شعار قسم مدونات

أماه.. من شاء بعدك فليمت، فعليك كنت أحاذر

“صناعة الاكتئاب”.. خرافة القرن العشرين التي تخدم الرأسمالية وصناعة الدواء
قيني أن أمي كانت تدرك أن ما ألم بها سينتهي إلى النقطة الأخيرة من مشوار الحياة (وكالات)

في فجر الأحد السابع من أبريل 2024م، وفي اللحظات الأخيرة من ليلة السابع والعشرين من رمضان 1445 هجرية، انتقلت والدتي بتول الشيخ الأمين، إلى رحاب الله، وقد كانت فيه، وإنما الموت تجلى في مقام، أو كما قال الشيخ عبد المحمود الشيخ الحفيان، رحمه الله.

بعد تجليات الصبر الجميل، لأشهر عديدة من آلام مبرحة، توالت عليها لحظة بلحظة، وبالرغم مما بذل الأطباء من ضروب الطب وحيله، تسارعت الأوضاع نحو الأجل المحتوم، ويقيني أن أمي كانت تدرك أن ما ألم بها سينتهي إلى النقطة الأخيرة من مشوار الحياة.

بالرغم من قساوة الألم، وعنف الوجع، أوتيت أمي اليقين، فلم يسمع منها أنين، ولم يباري أنفاسها تأوه، فقد عضت على الألم، وتجالدت على الوجع، وتجشمت ما لا يطاق ويحتمل إلا بحبل من الله

لم تكن قلقة على ذلك، فهي لم تسأل عن كنه وطبيعة ومسمى السقم الذي لازمها، والابتلاء الذي داومها زهاء العام، ولكن ما كان يقلقها -وهذا شعوري و ادراكي لما بداخلها، وأنا بذلك زعيم لطول مؤالفتها- ما كان يقلقها هو أن تكون النهاية بعيدة عن بيتها، وأهلها بالكباشي، وكانت تلح في العودة العاجلة إلى ديارها.

واتساقا مع ما عانت فإن المقام الذي شفت فيه النفس، وتهيأت لطور جديد، هو مقام الصبر فقد أوتيت منه بفضل الله، ما جعل رحلتها إلى الدار الآخرة صعودا إلى ملكوت الرحمة، والمغفرة، والرضوان، إذ أن الظن بالله تعالى أن أحاطت ملائكة الرحمة بأمي حين كشف عنها الغطاء، وحد بصرها لترى ما لم تكن تراه. ظننا بالله أنها تأملت مليا مستقرها في دار القرار جنات عاليات، فارهات، تزف إليها في الحلل، والعبق، في الفراديس العلا.

فبالرغم من قساوة الألم، وعنف الوجع، أوتيت أمي اليقين، فلم يسمع منها أنين، ولم يباري أنفاسها تأوه، فقد عضت على الألم، وتجالدت على الوجع، وتجشمت ما لا يطاق ويحتمل إلا بحبل من الله، فقد أنِست المعاني الكبيرة للصبر، وانتظرت ما عند الله، وترصدت وعود الصابرين، فقد حضر لحظتها معنى (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغيرِ حساب) (الزمر: 10)

الصبر الجميل بعض ما ادخرت أمي ليومها الآخر، وغيره كثير إذ لم ترتحل على حين غرة، فقد أعدت لهذا اليوم الكثير، ومنذ أزمان بعيدة. فقد صحبت كتاب الله دهورا، حفظا ما وسعها الحفظ، وتلاوة، وتعلما، وخدمة، فقد اعتدت للنساء حلقة في بيتها، يؤمنها لحفظ ومدارسة القرآن، وهي في ذلك الأسبق والأحرص، واستمسكت أمي بالباقيات الصالحات، وضروب شتى من الذكر، ألفتها أزمانا، وأنست بها أعمارا، وظلت لعشرات السنين تواثق بيت الله الحرام حجا وعمرة، تتعاقب حينا، وتتداخل أحيانا كثيرة. ويطيب مقامها عند مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، أزمانا وأزمانا.

