رحلة الشاعر المغربي صلاح بوسريف مع العنوان: أختلف جذريا مع نازك الملائكة وأدهشني "يُغَيِّر ألوانه البحر"

صلاح بوسريف حاصل على الدكتوراه في كتابة الشعر العربي المعاصر وباحث في الأدب والتاريخ القديم وعضو مؤسس لبيت الشعر المغربي (مواقع التواصل الاجتماعي)

هل يستلهم الأدباء والكتاب عناوين أعمالهم من بين ثنايا السطور والنصوص التي ينجزونها أم أنه ليس بالضرورة أن تأتي حرفيا من داخل النص الإبداعي؟ وهل يبدؤون بالعنوان أم يختمون به؟ وهل يقبل الأديب والكاتب أن يضع الناشر عنوانا لكتابه؟

وبما أن العنوان هو عتبة النص، فهل يمكن أن يوجد نص بلا عتبة، وكتاب بلا عنوان، أم أن ذلك متعذر؟

وأمام عناوين لكتب ونصوص منجزة لآخرين، هل حدث أن تمنى أديب ما لو أن هذا العنوان أو ذاك من إبداعه؟ ثم ما العناوين الأولى التي أثارت دهشة الكتاب العرب، ولامست وترا في أرواحهم؟ وما الفرق بين عنونة الشعر (كمثال) وعنونة أصناف أدبية وكتابية أخرى كالرواية، والسيرة، والقصة، واليوميات، والنقد، والبحث، والترجمة، والفنون، والعلوم، إلخ….؟

وهل فكرة التناص في العنونة مقبولة، أم أن العنوان إذا وُضع يصير ملكية فكرية لكاتبه؟

الجزيرة نت تدشّن هذه الزاوية الجديدة (رحلتي مع العنوان) التي يتحدث فيها أدباء وكتّاب عرب عن حكايتهم مع "العنوان"، ورحلتهم معه كتابة، وتلقيا، وهي محاولة لإفادة القارئ ببعض أسرار الكتابة.

ضيف حلقتنا الأولى هو الشاعر والناقد والأكاديمي المغربي صلاح بوسريف، الذي أثرى المكتبة العربية بما يقرب من 15 كتابا في الشعر ونقده، فإلى شهادته مباشرة.

العناوين تختارنا

لا أعتقد أن كاتبا أو شاعرا يملك يقينا مطلقا في اختيار عناوين كتبه، ربما العناوين هي من تختارنا. ثمة صُدف عجيبة في كثير من الحالات تأخذنا إلى عناوين محددة، لكن هذا لا ينفي أن العنوان له علاقة كبيرة بالعمل، وهو مبثوث في طيات هذا العمل نفسه، ينتظر اللحظة التي يُسْفِرُ فيها عن نفسه، يخرج من صمته ليصبح هو ما يُشير إلى الكتاب أو العمل الشِّعْرِي.

كما لا يعني هذا أنني لا أتدخَّل في عناويني، لأن للعناوين خطرا كبيرا على العمل، كثيرة هي الكتب التي أفسدت عناوينها تلقيها، نفَّرت القارئ منها، أو لم تشُده إليها. فالعنوان هو عتبة العمل، وهو ما يمكن أن يأخذنا إلى دهاليز هذا العمل، حتى ونحن لم نقرأه بعد.

شخصيا، عناوين أعمالي الشِّعْرِية هي عناوين دقيقة محسوبة، ولها دلالاتها في طيات العمل نفسه. لم أنْسَق إلى عنوان دون اقتناعي به، وتدخل ذائقتي فيه، وله علاقة بالعمل، بل بجوهر العمل. وما أعنيه بالصدفة، هو تلك اللَّمْعَة التي تطفو في لحظة ما على السطح تدعونا إلى ضوئها، إلى ما فيها من سِرّ ومن شعر، خصوصا حينما يتعلق الأمر بالشِّعْر، ليس من الهَيّن أن نضع عناوين دون وعي شرطها الشِّعْريّ الجماليّ، وما تحمله من إشارات ورموز ودلالات. فاختياري لهذه العناوين هو اختيار شعْريّ بأفق فني جمالي مأخوذ من رؤيتي للعمل، ومن تصوري لبنائه، وما يحتمله من دوالّ، وللصدفة بالمعنى الذي أشرتُ إليه دورها في هذا الاختيار، لكنه ليس حاسما.

