية وثقافية، وتفاعل متعدد مع قضايا السياسة وواقعها، ولهذا فهو في الحقيقة فكر فقهي، وحديثي، وأدبي، وفلسفي، وكلامي؛ وبالتالي إذا أردنا دراسة وتحليل الفكر السياسي الإسلامي حقيقة لا يمكن اختزاله في الفقه أو الكلام، بل لا بد من الأخذ في الاعتبار الإنتاجات والتراكمات التي تحققت في مجالات أخرى بعيدة نسبيا عن علوم ومعارف الشريعة كالفلسفة والآداب مثلا.

أما فيما يتعلق بأزمة الفكر السياسي الإسلامي في هذا المنظور، فهي في الأساس أزمة تصور علاقة الدين والعقيدة بالحياة؛ فالكثير من المسلمين يعتقدون بأن هذه العلاقة واضحة وموصوفة، ويكفي بالنسبة للمكلفين الامتثال والالتزام، ويرجعون في ذلك لعدد من المصادر التراثية في تعريف هذه العلاقة ببيان تكاليفها وأحكامها، غير أن الحقيقة بعيدة كل البعد عن ذلك؛ فعلاقة الإسلام كدين بالحياة بحاجة إلى تجديد وإعادة نظر في ضوء ما قلناه سابقا، تجديد يعيد الاعتبار لخريطة الثوابت الأخلاقية، ويجعلها حاكمة على غيرها من الأحكام. بمعنى آخر، يجب الاجتهاد اليوم في نقل الآمن للفكر السياسي الإسلامي من مرجعية الفقه بمعناه الكلاسيكي إلى مرجعية الأخلاق والقيم.

الفكر السياسي الإسلامي نشأ بشكل متدرج كما هو الحال في فقه السياسة فالبداية كانت مع فقه الأموال؛ ثم القضاء والولايات؛ ثم الأحكام السلطانية وهي آخر الأبواب ظهورا

هل أسهم الفكر الصوفي في تكريس فكر الطاعة داخل منظومة الفكر السياسي الإسلامي؟ أم كرس فكر المقاومة؟

إن الفكر السياسي الصوفي تجاذبه تياران رئيسيان: تيار جعل منه وقود مقاومة ومعارضة سياسية، وقد تجسد هذا الأمر في عدد من التيارات الصوفية، خاصة في الأندلس مع حركة ابن قسي (ت. 539هـ). وتيار جنح إلى المقاومة الروحية والسعي للإصلاح بالحِكم بدل الأحكام، وحاول أصحابه أن يبسطوا سيطرتهم على مملكة الروح، وتركوا مملكة الحس إلى أصحابها السلاطين والفقهاء. غير أن الغلبة عمليا كانت للتيار الصوفي الذي راهن على إصلاح النفوس وتهذيبها باعتبارها مدخل إصلاح العالم والوجود المادي.

في كتابكم "مفهوم الدولة الإسلامية" تحدثتم عن حتمية الحداثة، هل هي نفسها التي تحدث عنها عبد الله العروي؟

لا أظن ذلك؛ فالحداثة السياسية لا تحتاج إلى توقع أو تنبؤ اليوم، بل هي وضع وواقع نعيشه وتعيشه البلاد الإسلامية بأشكال متفاوتة ومختلفة، فقط الذي يجب أن نجتهد فيه اليوم هو تخليقها، وإخراجها من عنفها المادي، وعقلانيتها المجردة، التي تتسبب في الكثير من الكوارث اليوم؛ ومن ثم فالقول بحتمية الحداثة اليوم هي دعوة للاجتهاد لتخليقها.

تتحدثون عن البعث الدستوري في مقابل البيعة، هل ترى أن التطور الحداثي للبيعة هو الوثيقة الدستورية، رغم الاختلافات المعرفية والتاريخية المؤطرة للتجربتين؟

إن البيعة في أصلها وجوهرها تعاقد سياسي بين الحاكم والمحكوم، وهي الفكرة نفسها التي تمثلها الدساتير؛ ومن ثم فالبيعة في العمق خلفية أخلاقية للدستور، وتمنحه القوة، ولا معنى للازدواجية من هذه الناحية؛ ففكرة البيعة في جوهرها المستمد من التقليد العربي هي فكرة سياسية ثورية، لكنها للأسف لم تتطور تاريخيا بشكل جيد بسبب هيمنة وطغيان تقاليد الاستبداد المستمدة من التجارب الساسانية والقيصرية، لكن الحداثة السياسية الأوروبية وفرت لنا شرطا ثقافيا لاستعادة محتواها الأخلاقي، ومن ثم تأصيل فكرة الدستور.

الدولة الإسلامية المستندة إلى مرجعية أخلاقية قرآنية ونبوية لها وجاهتها، والعالم بحاجة إليها، فهي ليست فكرة تقنية أو مؤسساتية بقدر ما هي منظور أخلاقي مميز لوظيفة الدولة ودورها الإنساني

هل يمكن الحديث عن مفهوم الدولة الإسلامية في ظل تحديات الحداثة، أم أن الواقع تجاوز هذا المفهوم؟

إن فكرة الدولة الإسلامية المستندة إلى مرجعية أخلاقية قرآنية ونبوية لها وجاهتها، والعالم بحاجة إليها؛ فهي ليست فكرة تقنية أو مؤسساتية بقدر ما هي منظور أخلاقي مميز لوظيفة الدولة ودورها الإنساني، فقيم العدل والكرامة والحرية والمساواة والتضامن التي تستند إليها فكرة الدولة من المنظور الإسلامي تتفوق كثيرا على أخلاقيات الدولة الحديثة كما صممها الفكر السياسي الغربي، وتعيشه أغلب دوله.

المصدر : الجزيرة