شعار قسم مدونات

حروب المدن وضحاياها المدنيون كيف نوقف هذا النزيف؟

أنقاض المباني في خان يونس، دمرت خلال القصف الإسرائيلي المتواصل على غزة (الفرنسية)

يكشف أحدث تقرير عالمي لرصد "العنف المتفجر" أصدرته "منظمة العمل على العنف المسلح (AOAV)" في يناير/ كانون الثاني الماضي، عن ارتفاع بنسبة 122% في وفيات المدنيين بسبب استخدام الأسلحة المتفجرة على مستوى العالم في عام 2023 مقارنة بعام 2022. والتقرير الذي أصدرته هذه المنظمة الحقوقية التي مقرها لندن يؤكد أن الاجتياح الإسرائيلي لقطاع غزة بعد عملية طوفان الأقصى قد أسهم بشكل كبير في هذه الزيادة، إذ نسب إليه 37% من إجمالي الضحايا المدنيين على مستوى العالم (طبعا هذا خلال نحو 80 يوما فقط من الاجتياح الإسرائيلي، كون التقرير غطى عام 2023 فقط) رغم أن البيانات تم الحصول عليها من تسجيل تقارير وسائل الإعلام باللغة الإنجليزية فقط كما أشارت المنظمة، مما يعني أن هناك بيانات أخرى لم يتم الحصول عليها، وبالتالي فإن النسبة قد تكون أعلى من ذلك.

تشتهر حروب المدن بالوحشية والتدمير، وقد سجل التاريخ شواهد مرعبة على هذه الحروب سواء في غروزني أو الفلوجة أو سنتالينغراد أو غزة، وغيرها من المدن التي شهدت معارك ضارية، وتدميراً كبيراً، وضحايا لم يعرف عددهم بدقة، فبينما توفر المناطق المبنية الكثير من الأماكن للاختباء، فإن معارك إطلاق النار تحدث على مسافة قريبة، وقد تكون الأبنية نفسها مليئة بالأفخاخ، ووجود المدنيين في المدن يجعل كل شيء أكثر صعوبة.

حين تتعرض المدن للتفجيرات والقصف، تكون المدارس والمستشفيات والبنى التحتية الأخرى أهدافاً عسكرية، ويكون أحد الأسباب الرئيسة لمعاناة المدنيين خلال الحروب في المدن استخدام الأسلحة المتفجرة التي تصيب مرافق واسعة يعتمد عليها الناس في معيشتهم.

الضحايا مدنيون

تؤكد المنظمة في تقريرها المشار إليه، وفي تقارير سابقة كذلك، أن 90% من المتضررين من الأسلحة المتفجرة في الحروب عادة هم من المدنيين، ولعل السبب في ذلك أن الأسلحة المتفجرة الحديثة قد صُممت أساساً لتستخدم في معارك مفتوحة، ولكنها اليوم تستخدم في مناطق مغلقة مأهولة بالسكان، ولا يتم مراعاة ذلك حتى من قبل الدول التي تدعي أنها تفعل ذلك، ففي الرقة السورية مثلاً، أكد تقرير لمنظمة العفو الدولية أصدرته عام 2019 بعنوان "لغة الخطاب تفندها الوقائع" كيف أن ضربات قوات التحالف الدولي قد دمّرت المدينة، وقتلت عددا كبيرا من المدنيين، لكنها لم تعترف إلا بـ10% منهم، على الرغم من أحد المسؤولين العسكريين لقوات الولايات المتحدة الأميركية كان يتفاخر بأنه قد تم إطلاق 30.000 قذيفة مدفع على الرقة، أي ما يعادل قذيفة كل ست دقائق على مدار أربعة أشهر متتالية، وهذا العدد يفوق أعداد قذائف المدفعية التي استخدمت في أي نزاع مسلح آخر منذ حرب فيتنام، وفق منظمة العفو الدولية. واليوم في غزة قتلت إسرائيل أكثر من ثلاثين ألفا من الفلسطينيين معظمهم من الأطفال والنساء وكبار السن لكنها لا تعترف بأنها قتلت مدنيين.

وبالعودة لتقرير "منظمة العمل على العنف المسلح (AOAV)" فإن ما أسمته "أعمال العنف المتفجرة" قد أثرت على 64 دولة في العالم عام 2023، وكانت المناطق الأكثر تضررا هي: غزة وأوكرانيا والسودان وميانمار وسوريا، وكانت إسرائيل وروسيا وميانمار بالترتيب أكثر جهة حكومية تسببت بالضرر للمدنيين.

