شعار قسم مدونات

كيف تبني الدولة قوتها الذكية وتديرها؟

التركيز على بناء القوة العسكرية وامتلاك الأسلحة الحديثة وتراكمها يمكن أن يؤدي إلى الضعف الاقتصادي للدولة (شترستوك)

هل يمكن أن نتوصل إلى معايير جديدة لقياس القوة في القرن الحادي والعشرين؟ هناك الكثير من التحديات التي تواجه الدول، وتفرض عليها أن تبحث عن مصادر جديدة للقوة، وعن أساليب متميزة لاستخدامها بشكل رشيد، فلقد اعتمدت الدول في بناء قوتها على الموقع والأرض والاقتصاد والجيش والأسلحة والتخطيط الإستراتيجي والإرادة.

ولكن أثبتت الأحداث أن الدولة يمكن أن تمتلك كل تلك المصادر، ولكنها يمكن أن تنهار كما حدث للاتحاد السوفيتي، الذي كان يمتلك من مكونات هذه القوة ما يفوق الولايات المتحدة الأميركية.

انهيار الاتحاد السوفيتي أوضح للعلماء ضرورة البحث عن مقاييس جديدة للقوة، وتناول الباحثون جوانب مختلفة مثل التكنولوجيا والموارد البشرية والبنية التحتية والأفكار.

مع ذلك ظلت هناك الكثير من موارد القوة تحتاج إلى دراسات لتوضيح دورها في قدرة الدولة على الاستمرار، وكفاءتها في تغيير الواقع، ولقد اجتهدت خلال السنوات الأخيرة في بناء نظرية جديدة للقوة يمكن أن تشكل أساسا لنهضة الأمة الاسلامية، واستعادتها لدورها الحضاري والتاريخي، لكنني أوجه الدعوة للباحثين المسلمين في الكثير من المجالات العلمية لبناء مدرسة علمية تهدف إلى البحث في عناصر القوة واستثمارها لبناء المستقبل.

الطرف الضعيف يمكن أن يدفع الطرف القوى إلى الإفلاس عبر استنزافه في معارك صغيرة على مدى زمن طويل.

أوهام القوة العسكرية

ولكي نتمكن من تطوير قدرات الدولة على بناء قوتها واستخدامها يجب أن نتحرر من التركيز على القوة العسكرية، فهى مجرد وسيلة يمكن للدولة استخدامها في إدارة الصراعات على المستوى الدولي، فهناك أسئلة جديدة بدأت تطرح نفسها على الدول من أهمها: ماذا يمكن أن تفعل القوة العسكرية في مواجهة تغير المناخ أو الكوارث الطبيعية أو الأوبئة أو الانهيار الاقتصادي.

كما أن التركيز على بناء القوة العسكرية، وامتلاك الأسلحة الحديثة وتراكمها يمكن أن يؤدي إلى الضعف الاقتصادي، وتزايد الفقر نتيجة تزايد الإنفاق على شراء أحدث الأسلحة، التي لا تستخدم لأسباب كثيرة منها: تحكم أميركا وأوروبا في أسرارها والمعلومات عن أساليب تشغيلها.

إن هناك أبعاد جديدة لاستخدام القوة العسكرية في العصر الحديث تفرض التفكير في جدوى استخدام تلك القوة في مواجهة الإرهاب الذي يهدف إلى دفع القوى إلى استخدام قوته العسكرية ضد نفسه، كيف؟

إن الطرف الضعيف يمكن أن يدفع الطرف القوى إلى الإفلاس عبر استنزافه في معارك صغيرة على مدى زمن طويل.

