شعار قسم مدونات

الرهاب الإسرائيلي من الجزيرة

شبكة الجزيرة تعهدت باتخاذ كافة الإجراءات القانونية لملاحقة مرتكبي جرائم الاحتلال (الجزيرة)

منذ بداية العدوان على قطاع غزة، ولا أكاد أنفك عن متابعة شاشة الجزيرة، ولا أحيد عنها لغيرها من القنوات إلا لأعود إليها بعد حين، وما ذلك إلا لتاريخ انحيازها إلى الشعوب فقط، ولكنها أقرب ما تكون إلى نبض الناس في القطاع، في ظل العدوان الحالي، فتسلط الضوء على مآسيهم ومعاناتهم، وما يتعرض له الفلسطينيون من انتهاكات صارخة وجرائم فظيعة، وقد استطاعت أن تكون صوت المكلومين، مهما حاول المحتلّ تغييب هذا الصوت وكتمه.

وما يلفت النظر في علاقتنا مع الجزيرة، بأنها لا تنحصر مع الخبر المجرد فقط، ومحاولة البحث عن المعلومة الأصدق والأسرع، بل راكمنا تواصلا عاطفيا مع ما تعرضه هذه الشاشة، من المراسل إلى اللغة والشخوص، وفي حالة غزة نترقب ظهور المراسلين، ونواكب آلامهم، ونخاف حال تأخرهم عنا، فهم إلى جانب دورهم في مواكبة الحدث، يعانون كغيرهم من الناس في القطاع، ويلاقون من الاستهداف والتجويع ما يلاقونه، فلم يعد أنس الشريف وقبله وائل الدحدوح وزملاؤهم، إلا جزءا من أسرنا، وأصواتا نأنس بها، ونتلهف لسماعها، فغياب صاحب الصوت في مثل هذه الظروف لا يكون إلا لكربٍ وضنك، وما أعظم كروب غزة وأحزانها.

يؤكد "قانون الجزيرة" أن الأوهام التي سوقت لها دولة الاحتلال قد تبددت إلى غير رجعة، فهي ليست الدولة التي تكفل "حرية التعبير"، لا للإعلام ولا لأبناء جلدتها

ربما هذا الحديث العاطفي عن الجزيرة لا ينزع عنها دورها الكبير في المعركة الإعلامية التي نخوضها في وجه المحتلّ، ولا ينتقص من دورها النوعي في الكشف عن جرائمه الكثيرة والمتتالية في هذا العدوان، وما سبقه، وأنها أصبحت منبرا مهما لإعادة إظهار وجه المحتل البشع، بكل ما في هذا الوجه من صلف وإجرام وتغول وعدوان وقتل وترويع وتشريد، وشكلت ما كشفت عنه الجزيرة من استهداف متكرر للمدنيين، وقتل بدم بارد للآمنين العزل، دليلا جديدا عن إجرام هذا المحتل البغيض، وهو دليل يستطيع أن يجوب الآفاق، ويصل إلى قلب البيت الأبيض لأن الجزيرة هي التي حملته.

وأمام استمرار جماهيرية الجزيرة، وما استطاعت تحقيقه، تصاعد في هذه الحرب "الرهاب الإسرائيلي" من هذه المؤسسة العريقة، ومما تقوم به، ووصل الأمر بهذه الحكومة المأفونة إلى طرح قانون يسمح بوقف عمل القنوات الأجنبية داخل الأراضي المحتلة، وأُطلق عليه اسم "قانون الجزيرة"، وكان أول تعليق لرئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو على أثر إقرار "الكنيست" للقانون – في قراءته الأولى- قوله "إن قناة الجزيرة لن تبث من إسرائيل بعد اليوم وحان الوقت لطردها"، وبطبيعة الحال ساق نتنياهو جملة من الأكاذيب حول الكامنة خلف إقرار القانون، إن من حيث ادعاؤه بأنها "تضر بأمن إسرائيل" أو بأنها "شاركت فعليا في عملية السابع من أكتوبر"، لتكون هذه الأكاذيب حلقة جديدة من مسلسل الكذب الإسرائيلي الذي تتجدد حلقاته كل حين مع فشل الاحتلال في تحقيق أي من أهدافه، إلا في قتل الفلسطينيين، واستمرار انحسار شعبيته في العالم.

