شعار قسم مدونات

غزة البيزنطية.. مركز علوم البيان والبلاغة

لم تسلم دور العبادة وشمل التدمير الإسرائيلي مئات المساجد و3 كنائس في قطاع غزة-رائد موسى-رفح-الجزيرة نت
الكيان الصهيوني يخشى دراسة التاريخ لأن في ذلك فضح لأكاذيبه التاريخية وكشف عن مؤامراته وتخرصاته (الجزيرة)

لم تكتسب غزة أهميتها في العصور الحديثة وحسب، ولم تصبح الشغل الشاغل للدنيا اليوم بلا مقدمات ولا تاريخ. فهي المدينة الفلسطينية التاريخية الغائصة في أعماق التاريخ والراسخة مكانتها كواحدة من أقدم وأهم المدن على حوض البحر الأبيض المتوسط. فمدينة غزة كانت وثنية مشركة، ومن ثم مسيحية أرثوذكسية، إلى أن صارت مسلمة سنية بعد الفتح الإسلامي وإلى أيامنا هذه، وهي أيضا حاضرة البحر ذات الألسنة المتعددة عبر التاريخ: من الإغريقية واللاتينية إلى الأرامية والعربية، إلا أن الحضور العربي في غزة يعود إلى ما قبل الفتح الإسلامي، بوجود العرب الغساسنة في بلاد الشام كلها، ولم تكن فلسطين بساحلها وداخلها شاذة على هذه القاعدة.

ولعل المستوى التعليمي والثقافي العالي لأهالي غزة اليوم، رغم كل ظروف الحصار والإبادة الجماعية، لم يأت من فراغ. فهذه المدينة الأسطورية، الخرافية بصمودها والخارقة بشجاعتها ومقاومتها، لها من تاريخها ما يسندها. وقد ساهم بشكل كبير موقع المدينة الإستراتيجي على ملتقى الطرق بين القارات الثلاث القديمة، على إكسابها أهمية سياسية وتجارية انعكست بشكل مباشر على الحقول الثقافية والفكرية والأدبية التي واكبت الازدهار الاقتصادي والاجتماعي لهذه المدينة في حقب نهوضها وازدهارها.

لم يأتي الهجوم الصهيوني على المعالم الأثرية والتراثية الغزاوية في هذا العدوان الحالي من فراغ. فسياسة هذا الكيان الممنهجة منذ قيامه وإنشائه هي سياسة طمس التاريخ الفلسطيني وتزويره والعمل على اجتثاث كل الأدلة المادية التي تثبت الهوية التاريخية الفلسطينية

مركز علوم البيان والبلاغة

نجد في مؤلفات المؤرخ الفلسطيني نور مصالحة المقيم في بريطانيا وصفا موسعا للتاريخ الفلسطيني منذ ٤٠٠٠ آلاف سنة في كتابيه الصادرين باللغة الإنكليزية "فلسطين ٤٠٠٠ سنة من التاريخ" و"فلسطين عبر القرون، تأريخ للثقافة والآداب والتعليم". ويأتي مصالحة على ذكر غزة بشكل مستفيض في عمليه هذين كمركز لدراسة علوم البيان والبلاغة في حوض البحر المتوسط، سواء فيما يتعلق بالعصور الكلاسيكية الوثنية الإغريقية واللاتينية، أو فيما يتعلق بالعصر البيزنطي المسيحي الأرثوذكسي. ولم تكن غزة المركز الثقافي الأدبي الوحيد في فلسطين وحوض البحر الأبيض المتوسط، ولكنها امتازت بالتعمق في دراسات علوم البيان والبلاغة وصارت المرجع والمركز في هذا الحقل.

وينحي المؤرخ نور مصالحة باللائمة على القيمين على الشؤون الثقافية والتعليمية في فلسطين اليوم، وذلك بسبب إغفالهم الدور الثقافي الكبير الذي لعبته غزة إبان وقوعها تحت سيطرة الإمبراطورية البيزنطية. في ذلك الحين كانت غزة مدينة مسيحية أرثوذكسية تزخر بالكنائس الأرثوذكسية وبالمدارس التي كانت مختصة بتعليم البيان والبلاغة ودراسة اللاهوت المسيحي والآداب الكلاسيكية. وكانت غزة تمتاز بمواءمتها بين اللاهوت المسيحي والتراث الشعبي الغزاوي المشبع بالموروثات الوثنية، بخلاف قيسارية المركز المعاصر والمنافس لها شمالا على الساحل الفلسطيني، والتي كانت مركزا ثقافيا سعى إلى المواءمة بين الفلسفة الإغريقية واللاهوت الأرثوذكسي.