تجربة كوريا الشمالية يمكن أن توضح لنا جانبا مهما، عن كيف يمكن أن يتلاعب طرف بمخاوف الطرف الآخر فيضعفه، فمن المؤكد أن قوة كوريا الشمالية لا يمكن مقارنتها بقوة الصين أو الولايات المتحدة الأميركية، لكنها مع ذلك نجحت في إثارة مخاوف هاتين القوتين، واللعب على هذه المخاوف عن طريق نشر أخبار عن تهديدات محتملة لحلفاء أميركا أو قواعدها، فهذه الأخبار أصبحت مصدر قوة يمكن أن يكون أكثر أهمية من السلاح نفسه!

في ضوء ذلك تتضح صعوبة حصر مصادر القوة، وتأثير هذه المصادر في المواقف المختلفة، والتخطيط لتوظيفها في الوقت المناسب.

الطائرات الأميركية امتلكت القدرة على التدمير في أفغانستان، لكن قيامها بقتل مجموعة من الأفغان الفقراء في حفل زفاف كان نتيجته إلحاق الضرر بسمعة الولايات المتحدة وصورتها، فهي تستخدم قوتها في القتل والتدمير.

القوة وصنع التغيير

أدى ذلك إلى صعوبة التوصل إلى تعريف محدد للقوة، بالرغم من كثرة المحاولات، ومن أهمها تعريفها بأنها القدرة على تحقيق التغيير، والتأثيرعلى الآخرين.

في ضوء ذلك، فإن قياس القوة يقوم على العوامل التي تزيد القدرة على التأثير وتحقيق النتائج التي نريدها، وهذه العوامل متعددة، ويختلف تأثيرها طبقا للسياق الذي تستخدم فيه.

لذلك يفرق بيتر كاتزينتين بين "قوة الحضارات" و "القوة في الحضارات"، فماذا يعني ذلك؟ الحضارة تعتمد على قدرتها على بناء المجتمعات والنظم المعرفية. كما إن الدولة يمكن أن تمتلك قوة عسكرية تستخدمها في القوة والتدمير، لكن هل تمتلك تلك الدولة القدرة على الإقناع؟

هذا السؤال يمكن أن تكون إجابته هى المفتاح لفهم دورالقوة الذاتية للحضارة، وقدرتها على التأثير بشكل يفوق ما تمتلكه من قدرات عسكرية.

يقدم جوزيف ناي مثالا مهما، هو أن الديكتاتور يمكن أن يقتل معارضا له، لكنه لا يحقق ما يريده، لأن هذا المعارض يتحول إلى شهيد، وتصبح القضية التي يتبناها المعارض الشهيد عامة، وتؤثر في الجماهير، ولا يحقق الديكتاتور ما يريده، بل يمكن أن يشكل ذلك خطرا عليه، ويطلق ناي على ذلك النتائج غير المقصودة لاستخدام القوة.

وقياسا على ذلك فالطائرات الأميركية امتلكت القدرة على التدمير في أفغانستان، لكن قيامها بقتل مجموعة من الأفغان الفقراء في حفل زفاف كان نتيجته إلحاق الضرر بسمعة الولايات المتحدة وصورتها، فهي تستخدم قوتها في القتل والتدمير. ويمكن أن نشاهد الآن تجليات ذلك بوضوح في العدوان الإسرائيلي على غزة، حيث ارتكب جيش الاحتلال الإسرائيلي جرائم ضد الإنسانية أدت إلى زيادة كراهية الشعوب لإسرائيل وأميركا.

الصين تمتلك الكثير من مصادر القوة مثل الجيش والأسلحة والاقتصاد والسكان، لكن ما مدى قدرتها على بناء إستراتيجية لاستخدام هذه المصادر في تحقيق الأهداف التي تحددها، وللتأثير على سلوك الآخرين؟

نظرية القوة الذكية

لذلك ظهر مفهوم القوة الذكية، ليصنف إمكانيات استخدام مصادر القوة في سياق معين، وكيف يمكن تحقيق التنسيق بين هذه المصادر، لكي تحقق النتائج التي تريدها الدولة.

