شعار قسم مدونات

الهروب من الحرية

الخوف أكبر عدو للحرية (غيتي)

في جلسة حوارية خاصة دار حديث حول الحرية ومدى ارتباطها بالمسؤولية، وكيف أن الإنسان كلما كان حرا يكون أكثر قدرة على تحمل مسؤولية اختياراته، والوقوف خلف نتائج قراراته، كونه لن يجد شماعة الإكراه أو الإجبار ليجعل منها حجة يعلق عليها أسباب فشله أو أخطائه، وسيكون عنده قدرة أكبر على مواجهة نفسه، ومراجعة أفعاله وتقييمها، مما يدفعه لتصحيح أو تعديل مواقفه وخياراته في المستقبل.

وربما تكون حرية العقيدة واختيار الدين أهم أنواع الحرية، فالإنسان الذي يختار عقيدته دون إكراه يختار معها دينه ومسلكه في الحياة، ويكون عنده القدرة على المراجعة والتقييم وتصحيح المسار.

لكن حتى يكون عنده القدرة على الاختيار فهو بحاجه للمعرفة، وبحاجة للبيان، وبحاجة للاهتمام، لذلك فقد كانت الآية الكريمة ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾[البقرة: 256]، تظهر أن عدم الإكراه وحرية الاعتقاد تكون بعد البيان والمعرفة، وبعد التمييز بين الرشد والغي، وهي أمور يمكن للإنسان معرفتها وإدراكها إذا ما أراد ذلك وسعى له، ويبقى اختياره العقدي هو ما سيحاسب عليه أمام ربه، حتى لو استطاع أن يظهر غيره للناس ويقنعهم به، فالله العالم بما تخفي الصدور والقلوب.

الإنسان يروض نفسه ضمن إمكانات خاصة، قد يسعى لتوسيعها أو تطويرها، وقد ينجح بذلك أو لا ينجح، لكنه يدرك أنه لن يكون بلا حدود، ولن يعيش بلا معوقات، ولن يكون قادرا على اختيار ما يريد وفعل كل ما يريد بشكل مطلق متى ما أراد ذلك.

حرية بلا شوائب

هل يوجد إنسان حر قادر على فعل ما يريد واختيار ما يريد دون أي إكراهات، سواء كانت مجتمعية أم دينية أم ثقافية أم سياسية أم حتى اقتصادية؟ في الواقع هذا السؤال، ورغم أنه قد يبدو سطحيا كوننا نعرف جميعا أنه لا وجود لحرية مطلقة، بحاجة لإجابات وليس إجابة واحدة، فالحرية نسبية.

كما أن الإكراهات نسبية كذلك، والمسؤولية لها وجوه عدة، وليس وجها واحدا. مفهوم الحرية بحد ذاته، هو مفهوم يدل على تخلص الإنسان من المعوقات التي تمنعه من القيام بما يريد واختيار ما يريد، هذه المعوقات التي قد تكون ذاتية نفسية، ترتبط بمؤهلات الشخص، ومهاراته، وكذلك صحته وعقله ومدى قدرته على التعلم..إلخ.

وكذلك قد تكون معوقات خارجية محيطة، كالأسرة والمجتمع والقوانين وغيرها، وعلى هذا لا يمكن أن نتصور أن هناك إنساناً يمكنه أن يتخلص من كل المعوقات الذاتية والمحيطة، لأن الإنسان مخلوق محدود القدرات والإمكانات من جهة، وهو لا يعيش وحده، بل هو فرد من مجموع من جهة أخرى.

ومن هنا فإن الإنسان يروض نفسه ضمن إمكانات خاصة، قد يسعى لتوسيعها أو تطويرها، وقد ينجح بذلك أو لا ينجح، لكنه يدرك أنه لن يكون بلا حدود، ولن يعيش بلا معوقات، ولن يكون قادرا على اختيار ما يريد وفعل كل ما يريد بشكل مطلق متى ما أراد ذلك.

ما يستطيع الإنسان فعله، أو ما يتصور أنه يستطيع فعله، أو ما يمكن أن يقوم به بعد مساعدة ما من غيره، هو ما يستطيع اختياره، وهذا يحتاج منه لإرادة وعمل وسعي وتواصل وإعداد، لذلك نجد أن كثيرا من الناس لا يتعبون أنفسهم حتى باختيار ما يمكنهم فعله، فضلا عن اختيار ما يتوقعون أن بإمكانهم فعله، ويركنون إلى الكسل وإلى العجز، ويسعون للبحث عن المعوقات هروبا من الحرية، وهروبا من المسؤولية، لذلك فقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء جامعا، كما جاء في صحيح البخاري عن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال".

منطلق الحديث عن الحرية والحديث عن القدرة على الاختيار؛ أنه لا بد أن تكون بعض اختيارات الإنسان ضرورية حتى لو كانت نتائجها قد تبدو كارثية أو خطيرة

مسؤولية عاقلة دافعة

عندما يعرف الإنسان حقيقة ما يمكنه فعله عندها يستطيع أن يختار، ويستطيع أن يتحمل مسؤولية اختياراته، لكن هل يعرف الإنسان حجم إمكاناته ومؤهلاته؟ وهل يعرف كيف ينميها ويصقلها أو يطورها؟ هذه أسئلة لا يفكر بها عادة إلا الإنسان العاقل، الذي يدرك أنه لا يعيش في هذه الحياة بلا معنى وبلا هدف، وأنه مكلف، وسوف يحاسب، وعليه أن يقوم بمجموعة كبيرة من الاختيارات في مسيرة حياته.
خيارات لن تكون نتائجها وتداعياتها عليه وحده، بل قد تصيب مجموعة كبيرة من الناس، عبر أزمان عديدة، لذلك فهو يشعر بالمسؤولية، وبالوقت نفسه تكون عنده جرأة الإقدام بعيدا عن العجز والكسل، ويكون عنده الاستعداد للبذل بعيدا عن البخل والجبن.

ومنطلق الحديث عن الحرية والحديث عن القدرة على الاختيار؛ أنه لا بد أن تكون بعض اختيارات الإنسان ضرورية حتى لو كانت نتائجها قد تبدو كارثية أو خطيرة، أو قد تتجاوز حدود الإنسان نفسه ومحيطه، خاصة إذا كانت نابعة عن إيمان ومعرفة، وإذا كانت نتيجة شعور بالحرية، ونتيجة إدراك للمسؤولية، التي تدفع لإدراك الإمكانات، وتدفع لإدراك المعوقات، وتدفع للعمل على توسيع المتاحات، والاستفادة من التناقضات، والجرأة في الاختيارات والتفاعلات، والاستعداد للبذل والتضحية، واليوم يثبت أهلنا في غزة مثلا، أنهم أحرار مسؤولون، وأن عدوهم خاسر فاجر، وأن النصر آت مهما طال الزمن.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.