دمار المدن يدمر الإنسان

حين تتعرض المدن للتفجيرات والقصف، تكون المدارس والمستشفيات والبنى التحتية الأخرى أهدافاً عسكرية، ويكون أحد الأسباب الرئيسة لمعاناة المدنيين خلال الحروب في المدن استخدام الأسلحة المتفجرة التي تصيب مرافق واسعة يعتمد عليها الناس في معيشتهم، إذ تعتمد المدن على شبكة من الخدمات المترابطة، وإذا لحق ضرر بأحدها فإن يترك آثارا متتالية تفاقم معاناة الناس أكثر فأكثر، فحين تدمر المستشفيات وخطوط التزويد بالماء والكهرباء، سيؤثر ذلك على الصحة وتقديم الرعاية الصحية اللازمة، مما يفاقم الخسائر في الأرواح، فالدمار سيؤدي إلى تدهور الخدمات الأساسية، وسيحول أحياء بكاملها إلى مناطق غير قابلة للسكن، وسيجبر الناس على ترك منازلهم، وهذا سيعرضهم لظروف معيشية صعبة، ومخاطر جديدة لم يكونوا مستعدين لها.

أن يجد الإنسان نفسه فجأة بلا مأوى وبلا ذكريات وبلا أمن، نازح مشرد، يعاني من الجوع والحصار والفقد أمر لا يمكن وصفه، ولا يمكن تجاوز تداعياته بسهولة.

لقد شهد العقد الأخير دمارا كبيرا لحق بكثير من المدن في العالم، وفي المنطقة العربية بشكل خاص، فدمرت مدن سوريا: حلب والرقة ودير الزور وحمص ودمرت مدن قطاع غزة ودمرت مدن العراق في محافظات نينوى والأنبار وصلاح الدين، ودمرت مدن اليمن وليبيا والسودان والصومال. كل هذا الدمار لا يقف عند عتبة الفقدان المادي للمنازل والمنشآت والبنى التحتية بل يتعداه إلى الفقدان المعنوي الأشد ضرراً والأعمق جرحاً وألماً، إذ يفقد المرء ماضيه وحاضره، وتصبح أحلامه وآماله وذكرياته في مهب الريح.

منذ عام 2010، عملت بعض الجهات الفاعلة الإنسانية في العالم على زيادة الوعي حول الأثر الإنساني العشوائي والخطير لاستخدام الأسلحة المتفجرة في المناطق المأهولة بالسكان، مما أثمر عملية تشاور دولية لوضع إعلان سياسي دولي يعالج الضرر الإنساني الناجم عن استخدام الأسلحة المتفجرة في المناطق المأهولة بالسكان.

هل نصمت؟

دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش باستمرار الدول إلى تبني التزام دولي بتجنب استخدام الأسلحة المتفجرة في المناطق المأهولة بالسكان، لكن هذه الدعوة لم تجد حتى الآن آذانا مصغية من قبل مهندسي الحروب الذين لا يتورعون عن استخدام كل الطرق المشروعة وغير المشروعة للوصول إلى أهدافهم. وما يجري في غزة اليوم أكبر مثال على ذلك، وما جرى قبلها في حلب أو الموصل أو الرقة وغيرها خير دليل على أن آلة الحرب القاتلة الساعية لتحقيق مصالح سياسية قد لا تكون مشروعة في كثير من الأحيان، لا تعرف التوقف حتى ترتوي من دماء وآحلام الناس.

منذ عام 2010، عملت بعض الجهات الفاعلة الإنسانية في العالم على زيادة الوعي حول الأثر الإنساني العشوائي والخطير لاستخدام الأسلحة المتفجرة في المناطق المأهولة بالسكان، مما أثمر عملية تشاور دولية لوضع إعلان سياسي دولي يعالج الضرر الإنساني الناجم عن استخدام الأسلحة المتفجرة في المناطق المأهولة بالسكان. وفي عام 2022 وقّعت 83 دولة، منها الولايات المتحدة، على التزام سياسي بعدم استخدام الأسلحة المتفجرة ذات الآثار الواسعة، بما يشمل المدفعية الثقيلة والقنابل الجوية، في المناطق المأهولة بالسكان بسبب ارتفاع احتمالية تسببها في قتل وإصابة المدنيين عشوائياً، لكن يبدو أن إسرائيل خارج هذا المنع، كونها مازالت تقصف المدنيين بكل أنواع الأسلحة المتفجرة، حتى المحرمة منها دولياً، فهل ستدفع غزة العالم للتنبه إلى ضرورة إيجاد قواعد ومعايير أكثر عملية وجدوى لحماية المدنيين في الحروب؟ للأسف حتى الآن لا يبدو ذلك، فالعالم مازال يتابع مقتلة الفلسطينيين بدم بارد، دون أن يحرك ساكناً، لكن ذلك لن يثني شرفاء العالم عن التحرك لوقف هذا العدوان ومحاسبة الجناة، فلا يموت حق وراءه مطالب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.