إن الصين تمتلك الكثير من مصادر القوة مثل الجيش والأسلحة والاقتصاد والسكان، لكن ما مدى قدرتها على بناء إستراتيجية لاستخدام هذه المصادر في تحقيق الأهداف التي تحددها، وللتأثير على سلوك الآخرين؟

هذا المثال يوضح أن القوة لا تؤدي دائما إلى التأثير، لذلك لابد من استخدام القوة الصلبة والناعمة بكفاءة لتحقيق الأهداف في سياقات مختلفة.

في ضوء ذلك يمكن تقديم تعريف جديد للقوة، هو دفع الناس للقيام بالعمل الذى تريده بدون استخدام العصى أو الجزرة.

الوجه الثاني للقوة

هناك جانب مهم هو قدرة الدولة علي  وضع الأجندة، فكيف يمكن أن تؤثر على أولويات الجماهير والدول، والقضايا التي تهتم بها، وفي هذا السياق تستخدم قوة وسائل الإعلام لتحديد القضايا، فعلى سبيل المثال يتم التركيز على فرض الحجاب على المرأة الأفغانية، وتقديم تلك القضية باعتبارها تشكل اضطهادا للنساء، بينما يتم تجاهل حقوق النساء المسلمات في فرنسا في ارتداء الحجاب.

يوضح ذلك إن هناك وجها آخر للقوة هو التأثير على تفضيلات الجمهور، وتحديد القضايا التي يهتمون بها، وأساليب تقديم تلك القضايا، وفي سياق القرن الحادي والعشرين تتزايد أهمية القوة الإعلامية والمعلوماتية والمعرفية، وكيف يتم استخدام هذه القوة في انتاج أفكار تتميز بالجاذبية وتستخدم في إقناع الآخرين.

لكن من يستطيع أن يمتلك هذه القوة ويستخدمها بكفاءة خلال قرن يشهد صراعا أيديولوجيا ويغرق الناس في طوفان من المضمون الذى يتم نشره عبر وسائل الإعلام وشبكة الإنترنت؟

الثقافة مصدر مهم للقوة، وهناك ثقافات عالمية تجذب الكثير من الناس من شعوب وأعراق مختلفة، وهذه الثقافات يمكن أن تقوم بدور فاعل خلال القرن الحادي والعشرين، وتؤثر على التحالف بين الدول.

الدولة ليست الفاعل الوحيد

في ضوء ذلك فإن الدولة لم تعد هي الفاعل الوحيد في هذا القرن الجديد، و لم تعد القوة الصلبة التي تمتلكها الدول، وتقوم بإدارتها هى الوسيلة التي يمكن استخدامها في تحقيق أهدافها.

كما أن الاستراتيجيات الاتصالية أصبحت أكثر أهمية من الجيوش، فالحروب لا يتم فيها تحقيق الانتصارات باستخدام الأسلحة، ولكن بكسب العقول والقلوب، وتحديد أولويات الشعوب، وتشكيل تفضيلات الجمهور.

لذلك تحتاج الدول إلى تطوير قوتها الذكية، ببناء استراتيجيات لاستخدام المعلومات والمعرفة والاتصال، وتوظيف ثقافتها وقيمها السياسية لجذب الشعوب.

إن الثقافة مصدر مهم للقوة، وهناك ثقافات عالمية تجذب الكثير من الناس من شعوب وأعراق مختلفة، وهذه الثقافات يمكن أن تقوم بدور فاعل خلال القرن الحادي والعشرين، وتؤثر على التحالف بين الدول.

تغيير موازين القوى

مهما اختلفنا حول مقاييس القوى، فإننا يمكن أن نتفق على أن القرن الحادي والعشرين سوف يشهد تغييرا في موازيين القوى، وأنه يمكن أن يفتح المجال لدول غير غربية لزيادة قوتها، عن طريق التوظيف الذكى لكل مصادر القوة، وبناء تحالفات على أسس ثقافية أو دينية وحضارية، والتأثير على الرأي العام في دول أخرى باستخدام مبادئها وقيمها.

