شعار قسم مدونات

عصام العطار.. سيرة استثنائية

الشيخ عصام العطار (الجزيرة - أرشيف)

مع ساعات الصبح الأولى من يوم الجمعة 24/شوال/1445 الموافق/3/أيار – مايو-/2024، نُعي إلينا الزعيم المجاهد والداعية الأستاذ عصام العطار، الذي انتقل إلى جوار ربه الكريم بعد عمر مديد مبارك، حافل نابض مشرق عن عمر ناهز الثامنة والتسعين.

لقد وهبه الله كاريزما ومقومات الزعامة، لا على مستوى سوريا ولكن على مستوى الأمة، وبرحيله بالنسبة لسوريا، يكتمل رحيل جيل الزعماء السوريين عن دنيانا.

عصام العطار حالة فريدة جدا، فمن حيث التكوين والتعلم والتثقيف، تذكرني حالته دائما بالأديب الكبير الأستاذ محمود عباس العقاد رحمه الله، إذ أن كل منهما اختط لنفسه منذ صباه أن يعلم نفسه بنفسه، وفق منهجية صارمة متنوعة متكاملة، اعتمدها كل منهما لبناء تكوينه العلمي والمعرفي والثقافي. فتقدموا صفوف المثقفين والمفكرين وصار لهم المقام الأوفى.

وقد تسنى ذلك لفقيدنا الأستاذ العطار بمواهب فطرية من الذكاء والنبوغ، والملكات العالية قد أكرمه الله بها، وبحكم أنه ابن عالم شرعي مثقف، فقد أشرب من والده حب العلم والمعرفة، فهو ابن أسرة عريقة نبيلة لها مكتبتها المنزلية، ولها فكرها ومواقفها.

كان للأستاذ عصام العطار بصمات مؤثرة في الأحداث والتاريخ السوري، فهو من واجه بصوت عال وموقف مجلجل مؤامرات التغريب والإلحاد في سوريا، في وقت كان الصراع يدور فيها في كل الساحات، ثقافيا وفكريا وسياسيا.

كما أنه تأثر بالأستاذين الجليلين الشيخ علي الطنطاوي والشيخ سعيد الطنطاوي رحمهما الله، ولما شب لفت الأنظار إليه بخطاباته الفذة، وبصوته الجهوري، وبأدائه الفريد، وببيانه البليغ الناصع، وبمواقفه الرجولية الإيمانية، وبقدرته الفائقة في بث الحماس والإسهام في تكوين الرأي العام.

فتقدم الصفوف حتى غدا يشار إليه بالبنان ويتصدر المحافل، خاصة في الخمسينيات والستينيات، فواجه مع إخوانه عسف العلمانيين والليبراليين وغلو اليسارين وزيغهم، وفي وقت حرج من تاريخ سوريا كانت له امتداداته وآثاره.

عندما كلف الأستاذ الشيخ علي الطنطاوي بالإعداد لمؤتمر إسلامي عالمي علمائي حاشد في مدينة القدس الشريف في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، بغرض حشد الأمة للتصدي للخطر الصهيوني، الذي حينها كان يعد لابتلاع كل فلسطين والقدس الشريف، ما وجد الطنطاوي رحمه الله إلا ثلة من الشباب اختارهم بعناية ليعينوه على المهمة، كان أبرزهم الأستاذ عصام العطار.

لقد كان للأستاذ عصام العطار بصمات مؤثرة في الأحداث والتاريخ السوري، فهو من واجه بصوت عال وموقف مجلجل مؤامرات التغريب والإلحاد في سوريا، في وقت كان الصراع يدور فيها في كل الساحات، ثقافيا وفكريا وسياسيا، وذلك في مرحلة ما بعد الرحيل العسكري للانتداب الفرنسي عنها.

كما تصدى مع أحرار سوريا بكل رباطة جأش للطغيان العسكري والبعثي القومي والطائفي، وكان رحمه الله ممن استكشف مبكرا خيوط الطائفية الساعية لاختطاف سوريا. وتجلى ذلك منه في مواقفه عبر البرلمان وعبر منبر مسجد جامعة دمشق، الذي كان يحتشد فيه الشباب من كل سوريا لسماع خطبته بصلاة الجمعة.