يؤكد "قانون الجزيرة" أن الأوهام التي سوقت لها دولة الاحتلال قد تبددت إلى غير رجعة، فهي ليست الدولة التي تكفل "حرية التعبير"، لا للإعلام ولا لأبناء جلدتها، وأكتب هذه الكلمات وأشاهد على شاشة الجزيرة اعتداءات قوات شرطة الاحتلال على المستوطنين المتظاهرين في القدس المحتلة، الذين يطالبون بإتمام صفقة تبادل مع المقاومة الفلسطينية، ويلقون باللائمة على نتنياهو، مؤكدين على ضرورة استقالته من منصبه ومحاكمته لاحقا، وأن هذا الكيان هو "واحة الديموقراطية" في هذا الشرق، وغيرها من أكاذيب أخرى تهاوت أمامنا في كل ساعة ولحظة، ومع كل مشهد ومقطع استطعنا مشاهدته من غزة.

السعار الذي أصيب به نتنياهو خاصة ومن خلفه المكون السياسي الإسرائيلي عامة، وتحريضهم المستمر على الجزيرة، وما استطاعت أن تحققه هذه الشبكة من انحياز دائم إلى الشعوب، يعطينا دلالة جديدة على دور الإعلام الحر

ويحضرني ها هنا ما أشار إليه الكاتب الإسرائيلي أنشيل فيفر بأن نتنياهو هو أسوأ رئيس لوزراء الاحتلال في تاريخ الكيان، وأنه "الزعيم الذي ألحق أكبر قدر من الضرر بالشعب اليهودي خلال الـ21 قرنًا الماضية"، ولكن نتنياهو على المقلب الآخر أكثر تجليات هذه الدولة صدقا، وأقربهم إلى روح الصهيونية وما تحمله من مخاطر على الإنسانية، فقد أظهر نتنياهو للعالم وجه المحتل الصهيوني القميء، الذي يريد أن يقتل الفلسطينيين بيد، ويكمم أفواه وعدسات الإعلام باليد الأخرى، محتل يجوع الفلسطينيين ويلقي عليهم فتات المساعدات التي لا "تسمن ولا تغني من جوع"، هذا الوجه الصهيوني يرتعب من مراسل يصور إجرام جنوده، ويصيبه الجنون من عائلة صحفي لا يملك سلاح إلا الكاميرا وصوته وأفكاره.

لست في مقام التمجيد في هذه التدوينة، فأي عمل بشري يعتريه من النقص والزلل ما يعتريه، ولكن السعار الذي أصيب به نتنياهو خاصة ومن خلفه المكون السياسي الإسرائيلي عامة، وتحريضهم المستمر على الجزيرة، وما استطاعت أن تحققه هذه الشبكة من انحياز دائم إلى الشعوب، يعطينا دلالة جديدة على دور الإعلام الحر، الذي لا ينحاز إلا للجموع المكلومة، وتقف أمام الدماء المسكوبة بكل احترام وخشوع، ولا توازي بين "منجزات الذكاء الاصطناعي وبين المعدات الخاوية" بفعل احتلال ظلامي كما فعلت غيرها.

وأمام عته نتنياهو ندعو الجزيرة لكي تستكمل ما تقوم به، وأن تظل صوت "الجنوب" الكسير لتهز عالم "الشمال" المتجبر، أن تتابع انحيازها للإنسان، بكل محطاته، مظلوما ومتعبا ومكافحا، وبكل تأكيدٍ مقاوم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.