شعار قسم مدونات

عن العاطفة والسردية والقضية!

70% من مساكن غزة تعرضت للتدمير الكلي والجزئي ولم تعد صالحة للسكن-رائد موسى-رفح-الجزيرة نت
70% من مساكن غزة تعرضت للتدمير الكلي والجزئي ولم تعد صالحة للسكن (الجزيرة)

أسررت إلى صديقة أن بي غصة منذ زادت وتيرة الحرب ونقص الغذاء في غزة، فأعادتني هي الى مقال كتبته في بداية الحرب؛ عن ضرورة الخروج من ثوب الضحية والتصرف في العالم بفاعلية. غير أنني لم لم أكن أقصد تلبس دور الضحية ولبس لبوسها؛ بل عن العاطفة، والجياشة منها خاصة، وبالأخص حين يتعلق الأمر بأشد قضايانا مصيرية.

والحق أننا تعودنا نحن الشعوب التعامل مع قضايانا بكثير من العاطفة فيما تعلمت نظمنا نوعا آخر من التصرف يسمى جزافا، البراغماتية، وبيننا وبين نظمنا مسافة باتساع البعد بين العاطفة والبراغماتية، لذلك تبادلت وصديقتي السؤال المر: طيب واحنا شو بايدينا نعمل؟!

حتى مع آلاف المواقع وقنوات اليوتيوب وملايين اللايكات والمشاركات، لا تزال الدولة ذات الحدود الصلبة والاتساع الهلامي باتساع أمنها القومي، قادرة على تقييد منصة عالمية مفتوحة مثل تيكتوك ومساومة المبدأ الإنساني بالربح المالي.

يخرج الملايين من البشر إلى الشوارع منذ شهور، منددين بالجرم الصهيوني على أراضينا، لكن لا صوت يعلو فوق صوت الفيتو الأميركي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية كلما تعلق الأمر بأم قضايانا.

وكل ما قيل عن المجتمع المدني العالمي وقدرته على الفعل تكسر فوق صخرة السياسات الدولتية ومؤامرات لا تختلف عن تآمر العروش في القرون الأوروبية المظلمة، الاختلاف أنهم اليوم لا يتقاتلون على ممالك إقليمية أو مستعمرات؛ بل يتكالبون على نفط وساحل ومنطقة حرة ومدن مستقبلية مستلبة مستلبة.

لم يتغير شيء في السياسة الدولية ولا تزال الدولة قادرة على سحق الشعوب تحت جنازير دباباتها متى أرادت؛ وما من سياسة عالمية حتى مع آلاف المواقع وقنوات اليوتيوب وملايين اللايكات والمشاركات، لا تزال الدولة ذات الحدود الصلبة والاتساع الهلامي باتساع أمنها القومي، قادرة على تقييد منصة عالمية مفتوحة مثل تيكتوك ومساومة المبدأ الإنساني بالربح المالي.

أفتغير من الرأسمالية شيء؟ لا شيء سوى الاسم؛ لأن الرأسمالية اليوم صارت رقمية والاستهلاك رقمي وعلاقات الإنتاج رقمية؛ لكن العبد فيها واحد والسيد فيها واحد على الرغم من كثافة الانفتاح. لك أن تعرف أن علاقات الإنتاج هذه قادرة على تكميم الأفواه "الرقمية" وغلق كل حساب أو قناة تأتي على ذكر كلمة فلسطين التي يرفض يوتيوب إلا أن يسميها إسرائيل على الرغم من اختلاف عنصر الهوية لمشتركيه الفلسطينيين.

فإذا ما تكلمنا عن الهوية، فسيسأل سائل: أين سياسات الهوية التي كانت تجيش الملايين مما يحدث اليوم؟ فإذا كانت السياسات الدولتية داخل الحدود "الوطنية" لا تزال قائمة، أفلا تزال الهوية القومية قبلها قائمة؟

فإذا كانت الهوية تاريخا وجغرافيا قبل أن تكون حدودا قطرية، فكيف يموت الناس بالرصاص خلف كيس الدقيق في بلاد العرب والمسلمين، أعجزت الهوية هذه أن يكون لها قدر من القوة يمنع عن الغزيين هدر الحياة الحاصل تحت الأنقاض وتحت الخيام والموت تحتهما سيان؟

وإذا كان للعالم العربي أن يوقف حربا تقطع أوصال الغزيين، أما كان حريا بمجمع الدول الأوروبية في اتحادها؛ وهي تبدو اليوم أرسخ منا هوية أن توقف حرب أوكرانيا وتنتصر لعرقها الغربي فيها. فهل هي الدول أيضا من تتصرف هناك بحسابات براغماتية قوامها مبدأ قديم نسميه في العلوم السياسية توازن القوى؟

فأين نحن من ميزان قوى بيننا وبين بقية العالم نحفظ به الحد الأدنى للحياة في غزة، ونحن من نحن في سوق النفظ وقوة الجغرافيا ومكمن التفاعلات الدولتية والعالمية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؟