هناك أيضا الكثير من المؤشرات على أن قوة أميركا تتناقص، وأن الكثير من الشعوب فقدت إعجابها بالثقافة الأميركية، لذلك فإن أميركا ستفقد السيطرة بالرغم من احتفاظها بالتفوق في مجال القوة الصلبة.

لابد أن تتخلى أميركا عن أهداف الهيمنة والسيطرة على الدول، وأن تدرك أن السياق العالمي في القرن الحادي والعشرين يتغير، حيث تبدأ فترة "ما بعد الهيمنة"، والبحث عن وسائل جديدة لتحقيق التعاون في مواجهة التحديات الجديدة مثل تغيير المناخ.

لعنة القوة

لكن هل يمكن أن تكون القوة الصلبة لعنة أكثر منها فائدة؟ هذا السؤال طرحه جوزيف ناي، ويجيب على ذلك بأن الإسراف في استخدام القوة العسكرية من أهم أسباب تدهور الولايات المتحدة، وكان ضررها أكثر من نفعها. فالقوة مفسدة، والقوة المطلقة مفسدة مطلقة، ولقد أصبحت الشعوب تحتاج إلى قادة يتمتعون بذكاء اجتماعي، يتيح لهم أن يعرفوا النتائج الضارة لاستخدامهم القوة الصلبة، وأن يجذبوا الشعوب بالمعرفة والثقافة والمبادئ، وأن يتجنبوا استخدام القوة الغاشمة في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، ذلك أن "لعنة القوة " يمكن أن تؤدي إلى الهزيمة والموت.

لذلك يرى جوزيف ناي أن القوة الذكية لا تعنى مضاعفة القوة أوالمحافظة على السيطرة، ولكنها تعني استخدام موارد القوة في استراتيجيات ناضجة في سياق جديد لتحقيق أهداف عظيمة، وعدم استخدام القوة للتدمير والإبادة.

هلى يمكن استخدام القوة في الحرب؟ بالتأكيد، لكن الحرب لابد أن تكون عادلة ومشروعة فلا تكون عدوانا على الشعوب لفرض السيطرة الأميركية كما حدث في العراق و أفغانستان. لذلك يعرف جوزيف ناي القوة الذكية بأنها تحقيق التكامل الذكي بين الدبلوماسية والدفاع والتنمية.

لذلك لابد أن تتخلى أميركا عن أهداف الهيمنة والسيطرة على الدول، وأن تدرك أن السياق العالمي في القرن الحادي والعشرين يتغير، حيث تبدأ فترة "ما بعد الهيمنة"، والبحث عن وسائل جديدة لتحقيق التعاون في مواجهة التحديات الجديدة مثل تغيير المناخ. لكن هل تستمع أميركا لأفكار حكمائها وعلمائها مثل جوزيف ناي؟

أنا أشك في قدرة أميركا على مواجهة الحقيقة والاستماع لصوت العلم، فما زالت تؤيد دولة الاحتلال الإسرائيلي، وتوفر لها الأسلحة لتستخدمها في إبادة شعب فلسطين وتدمير غزة، بالرغم من أنها تدرك أن العداء لها يتزايد في كل أنحاء العالم، وأن الشعوب العربية سوف تنتفض وتثور ضد الظلم والقهر والاحتلال والاستعمار والاستبداد.

وقد يكون عمى البصيرة وغرور القوة وتجاهل الحقائق من أهم العوامل التي تدفع الدول للانهيار والسقوط، ولن تحميها قوتها الصلبة، بل ستدفعها لارتكاب المزيد من الجرائم ضد الإنسانية، ودولة الاحتلال الإسرائيلي تندفع بسرعة نحو النهاية لكنها قبل أن تسقط سوف تجذب معها أميركا نحو الهاوية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.