شعار قسم مدونات

نهاد الموسى.. دع كل قول غير قوله

النحوي واللساني نهاد الموسى (جامعة قطر)

هنالك، على مقربة من أشجار الأردنية يجلس في مكتبه المطل على ساحاتها، طلابها، طالباتها وأساتذتها، الموسى نهاد، يقف بين كل هؤلاء إماما للعربية، وسادنا لحروفها، يمرر القلم بصحبة أبي عبيدة معمر بن مثنى في مجاز القرآن، ويضع الحواشي على مخطوطات نبشها من دفائن مكنوزات في طي نسيان الأمة، عندما كانت الأمة لا تغيب عنها شمس المعرفة، وهو في كل هذا يضع معالما لتطوير اللغة العربية، ويطلع السؤال الممعن في بحث محكم التوصيف: هل من الممكن أن تقع جملة الصلة شرطا؟ وهو الذي نزع عن العربية حجابها الحاجز بينها وبين الناس فقال لنا: يا قوم، كلكم مبدون بالقوة فتعالوا إلى رياض الكلم حتى أثبت لكم.

ينتقل الحوار حول جولاته وأسفاره في العالم، وتجاربه في اليمن السعيد، وذاك الشعب القريب إلى العربية كأنها ولدت من ألسنتهم

يحب العربية كما لم يحب العربية أحد، ويعشق الحرف العربي كمن يتشهى وجه من عشقا، ويأنس بالنص التراثي كمن يقلب قطعا أثرية نفسية بين كفيه، ويدير رحى الكلام ببطء شديد كمن يتخير اللفظ الأحسن بين الألفاظ الحسان، ويتنفس الجملة العربية مع كل شهيق وزفير، ويتحسس الحركات على الحروف كأنه يزينها تحت لسانه، غير مرة جالسته وفي كثير من المرات كان يهاتفني لكي نتمشى تحت أشجار الجامعة الأردنية في ربيعها من كل عام.

نبدأ المسير فتبدأ خواطره تنهال، وأنا أصغي بكل جوارحي لحروفه، وتسكن كل جوانحي بأنفاسه التي تجعل الوعي عندي يتسع كلما اتسعت خطوات المسير، نذرع الجامعة غير مرة، فمرة يكون محور الحديث عن أبي فهر "محمود شاكر" وتلك القدرة على تقليب النظر في مفردات العربية، فيبدأ باستحضار نصوص من حافظته الغضة، من الأباطيل والأسمار، ثم يحدثك عن القوس والعذراء، تلك التي تظهر فرادة عند أبي فهر، ثم ينسرب الحديث من غير وعي مني إلى تاريخ الأردنية وذكرياته فيها، وكيف أن الهمم قد تغيرت والطموح قد تبدل، والوعي قد تغير، ولكنه رغم كل هذا لم تخب فتيلة زيت الأمل في مفرداته.

ثم ينتقل الحوار حول جولاته وأسفاره في العالم، وتجاربه في اليمن السعيد، وذاك الشعب القريب إلى العربية كأنها ولدت من ألسنتهم، وعوالم اللغة الإنجليزية، وكيف أن اللسانيات عندهم تحبو مقارنة بما تملك العربية من قدرة على التوليد العجيب والمفيد والتليد، ثم يند منه بيت لامرئ القيس، وكيف أن هذا الضليل نقش اسمه على صخور تتدحرج حتى يومنا هذا، ليأخذ كل باحث منها بطرف، ويبقى الضليل كما هو، وأنت في كل هذا تصيخ السمع إلى تنهداته وحرقته على شيوع العامية والأمية اللتين تحيطان بالأمة بعد أن كانت تعد الليالي ليلة بعد ليلة مع التوحيدي في مسامراته البديعة، والجاحظ الذي يفتح لنا مصاريع القول على القول في رسائله التي تجيش غوربا.

يا نهاد، لقد كنت تعشق التأمل، وهذا كان ظاهرا في إحدى رحلات قسم اللغة العربية عندما كنت في الليل تنأى بذاتك عن الجموع لكي تحدق في السماء وأنت تخاطب النجم فيها، والسماء ذات البروج

يا نهاد، نقول لك وأنت الذي أخبرتني بأنك تقرأ في السبعين بهمة القراءة في العشرين، ويكأن ابن معرة النعمان كان يقصدك إذ قال:

إذا سارتك شهب الليل قالت .. أعان الله أبعدنا مرادا.

يا نهاد، لمن تركتنا؟ لعامية صعد إليها أهل العربية بقول زور، أن العربية الفصحى عسيرة على الجيل، ولكنهم لو صدقوا لقالوا بل هي العسيرة علينا، أم لتهريج يحدث في القاعات تحت مسمى إزاحة الملل عن الطلبة، ولم يتعلموا في دروسك أن الجدية في العطاء الأكاديمي هي التأويل لقوله تعالى: يا يحيى خذ الكتاب بقوة!

يا نهاد، لقد كنت تعشق التأمل، وهذا كان ظاهرا في إحدى رحلات قسم اللغة العربية عندما كنت في الليل تنأى بذاتك عن الجموع لكي تحدق في السماء وأنت تخاطب النجم فيها، والسماء ذات البروج، واليوم الموعود، وشاهد ومشهود.

يا نهاد.. سلام عليك، وعلى عربيتك، وعلى روحك.

يا نهاد.. ستبقى سورة الضحى – تلك السورة التي كانت قريبة إلى قلبك – شاهدة وأنت تمر بها بهدوء الواثق بلسان نبيه التي نزلت عليه، وترددها والأكف تتحرك بهدوء أمامك، وتعيد وتكرر وتمضي معها إلى: ولسوف يعطيك ربك فترضى.

يا نهاد.. لن تنساك العربية التي كنت سفيرها الأمين، ولن تنساك الفصحى لأنك حببتها إلينا، ولن ينساك ربك الذي حببت إلينا كتابه من بوابة اللغة الأم.

يا نهاد.. سلام عليك، وعلى عربيتك، وعلى روحك.

كتبها محبك الذي كنت ترحب به (أهلا بالفتى الفصيح) ضيفا متطفلا على موائد الدراسات العليا.
ختاما أكرر مع أبي الطيب: محبك حيثما اتجهت ركابي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.