ولم يأتي الهجوم الصهيوني على المعالم الأثرية والتراثية الغزاوية في هذا العدوان الحالي من فراغ. فسياسة هذا الكيان الممنهجة منذ قيامه وإنشائه هي سياسة طمس التاريخ الفلسطيني وتزويره والعمل على اجتثاث كل الأدلة المادية التي تثبت الهوية التاريخية الفلسطينية وتدحض كل ادعاءات الصهاينة وتفند كل أباطيلهم. ففلسطين مرت بمراحل تاريخية وثنية ومسيحية أرثوذكسية وأخيرا إسلامية، ولكنها لم تكن يوما في آخر ألفي عام على الأقل يهودية، وإن كان اليهود جزءا من النسيج السكاني الفلسطيني. ومن هنا تكتسب أهميتها أعمال كمؤلفات المؤرخ الفلسطيني "نور مصالحة"، فهي أعمال تدحض كل مزاعم الصهاينة الباطلة وتفضح أكاذيبهم وافتراءاتهم.

ليست سياسات الإبادة الجماعية وتسوية غزة بالأرض ناشئة من العبث أو العدم، ولكنها منهج مدروس بعناية وخطة منتقاة لضرب حصن من أعظم حصون الثقافة والعلم والأدب في فلسطين وسائر العالمين العربي والإسلامي.

أهمية دراسة التاريخ الفلسطيني

لا ريب أن الكيان الصهيوني يخشى دراسة التاريخ لأن في ذلك فضح لأكاذيبه التاريخية وكشف عن مؤامراته وتخرصاته. ولعل الإضاءة على تاريخ غزة في هذه الظروف بالذات يأتي ليظهر للعالم أن هذه الأرض هي أرض ثقافة وأدب وعلم بهوية ذاتية مميزة، ولن تنفع الصهاينة محاولاتهم البائسة في طمس الحقائق التاريخية وفي إنكار الوقائع. فالدراسة الموضوعية المحايدة للتاريخ تبين أن فلسطين في كافة الحقب والدول التي تعاقبت في السيطرة عليها أنها لطالما كانت أرض آداب وعلوم وثقافة رفيعة. لذلك فأسطورة التفوق الثقافي الصهيوني المزعوم هي باطل في باطل. وربما كان هذا السبب في الحقد الدفين والمستعر والوحشي ضد غزة بالذات.

حصن ثقافي

ليست سياسات الإبادة الجماعية وتسوية غزة بالأرض ناشئة من العبث أو العدم، ولكنها منهج مدروس بعناية وخطة منتقاة لضرب حصن من أعظم حصون الثقافة والعلم والأدب في فلسطين وسائر العالمين العربي والإسلامي. وهكذا هم الطواغيت والمستبدون: يعتبرون الثقافة والفكر والأدب والمعارف أعدى أعدائهم. ولا شيء يشفي غليلهم أكثر من التنكليل بأهل الثقافة والفكر والأدب والمعرفة. ولم تشذ غزة عن قاعدة كونها حصنا ثقافيا في أي من الحقب والعصور. ففي أزمنة الوثنية والمسيحية الأرثوذكسية وبعد ذلك الإسلام، حافظت غزة على مركزها الثقافي المرموق، وحظيت باهتمام أهل العلم والثقافة والأدب، وكان أهاليها دوما ذوي علم وثقافة وأدب. وفي تدمير جامعة غزة الإسلامية في العدوان الصهيوني الأخير دليل إضافي دامغ على استهداف الصهاينة للعلم والثقافة والأدب، وعلى تعمدهم اغتيال الذاكرة وطمس التاريخ. ولذلك كان مقصودا ومتعمدا أيضا استهداف النخبة الثقافية والعلمية من أهل غزة من مثقفين وأطباء وصحفيين وأساتذة جامعيين وعلماء وأدباء في واحدة من أسوأ المجازر والإبادات الجماعية في التاريخ البشرية، إن لم تكن أسوأها على الإطلاق بوحشيتها وفظاعتها وبشاعتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.