شعار قسم مدونات

العلمانية بين الأيديولوجيا والحيادية (2)

blogs العلمانية
العلمانية كأيديولوجيا هي لقاء تمظهرات العلمانية في التاريخ مع ذاتها في الوعي (مواقع التواصل الاجتماعي)

نعود في هذا الجزء إلى رؤية عزمي بشارة، حيث هو من الفريق الذي لا ينازع في أن مصطلح العلمانية يحمل المعنى الأيديولوجي، وفق الأدبيات المختلفة له، مؤكدا على ذلك بين الفينة والأخرى، في مواضع تفوق الحصر هنا، خاصة في الفصول ذات الصلة، في موسوعته ذات الثلاثة أجزاء بهذا الخصوص (الدين والعلمانية).

ومن ذلك -على سبيل المثال- إشارته في سياق محاولة تعريف العلمانية ومدى دقة نسبتها إلى العلم أم العالم والعلم؛ إلى الجدل الدائر في ذلك، ويسوق ما يحاول به البعض أن يجعل من العلمانية مجالا، يتصل كل مجال فيها بقوانينه الداخلية الخاصة غير السماوية، وكأن العلمانية تؤدّي معنى العلم، لكن بشارة يعقب على ذلك بقوله: "وتكفينا هنا الإشارة إلى الأيديولوجيات العلمانية، فليس كل ما هو علماني يحيل الدنيا علميا بالضرورة، ولكن ثمّة علاقة أكيدة بين الاستغناء عن الغيب، في تفسير العالم من ذاته بواسطة العلم، وبين فهمنا لعلمنة الوعي.." (عزمي بشارة، العلمانية والدين، الجزء الثاني/المجلّد الأول، ص 78).

في سياق النقد العقلاني والقيمي للتنوير، من منطلق أيديولوجيات لا عقلانية، أو أفكار شمولية؛ يعلّق بشارة على ذلك قائلا: (هكذا أيضا نفصل العلمانية، بصفتها تمايزا بين المجالات، وتحريرا للدين من القسر السياسي، مثلما هي تحرير للسياسة من مرجعيات كهنوتية…)

وفي الوقت الذي يستعمل فيه بشارة العلمانية بوصفها أيديولوجيا؛ فإنه يرفض القبول بكونها نظرية علمية، (بشارة العلمانية والدين، الجزء الأول، المجلد الأول، ص 80 ،84). أو  فلسفة علمية (بشارة، العلمانية والدين، الجزء الأول، ص 15)، ويصرح باختلافه مع عادل ضاهر -مثلا- في الجانب الأخير هذا (بشارة، العلمانية والدين، الجزء الثاني/المجلد الأول، ص 84).

ثم نراه يؤكد أن "هذا التفسير المنعكس في اللفظ، الذي يوصل عملية العلمنة إلى اعتبارها مرجعية العقل والعلم، يصبح الفرق ضئيلا بين العلمانية كنتاج فكري لعملية عَلْمَنة، أي كعملية تاريخية جارية، وبين وعيها بذاتها كموقف. وهذا يعني برأينا أن العلمانية كأيديولوجيا هي لقاء تمظهرات العلمانية في التاريخ، مع ذاتها في الوعي، في تعريفها لذاتها كمرجعية العلم والعقل، في مقابل مرجعية الدين. والمقصود هو إحالة مرجعية العلم والعقل في الحكم على الظواهر الدنيوية، في مجال بعد آخر" (بشارة، العلمانية والدين، الجزء الثاني/المجلّد الأول، ص 80)

وفي سياق النقد العقلاني والقيمي للتنوير، من منطلق أيديولوجيات لا عقلانية، أو أفكار شمولية؛ يعلّق بشارة على ذلك قائلا: "هكذا أيضا نفصل العلمانية، بصفتها تمايزا بين المجالات، وتحريرا للدين من القسر السياسي، مثلما هي تحرير للسياسة من مرجعيات كهنوتية، عن العلمانية، بصفتها أيديولوجيا شمولية، تعادي الدين، وتدعي العلمية، في إدارة شؤون المجتمع، فهذه الأخيرة تستدعي نقدا قد يتناولها، وكأن مشكلتها الرئيسة هي تعميم العلم كأداة سيطرة وضبط وتصنيف وحساب" (بشارة، العلمانية والدين، الجزء الثاني/المجلد الأول، ص 724).

كما قال بشارة في السياق ذاته: "ومن يعتقد أنه ينتقد التنوير إنما ينتقد تيارا أيديولوجيا واحدا فيه، ولا سيما ذلك التيار الذي يؤسس العلمانية، على ما يدعي أنه حقائق كونية، لذلك نحن نرى أن هذه الأفكار على جديتها لا تكشف جديدا، وربما تساهم قليلا في التخفيف من صلف الادعاء القائم لدى العلمانيين المتطرفين، بأنهم يمثلون التنوير. وهذا بحد ذاته مفيد، لأن العلمانية نفسها من دون التعددية السياسية والحريات وغيرها قد تكون غطاء لتقديس الفرد الديكتاتور، أو لتقديس تجسيدات أسطورية عن الدولة أو الشعب، كما تطرحها للناس قوى سياسية أيديولوجية، أصولية، تسمي نفسها علمانية، وهي في الواقع تستبدل قداسة بأخرى، وعقائد وشعائر وطقوسا بأخرى" بشارة، العلمانية والدين، الجزء الثاني/المجلد الأول، ص 793).

يكاد يتلخص رأي بشارة في العلمانية من هذه الزاوية بقوله في خاتمة موسوعته: "أما العلمانية فتبرز كمجموعة مواقف فكرية وأخلاقية، متعلقة بعلاقة الدولة بالدين تاريخيا، في مرحلة تعاظم دور الدولة وشموليته في الحداثة عموما…"

أما في سياق مناقشة بشارة لأنواع العلمانية ونماذجها المختلفة من متشددة وصلبة أو رخوة ومعتدلة فنلقاه يمضي في وصف العلمانية بالأيديولوجيا حيث يقول: "توصلنا النقاشات المعاصرة في شأن الدين والسياسة إلى نتيجة مفادها أن الطريقة "المثلى" لتحييد مسار الدولة في الشأن الديني هي مسار تاريخي لا يؤدي إلى وصول أوساط إلى هذه القناعة، ببرامج سياسية وثقافية، تدعو إلى هذا الفصل أو التحييد فحسب، ونسميهم علمانيين بالمعنى الأيديولوجي للكلمة، بل إلى وصول المتدينين أيضا إلى قناعة مفادها ضرورة تحرير الدين من سيطرة الدولة.. لأن العلمانية ليست مجرد فصل كتمايز وتمفصل موضوعي جارٍ في التاريخ، بل هي أيضا موقف أيديولوجي نابع من فهم معين للدين والدولة" ( بشارة، العلمانية والدين، الجزء الثاني/المجلّد الثاني، ص 282-283).

ويكاد يتلخص رأي بشارة في العلمانية من هذه الزاوية بقوله في خاتمة موسوعته: "أما العلمانية فتبرز كمجموعة مواقف فكرية وأخلاقية، متعلقة بعلاقة الدولة بالدين تاريخيا، في مرحلة تعاظم دور الدولة وشموليته في الحداثة عموما، بما في ذلك دورها الثقافي، وتأثيرها في حياة الأفراد أيضا" (بشارة، العلمانية والدين، الجزء الثاني/المجلّد لثاني، ص 410) (يتبع الجزء الثالث).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.