المرتفعات الأثرية في عيون القصيد.. "ماتشو بيتشو" ملهمة الشعراء

مدينة ماتشو بيتشو الأثرية القديمة في البيرو بأميركا اللاتينية (شترستوك)

يقال إن الإسبان حين وصلوا إلى مدينة كوسكو في البيرو، حمل أهالي المنطقة الأشياء ذات القيمة من مدينة "ماتشو بيتشو" (Machu Picchu) ولجؤوا إلى مكان مجهول.. إلى "بايتيتي" المدينة الأسطورية أو المدينة الذهبية التي لم يُعثر عليها حتى اليوم.

يقال إن الأهالي قد أحرقوا بيوتهم قبل الرحيل حتى لا يجد الإسبان شيئا ذا قيمة. فهل ساعدت أدخنة النيران في حجب موقع ضخم مثل أطلال مدينة ماتشو بيتشو؟ تقول بعض النظريات إن الإسبان اعتقدوا أن تلك المنطقة هي المدينة الذهبية لكن سرعان ما تبين لهم خطأ تخمينهم. ويقال إنهم لم يمروا بمرتفعات ماتشو بيتشو أصلا وأن الأهالي تعمدوا ألا يأتوا على ذكرها كي لا يخربها الغازي الجديد.

تشير نظريات إلى أنها كانت مدينة مقدسة وتقام بها طقوس دينية، وأن الغطاء النباتي الذي يحيط بآثار إمبراطورية الإنكا في تلك المرتفعات ساهمت في إبعاد أنظار الإسبان عنها، فبقيت مختبئة بين الأشجار والغيوم، وأطياف أناس هجروها بعد حرب أهلية كانت قد بدأت وانتهت قبل الغزو الأجنبي.

عادت ماتشو بيتشو للاختباء مع انتشار فيروس كورونا أوائل مارس/آذار العام الجاري، حتى أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حيث عادت لاستقبال السياح وفق إجراءات السلامة المرعية، وكان سائح ياباني هو أول الواصلين بعد انتظار في البيرو دام 7 أشهر.

المرتفعات في قصيدة

لا تجذب تلك المدينة السياح فقط، فلطالما كانت مصدر إلهام للكُتّاب -من شعراء وروائيين ونقاد وباحثين- ولعل أشهر القصائد التي كتبت بها، "مرتفعات ماتشو بيتشو" للشاعر التشيلي بابلو نيرودا، ووردت في ديوانه "النشيد العام". ففي عام 1943، وصل نيرودا المرتفعات على بغلة وأحيانا ماشيا، خلال 4 أيام. ولم تكن ماتشو بيتشو -التي تعني "الجبل القديم"- مصنفة كموقع سياحي كما هي الحال اليوم، ليكتب بعد سنتين من الزيارة ما يعد ملحمة وأحد أعظم قصائده، في كتابه "بابلو نيرودا.. الشاعر".

ينقل الكاتب مارك إلسنر عن نيرودا حديثه عن المرتفعات: "فكرت أن سُرّة تاريخ أميركا هناك، كانت المركز، أوج القارة الأميركية كلها، وأصلها…. يمكن للأوروبيين أن يقدّروا عظمة ماتشو بيتشو لكنهم لن يتمكنوا من فهم إحساسنا بالتاريخ ونحن نتأملها".

رجل يتجول في أنقاض مدينة الإنكا القديمة ماتشو بيتشو في بيرو (شترستوك)

وعن كتابة نيرودا لديوان النشيد العام الذي وردت فيه القصيدة يوضح الشاعر -كما ورد في الكتاب نفسه- أن "النشيد العام" كان يفترض أن يكون نشيدا عاما لتشيلي لكنه وسّع فكرته ليصبح النشيد العام لأميركا (اللاتينية). وهكذا، كانت ماتشو بيتشو الشرارة التي أطلقت عنان القصيدة الملحمية التي كتبها نيرودا بعد مروره بالمكسيك والبيرو وشعوره بالارتباط الشخصي بالقارة.

كان نيرودا بحاجة للعودة إلى تشيلي وتغيير مسار الديوان وتضمينه قصيدته الجديدة في حينه "مرتفعات ماتشو بيتشو" والتي تضمنت إشارات سياسية لتاريخ القارة وماضيها وحاضرها، "لقد فكرت في أشياء كثيرة بعد زيارتي مدينة كوسكو، فكرت في الإنسان الأميركي القديم -نسبة لسكان الأميركيتين من السكان الأصليين- رأيت نضالاته المستمرة حتى اليوم".