فيفيدون من مدنها وقراها لمسجد الجامعة لينصتوا له، وليشحنهم بطاقات إيمانية وبرؤى فكرية إسلامية. وكانت الإذاعة السورية تنقل خطبه تلك، حيث كان الشعب السوري ينتظر مواقفه.

فهو خطيب موهوب متألق له مدرسته الخطابية التي بلغ تأثيرها حتى في الأداء الإعلامي لمذيعي الإذاعات والتلفزيونات العربية، وهو شاعر مرهف مطبوع مبدع، أوقف شعره لله وللإسلام وللحرية والعدالة والبناء. ولقد طوعت له اللغة العربية بمفرداتها وتراكيبها وعذوبتها، فتفرد ببيانه وبخطبه وبشعره.

 اعتمد حزب البعث، سياسة القمع، حيث كان حكما يحضر معه كل فظاعات إرهاب الحكم وجرائم الإبادة ضد الشعوب بكل مكوناتها، ويقوم بتهجير الطاقات من البلاد ونهب من بقي منها.

عصام العطار، حاضر دوما في حاضرنا وأمسنا ومستقبلنا، رغم تهجيره منذ انقلاب البعث في 8/3/ 1963. وللتاريخ نقول: إن نظام البعث الذي خطف سوريا وحكمها، وكان غطاء للطائفيين ليستولوا على حكم كل سوريا، كان من أول إجراءاته إفراغ البلاد – سياسة إفراغ كل الساحات- من الزعماء والقيادات الحرة الوطنية، ومن الكفاءات السياسية والاقتصادية والدينية والأكاديمية والمجتمعية والعسكرية.

ليتمكنوا من بسط سلطانهم القهري على البلاد دون عوائق تقلقهم فينهبونها وقتما شاءوا ويرهنون كل ما في البلد لأسيادهم من الصهاينة، ويعطلون نهضة البلاد إلى أن يردوها في مهاوي التخلف والفساد والتشرذم والضياع.

لقد توفي معظم القادة الأحرار في المهاجر بعيدا عن سوريا، فيما اعتمد النظام مع من بقي في البلد من الكفاءات، أن يعطلوا طاقاتهم بإذلالهم وقهرهم وإرهابهم، حتى لا ينبسوا ببنت شفة.

لقد اعتمد حزب البعث، سياسة القمع، حيث كان حكما يحضر معه كل فظاعات إرهاب الحكم وجرائم الإبادة ضد الشعوب بكل مكوناتها، ويقوم بتهجير الطاقات من البلاد ونهب من بقي منها. ومع ذلك هذه الطغمة كانت تخاف عصام العطار ويخافون شبحه. فسعوا لاغتياله في دمشق مرات عدة، ولكن الله رد كيدهم إلى صدورهم.

وفي عام 1981، سعى حافظ الأسد لإرهابه واغتياله في ألمانيا، فاغتال زوجه الشهيدة بنان علي الطنطاوي، التي بكى العالم مع العطار عليها لفظاعة طريقة اغتيالها رحمها الله.

يسجل للأستاذ عصام العطار رحمه الله قيامه بمراجعات لبعض مسيرته في برنامج تلفازي تستحق التقدير والمتابعة، ليستفيد منه كل منا في نقد ذاتي، نحن اليوم بأمس الحاجة إليه.

عصام العطار جزء من ذاكرة التاريخ الإسلامي والدعوة، ومن تاريخ نضال الشعوب الحرة الأبية، ومن تاريخ الإنساني.

أما في مهجره، فقد كان عصام العطار لسان الإسلام الحكيم، الناطق في المنابر والمراكز والمؤتمرات والمحافل، وله بصماته الفكرية والدعوية المشهودة في الغرب.