وحين ارتقى الوالد الشيخ البشير الشيخ عثمان حاج طه الكباشي إلى الرفيق الأعلى، قبل أكثر من عشرين عاما، دب الخوف من أن تنطفئ الشعلة المضيئة التي يجتمع حولها الحبان والحيران والجيران، إلا أن بيته بفضل الله، ثم بفضل أمي استحال قبلة للناس، يرتاده الأهل من نواحي شتى، ففيه تجتمع أمشاج القبائل من لدن المحمدية في الضفة الغربية للنيل الأبيض خلف جبل الأولياء، وإلى نوراب الكبابيش في أقصى الشمال الغربي لكردفان، وخاصة عترة أبي درق من  خؤولتها، أو أبناء وبنات أشقائها، وحولها أبناء الشيخ الكباشي وأهلنا من حلفاية الملوك، يأوي لدارها عابر السبيل، والمقيم لعلم أو علاج، طال مكثه أو قصر، ومن يسوقه شوق اللقيا، وواجب الصلة. في بيتها يجدون للأنفس دعة، وللأرواح فرحا وسكينة.

ولنا نحن الأبناء فقد كنت للوالد الرفيق والصديق، فإن كان العماد والعمود الذي نهضنا على أكتافه، وسقى نبتتنا من ماء عينيه، وعرق جسده، فقد كنت السلم الذي صعدنا به الحياة درجة، درجة، خطوة، خطوة، ومن عجب أنه في كل خطوة تزداد فيها أوزان أجسادنا، تضعف سلاسل الدرج، ولكن تزداد قوة الروح، بعزم يتجدد لتحملنا على جسد انهكناه من طول التسفار. حين كنا صغارا زغبا لم ينبت لنا ريش، تضفي علينا سعادة من خصاصة الحياة وضيق عطائها، وحين مدت لنا الدنيا بعض أياديها، أحلت ذلك إلى هناءة وسعد، نفثت فيه من البركات ما به يزدهر مهما قل أو شح.

لفنا اليتم، وابيضت العيون حزناً، وأقام الأسى بين ظهرانينا، وانطوت القلوب على الأوجاع والأحزان، ولكن الظن بالله يتوطد، وهو القائل في الحديث القدسي (أنا عند ظن عبدي بي) والثقة به تتعزز

ذهبت أماه، وتلك سنة الأولين والآخرين، ولكن انفلقت القلوب، وانفتحت على أسئلة، بدت لنا كأن الزمان قد عاد بنا القهقرى، نردد ذات مخاوفنا وأسئلتنا الصغيرة. كنا نستدفئ ونستضئ بشمس مشرقة أبدا، فهل هذا الذي يداهمنا عصر ظلماتنا القادم، كان لنا موعد راتب في كل جمعة، بل كل سانحة، نحن وصغارنا، نأتي بيتك، وهو موعد لا يستطيع أحد أن يخلفه، وكانت الحيطان والأشجار تصفق لمقدمنا، فهل ستظل على راتب عهدها معنا، أحفادك الذين كانوا يتقافزون منذ الفجر في  انتظار الموعد، موعد حبوبة بالكباشي، حيث يمارسون هوياتهم المفضلة في بناء منازل الرمل وهدمها، في بيت حبوبة، هل ستتصل هوايتهم، أم سيكتشفون أن الحياة ليست أكثر من منازل من رمل، والخدعة التي كانوا يتلهون بها، هي في حقيقتها الواقع.

هل الأرواح التي كانت تجتمع لتستمد الحياة من روحك، سيتواصل تحليقها أم أن رائحة الحزن، وطعم الفراق، ومرارة الفقد، ستظل دأبهم ما بقيت لهم حياة. فماذا بقي ليمنح الحياة الفرح!

فما كنا نلتقي فيه، ونسكن إليه طوال حياتنا قد مضى.

لفنا اليتم، وابيضت العيون حزناً، وأقام الأسى بين ظهرانينا، وانطوت القلوب على الأوجاع والأحزان، ولكن الظن بالله يتوطد، وهو القائل في الحديث القدسي (أنا عند ظن عبدي بي) والثقة به تتعزز، فلا نظن به تعالى إلا رحمة بك ورفقا، نظن به تعالى رضوانا عنك، ورزقا برفقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، نظن به تعالى أن يكرم نزلك، ويوسع قبرك، وتستقر برحمته روحك في أجواف طير خضر، تسرح في الجنة حيث شاءت، وتعلق في أشجارها إلى أن يردها الله إلى جسدك الطاهر يوم القيامة. إنه ولي ذلك، والقادر عليه.

أيا حسان، أأنت تعنيها

كنت السواد لناظري

فعمي عليك الناظر

من شاء بعدك فليمت

فعليك كنت أحاذر

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.