أم أن الأمر لا بتعلق بالدول بقدر ما يتعلق بفاعل أدنى منها لكن أوسع حيلة وأمد ذراعا؛ يتخفى بين دواليبها ويتستر بقوانينها في الداخل والخارج، وهل قامت دولة إسرائيل إلا على أنقاض عصابات مكنت لها عصابات. أتراه تغير شيء من التاريخ اليوم في حرب إسرائيل على شعب غزة مما حدث إبان نكبة 1948؟  فمن مكن لعصابات إسرائيل في منتصف القرن العشرين؟ ومن يحمي الغزيين في 2024؟

وعودا على بدء: هل للعاطفة ‘affect’ محلا (ونصب محلا هنا إحالة على الزمن الممتد) في التحليلات السياسية؟ ثمة اتجاه نظري عام يدعو الى أن تتبوأ العاطفة مركز تحليلاتنا في العلوم الاجتماعية اليوم، والنظر فيما (قد) تفرزه عواطفنا من آثار سياسية. إذ العاطفة ليست دفق الشعور ‘feeling’ المجرد والخطي، بل الحركة المعقدة غير الخطية ما بين الداخل الذاتي والخارج غير الذاتي، بين العقلي والجسدي، ذاك التأثير والتأثر بين النفسي والاجتماعي والتاريخي والمادي والإيكولوجي المفضي من الوجدان ‘emotion’ إلى الفعل ‘act’.

بل حتى علاقتنا مع الأشياء غير الحية تنطوي على عاطفة فاعلة، مثل البيوت العامرة بالفلسطينيين التي بناها الغزيون وحرصت إسرائيل على قصفها أولا؛ لا لأنها رمز للاستقرار فحسب؛ بل لأنها مكون سوسيولوجي فلسطيني "متحرك" لا بد أن يندثر، ومثل تدمير فكرة الرعاية/العناية ‘care’ الكامنة في المستشفيات وفي جنبات مجمع الشفاء وفي صفوف الأطباء والممرضين الغزيين من الرجال والنساء، بل ومثل كنيسة الروم الأرثوذكس التي قيل إنها الأجمل والأقدم تاريخا في تراث غزة. هذه السيرورة التاريخية/العاطفية المتضمنة في الأرض والثقافة وجماليات التراث وفكرة الرعاية هي ما يزعج إسرائيل، لأنها رمز للحركة والسيرورة الفلسطينية، ولأنها ترسخ الزمن كحياة/أمد معيش ‘duration’ مثقل/مسكون بالعاطفة مثلما يسميه هنري برغسون، وتقطع مع المفهوم الإسرائيلي الخطي عن الزمن.

العاطفة هي القادرة على بناء السردية التي يحتاجها العمل العربي المشترك، وقد تكون الحل لمشكلة العمل الجماعي، التي تعانيها نخبنا طالما تشكو دولنا غياب الحسابات العقلانية التي تقوم عليها النظرية الكلاسيكية للفعل الاجتماعي على أدق المستويات.

إن السردية التي بنتها إسرائيل على مدى ثمانين عاما وارتكزت في المقام الأول على سلبنا نحن قوة السرد عن سيرورة القضية الفلسطينية، باتت تهدد الصيرورة كلما باعدت إسرائيل بين القضية والعاطفة والأرض، وكلما ألقت بنا في غياهب الرأسمالية النيوليبرالية في شقيها، الاستغلالي والاستهلاكي، المنفصل كلاهما عن الزمن كأمد معيش.

العاطفة بهذا المعنى هي في قضيتنا المركزية، وهي مركزية بقدر مركزية القضية، ولا بد أن توجه أفعالنا "السياسية" وقدرتنا على الفعل الاجتماعي في آن واحد، ففاعليتنا بالتعبير الاجتماعي. ذلك أن العاطفة تسبق الهوية وتسبق الدولة وتسبق العالم وتسبق إسرائيل.

وفي رأيي أن العاطفة هي القادرة على بناء السردية التي يحتاجها العمل العربي المشترك، وقد تكون الحل لمشكلة العمل الجماعي، التي تعانيها نخبنا طالما تشكو دولنا غياب الحسابات العقلانية التي تقوم عليها النظرية الكلاسيكية للفعل الاجتماعي على أدق المستويات. وما من شك في أن تحويل العاطفة إلى أفعال هو الغاية في كل مشروع سياسي وأخلاقي.

أريد أن أقول إننا في حاجة إلى استعادة عاطفتنا نحو الأرض والقضية حتى نتمكن من استعادة القدرة على الفعل والتأثير،  في مقابل الاكتفاء بالتأثر، حيث العجز عن الفعل الكامن في لبوس الضحية المجرد وانتظار التعاطف الصرف. ولذلك فإن حمل الجميع على المشاركة أو تشارك سردية الأرض ونشرها وتوارثها وروايتها يعني أن غزة وقبلها فلسطين ليست قضية سياسية صرفة ولا حسابات أرباح وخسائر صرفة، بل قصة تروى.

أما آن أوان استعادة العاطفة وإعادة بناء السردية عن مركزية القضية؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.