في كتابه "يا هذا، تكلم لأراك" يتتبع بوسريف مسيرة التصوف عبر رحلة بين بلخ الأفغانية إلى قونيا في تركيا (الجزيرة)

انعكاس للتجربة

حين تتأمَّل عناوين أعمالي الشعرية، ستجدها ذات وتيرة واحدة، أعني أنها تعكس طبيعة الاختيار الشعرِي الذي أعمل عليه، وطبيعة تجربتي التي هي تجربة تخرج عن العام والمألوف، وهي تجربة حداثة الكتابة التي تميل إلى النَّفَس الملحمي في البناء والتصور والدَّوالّ، في مقابل الغنائية والشفاهة، وهما من البنيات التقليدية القديمة التي لا تزال تهيمن على الشِّعر المعاصر، حتى عند من يدّعون الانتماء إلى الحداثة أو التنظير لها، فالذات أو الأنا لا تزال هي من يتكلم، وينوب عن الجميع في الكلام، ولا دور لأحد آخر في العمل، وكأن الصوت موجود داخل غرفة مغلقة لا يتردد فيها إلا صداه.

العناوين إذن هي أفق وطريق، وهي ما يأخذنا إلى طبيعة التجربة، وإحساس الشاعر نفسه. كثيرة هي العناوين التي تكشف ذوق ورؤية صاحبها، وحين تفتح الكتاب تتأكد من حدسك أو إحساسك هذا، لما في الكتابة ذاتها من اضطراب وارتباك، وغياب للحس الشعرِي الجمالي.

الشعر ليس عنوانا، الشعر نصّ وعمل، وهو بناء واشتغال على هذا البناء، فالمعماري لا يبدأ رسمه المعماري من عتبة البيت، بل من التصور العام للفضاء، كيف سيستثمره وكيف سيوزع فيه الغرف والممرات والشرفات، وغيرها من الفضاءات والأمكنة، والعتبة تولد من داخل هذا المعمار ذاته ولا تأتي من خارجه.

حين نضع العنوان في الشعر قبل النصّ والعمل، فنحن نكون كمن تصور الكل من الجزء، أو حكم على الكل من خلال الجزء، وهذا إسقاط ونوع من التصوُّر الذي يشي بالبناء المختل. في الدراسات من الممكن أن نقترح العناوين التي تكون تصورات، وقد تخضع لبعض التعديل أثناء البحث والكتابة، لا شيء ثابت وقار. في الشِّعر، الأمر يحتاج إلى أن نتعقَّب العنوان في ثنيات العمل ذاته، متى سيُسْفِر عن نفسه، ويظهر بتلك الدهشة التي يحملها معه، ويأخذنا إليها.

الناشر وعنونة الشعر

ما شأن الناشر بالعنوان؟! في الدراسات، كثيرا ما تدخّل الناشر في أعمال رأى أن عناوينها تجاريا لن تشد القارئ، وقد باح دارسون وكُتَّاب بهذا التدخل، منهم من يرفضه ومنهم من يخضع له. شخصيا لم يحدث لي هذا، بل عناويني تكون مبنية، حتى في كتاباتي النظرية، على مشروعي الشعري والنظري، ولا أضعها صدفة.

بوسريف نال "جائزة المغرب للكتاب" فئة الشعر لعام 2018 عن ديوانه "رفات جلجامش" (الجزيرة)

في الشعر هذا لا يمكن، إطلاقا، أن يتدخل الناشر في العنوان الشعري، أعتبر هذا بمثابة اعتداء على حدودي الترابية، لأن أغلب الناشرين أولا لا يقبلون نشر الشعر، وثانيا هم لا يملكون أي معرفة بالشعر، ولا بسياقاته الجمالية والمعرفية، فكيف أسمح للناشر أن يضع لي عنوان كتاب عملت فيه لسنوات، وبأفق هو لا علم له به، وبتجربة تخصُّني، ولا علاقة له بها، خصوصا الناشر الحانق على الشعر والشعراء؟!

العناوين المؤثرة هي العناوين الدالّة والمعبرة، وهي العناوين التي تصدر عن شُعراء لهم تجربة، وهي تجربة متميزة وخاصة، ومُفارِقَة لما هو سائد ومُتداوَل. ولعلَّ بين أهم هذه العناوين، على سبيل التمثيل لا الحصر "أنشودة المطر" لبدر شاكر السياب، و"يُغيِّر ألوانه البحر" لنازك الملائكة، و"مفرد بصيغة الجمع" لأدونيس، و"فرشات سوداء" لعبد الله زريقة، وبعض عناوين سليم بركات، وغيرها من العناوين التي كانت بالفعل نابعة من العمل ذاته، وليست تلفيقا، خصوصا العناوين المُفارِقة والمُقلِقة، والتي تخلق ارتباكا عند القارئ.