ورغم أنه تعرض لصعاب متلونة مرهقة جدا من جراء ملاحقة طغاة البعث والطائفين له، منذ انقلابهم المشؤوم في سوريا طوال هجرته إلى وفاته رحمه الله، لكنه ضرب للأمة وللإنسانية أعظم الأمثلة في الثبات على الحق، والاستعلاء على كل المغريات التي يسيل لها لعاب البعض، وكان دوما الأوفى للإسلام والدعوة والحرية والكرامة والعدالة والرجولة والنبل لشعبه ولأمته، ولم يبدل تبديلا.

وإن شئتم أن تعرفوا بعضا عن شخصيته فاقرؤوا ذكريات علي الطنطاوي، تجدونه حاضرا فيها، وشاهدوا مراجعاته وأحاديثه. عصام العطار جزء من ذاكرة التاريخ الإسلامي والدعوة، ومن تاريخ نضال الشعوب الحرة الأبية، ومن تاريخ الإنساني.

لقد شرفت بتسجيل مشاركته لي في الفيلم التلفازي التوثيقي الذي أعددته عن حياة الأستاذ الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، والذي قدم عبر قناة اقرأ الفضائية وهو متوفر في اليوتيوب. كما شرفت بلقياه مرات عدة. أحببته منذ نعومة أظفاري، أحببت شخصه وجهاده وثباته وبيانه وزعامته ورجولته وسعته.

أما عن دعمه للانتفاضة في فلسطين وغزة، فلا تسأل، فحيثما دعا الداعي هب مبادرا مجيبا مناصرا للحق وللمظلومين، وتراه أسدا يزأر في وجه كل الطغاة والمحتلين والمستبدين

مع انطلاق الثورة السورية عام 2011، ونحن نحضر حينها مع أمين رابطة العلماء السوريين الأسبق الأستاذ فاروق بطل شفاه الله لمؤتمر علماء المسلمين الأول الحاشد لنصرة الشعب السوري، قلت لهم: إن الذي يساعدنا على نجاح المؤتمر والحشد لدعم ثورة شعبنا أن نستضيف فيه الزعيم الأستاذ عصام العطار، وذلك لشخصيته ومكانته ومواهبه، ولحشد وحدة الصف الإسلامي، ولضمان تفاعل سوريا بكل أطيافها مع هذه الثورة المباركة، بدءا من دمشق وحتى الجزيرة السورية.

فلاقت ولله الحمد الفكرة الترحيب والاستحسان، وبعد سويعات من اجتماعنا وفي منتصف الليل، قام الأستاذ فاروق بطل شفاه الله بالتواصل مع الأستاذ عصام العطار، وعبر له عن الشوق والتقدير والاحترام، ثم عرض عليه المشاركة في المؤتمر. فرحب على الفور رغم اعتلال صحته، وأعطى موافقته، وشرفنا في المؤتمر الحاشد بكل حماس ودعم وتأييد، وكان من نجوم المؤتمر، بل وهبنا طاقات رائعة من همته وثباته وفكره.

أما عن دعمه للانتفاضة في فلسطين وغزة، فلا تسأل، فحيثما دعا الداعي هب مبادرا مجيبا مناصرا للحق وللمظلومين، وتراه أسدا يزأر في وجه كل الطغاة والمحتلين والمستبدين. فسلام الله عليك يا أستاذنا الجليل عصام العطار يوم ولدت ويوم عاهدت الله على خدمة الدعوة ونصرة الحق وتأييد المظلومين ورفض الاحتلال ورفض الاستبداد والطغيان.

وسلام الله عليك حين صبرت في وجه الأهوال بتنوعاتها، فما لنت ولا ترددت، وكنت صخرة الحق الشماء. وسلام الله عليك حين انتقلت إلى جوار ربك الكريم لتلقاه، فيثيبك الأجر الأوفى بكرمه وفضله وإحسانه.

أحر التعازي أتقدم بها لأسرة فقيدنا الصغيرة ولطلابه ومحبيه ولقراباته ولأحرار سوريا، ولأحرار العلماء والدعاة في سوريا وفي العالم العربي والإسلامي.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.