كتب نيرودا قصيدته على شاطئ المحيط في الجزيرة السوداء، أو إسلا نيغرا، وقد قسم القصيدة لـ12 قسما يقاربها بعض النقاد بمراحل درب الآلام في العقيدة المسيحية، وكأن الشاعر في القصيدة يمر برحلة حجّ ويحاول العثور على صفاء روحه عبر الاقتراب أكثر من جذوره التائهة. وقد نشر الديوان عام 1950، وحاز نيرودا على نوبل للآداب عام 1971.

سر ماتشو بيتشو

هكذا عنوَن الشاعر والقس النيكاراغوي إرنستو كاردينال (1925-2020)، كتابه الصادر في البيرو عام 2005، وقد أهدى قصائده لعالم الإنكا. ومعروف عن كاردينال اهتمامه بالسكان الأصليين في أميركا اللاتينية وهو أحد أعمدة الاتجاه السياسي والأدبي "لاهوتية التحرير" ويعتبر أحد أكثر المؤثرين في تلك القارة.

زار كاردينال البيرو للمرة الأولى في ستينيات القرن الماضي، في جولة شملت كوبا وتشيلي أيضا. وقد ظلت تلك الزيارة حاضرة في ذهنه عندما كتب قصيدة "سر ماتشو بيتشو" نقرأ منها:

طقوس شعب الإنكا:

حين تخرج النباتات الصغيرة في فبراير

يقدم الإنكا الذهب والفضة قربانا

في مارس.. ومع هطول المطر، يقدّمون المشاعل السوداء

وفي أبريل.. كان سادة كوسكو يذهبون لاحتفال الإنكا

كان الشعب يشارك الإنكا الطعام والشراب، ويرقصون رقصة اللهب

في مايو.. كانت تقدّم أضاحي الشكر لكل الحظائر

احتفالات الشمس العظمى كانت في يونيو، حين تحصي الدولة أفرادها

في يوليو.. كانت الأراضي توزع على المتزوجين الجدد وكانت تظهر أول الثمار

في أغسطس.. يبدأ الحرث، الإنكا (الزعيم) بنفسه كان يحرث مثلما في كوسكو

في سبتمبر، احتفالات زوجتي الشمس والقمر، وموسم التخلص من الأمراض والعلل

في أكتوبر.. احتفالات المطر، يجعلون مشاعل اللهب تبكي ليحثوا المطر على النزول

نوفمبر.. كان شهر الموتى، يخرجون المومياوات ويحضرونهم لمنازلهم

ديسمبر مثل يونيو.. شهر الاحتفال بالشمس، لكنه أعظم احتفالات العام

أوروبا تجلب الظلام

حمل حملة كبيرة على الأوروبيين وما أحدثوا من دمار في الإمبراطورية العظيمة "الإنكا" فيقول:

حين وصل الأوروبيون.. سار العالم للخلف

وبات تحت الأرض.. سطح العالم المنضّد

بدأ عصر الفوضى.. الأوروبيون جلبوا الظلام

كانوا نونكي والأفعى المائية.. كان لابد من الإجهاز عليها

ربما يسلك العالم منعطفا آخر ويعيد لنا زمن الإنكا

"الزمن المقدس" حيث كان يناير.. شهر الصيام والتوبة

والمواكب تسير باتجاه معبدي الشمس والقمر

نقد الرأسمالية

ويقول في قصيدة أخرى:

لم يعرفوا النقود.. ولم يمت في كل الإمبراطورية أحدٌ جوعا

لم تكن لديهم نقود.. لم يعرفوا البيع

يظهر واضحا كيف ينتقد كاردينال الرأسمالية ويحاربها في نصوصه كما في أنشطته ومجمل حياته، ولم تكن ماتشو بيتشو إلا حسرات يتجرّعها الأدباء والشعراء وأهل البلاد كلما وقفوا على أطلال حضارة في غاية التقدّم رغم أنه لم يثبت عنها استخدام الكتابة.

طريقة بناء المدينة حجرا على حجر دلّت على تطور كبير في العلوم لدى الإنكا، حتى أن البعض يغالي في افتراض نظرية بنائها من قبل "كائنات فضائية".

أحيا كُتّاب القارة ماتشو بيتشو في نصوصهم وإن كان أشهرهم نيرودا. وكذا فعل موسيقيون، ففي عام 1981، تعاونت الجامعة الكاثوليكية في تشيلي مع الكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا، ومن خلال فرقة لوس خايفاس قُدم عمل مسرحي موسيقي لُحّنت فيه قصيدة نيرودا الأشهر.

ورغم كل محاولات المؤرخين والباحثين والمستكشفين للتعرف إلى أسرار المدينة التي تمثل صوت الأسلاف وصوت أبنائهم، فإن الطريق ما زال طويلا أمامهم، والأدباء يحاولون بخيالهم.

المصدر : الجزيرة