وكما أشرتُ قبل قليل، فالعناوين في الشعر خاصة، تأتي من داخل العمل نفسه، لا سابقة عليه، وهي عناوين ترتبط بالعمل ذاته. قد يخرج العنوان من النص بالحرف، وقد يكون مرتبطا بالمعنى، أو بالتصور، لذلك فالعناوين ليس سهلا وضعها من خارج العمل، لأنها في هذه الحالة ستكون نوعا من اللَّصْق الاعتباطي لا غير، وهي عناوين لن تصمد في الذاكرة والوعي الشعرِي الجماليّ.

تخيل كتابا بلا عنوان

تخيَّل معي كتابا بدون عنوان، سيكون مثيرا بالتأكيد. فكَّرتُ مرارا في فعل هذا، وما زالت الفكرة موجودة، وقد أنجزها في أي وقت، لكن المشكلة توجد في الناشر وفي الإعلام، وفي القارئ نفسه كيف سيتلقى عملا بدون عنوان. الأصل في الشعر العربي أن الشاعر لم يكن يضع عناوين لقصائده، العناوين التي تراها على دواوين القدماء، وضعها من حققوا أعمالهم وليس الشّعراء. لاحِظ كيف أن غياب العنوان يُرْبِك القارئ، وربما يكون مثل بيت بدون عنوان، الرسائل لن تصل إليه، وسيبقى مجهولا كأن لا ساكن فيه.

قد تعجبني بعض العناوين، وأتمنى لو كنت أنا من اقترحْتُها، لكنني لم أفكر في أن تكون عناوين لأعمالي، لأنني حين أقرأ تجربة الشاعر أجدها تجري خارج ما أكتبه، لذلك فالعنوان يبقى لحظة تَمثُّل مدهشة بالنسبة لي، لكنه هو عنوان ذلك العمل الشعري، وليس ما أفكر في كتابته، أو ما كتبتُه وسأكتبُه.

وعلى الرغم من أنني أختلف جذريا مع تجربة وتصوُّر نازك الملائكة، فعنوانها "يُغَيِّر ألوانه البحر"، كان بين العناوين التي أثارت عندي دهشة خاصة، لأن البحر حين أصبح جزءا من سكني وحياتي اليومية، رأيته بهذا المعنى وأنا أتأمله في الفصول المختلفة، لا في فصل الصيف فقط. كما أن عنصر الصيرورة والتحوُّل في عمق العنوان، وفي دلالته، وهذا ما تعكسه تجربة هذا الديوان في المسار الشعري لنازك الملائكة نفسها، قياسا بما كتبته من قبل، وهو ما سأعيه لاحقا، وليس في اللحظة التي أثارني فيها العنوان، وشدَّني إلى غناه وشعريته.

ديوان "على إثر سماء" للشاعر المغربي صلاح بوسريف صدر عام 1997 (الجزيرة)

كما تختلف الحقول والتُّرْبات، تختلف الزهور والورود والثمار التي تنبت فيها، وهو الأمر نفسه في الأجناس والأنواع الكتابية المختلفة، فهي حقول، لكل حقل ما يميزه عن غيره. عناوين الشعر تكون في طبيعتها غامضة مثل الشعر، لما يتَّسِم به الشعر من كثافة وعمق، بعكس الرواية والسيرة والدراسة مثلا. وقد أشرتُ قبل قليل إلى أن العناوين في الدراسات والأبحاث هي جزء من خُطاطة العمل التي تكون مسبقة، وهذا قد نجده في الرواية، وقد يتشكَّل عنوان الرواية لاحقا.

أنا لا أعرف كيف يتعامل الروائي مع عناوينه، لأنني لا أكتب الرواية، لكن رواية "اسم الوردة" لأمبرتو إيكو، خلق عنوانها نقاشات كثيرة، في البحث عن العلاقة بين العنوان ومضمون الرواية، أو الموضوع الذي تذهب إليه، وهو موضوع يرتبط بضياع واختفاء الجزء الثاني من كتاب "الشِّعْرِيَّة" لأرسطو، الجزء الذي قال إنه سيخصصه للكوميديا، لكنه لم يظهر ولا أثر له. أين الوردة هنا، كيف يمكن تسويغ العنوان في علاقته بالنص؟

هذا ما يجعل العناوين ذات خطر، ولها دور كبير في نجاح أو فشل العمل ذاته، لأن من يُخْفِق في عنوان من كلمة أو جملة، كيف يمكن أن يُصيب في نص من عشرات الصفحات؟!

المصدر : الجزيرة