شعار قسم مدونات

عن غزة..

صرخة أم فقدت طفلها في غزة مصدر الصورة: (بلال خالد)
من جعلنا نفقد الأحباء والأهل والأصدقاء بعد أن قطعهم أشلاء أمامنا كيف سيعيدهم لنا؟ (اليونسيف)

من المؤكد أنهم سيرممون ويعيدون إعمار غزة وستعاد في المدينة والبنيان والحياة من جديد، لكن نحن سكان غزة، من ذا سيعوضنا ما فقدنا في دواخلنا؟ من ذا سيعيد لنا حب الحياة بعد أن انطفأت بأعيننا؟ وإن أعادوا الأماكن من سيرجع لنا الأحباب بعد أن رحلوا؟ ذكرياتنا الطفولية والحياتية السابقة التي دفنت وهدمت كيف لها أن تعاد بعد أن سحقت؟

  • من كسر أنفسنا حين ذللنا لكسرة خبز قد اشتهيناها بعد حرماننا للطعام شهور عديدة، كيف سيغفر له؟
  • ومن جعلنا نفقد الأحباء والأهل والأصدقاء بعد أن قطعهم أشلاء أمامنا كيف سيعيدهم لنا؟
  • لكل من جعلنا نحمل هما أكبر منا، وتعاسة تكفينا سنين طويلة، كيف سنسامحه؟

الحرب لم تدمر بنياننا وشوارعنا فقط، هي قد دمرت حقا آخر ما تبقى لنا من حب للحياة.

في الحرب وخصوصا عندنا في شمال قطاع غزة من المعجزات أن تشتهي طعاما وتجده بسهولة إن لم يكن قد انقطع، ككون الطعام أصبح من النادر وجوده!

قبل الحرب، كنت فتاة مفعمة بالحياة، طالبة ماجستير بالفصل الأول، الكثير من الطموحات والأحلام بنيت بهذا الوقت، في شهر أيلول تحديدا، كنت أحب التسكع وقت الغروب مع رفيقتي في الدراسة فاطمة، وفي احدى المرات وقفنا أمام إحدى البيوت الجميلة والأبراج العامرة في غزة، مازحتها قائلة: "بيوم من الأيام حتزوريني في فيلتي وبرجي الخاص فيا يا فاطمة". واصلنا المسير إلى أن وصلنا مفترق الوحدة مع الرمال ووقفت وسرحت في هذا البرج العالي، قاطعتني فاطمة قائلة: "وين سرحتي كمان هان"، أخبرتها أن هذا البرج يحمل الكثير من الذكريات الطفولية التي عشتها ببراءة وحب وآمال أعلى منه حين كنت أقدم برنامج على الراديو في صغري، ومضينا متسامرتين بأحاديث خلدت في ذاكرتنا للأبد.

في الحرب، بالأول من فبراير، في مكان نزوحنا المهترئ المنقطع من كل أسباب البقاء في الحياة، استيقظت مشتهية للفلافل وأخبرت أمي بذهابي للبحث عن بائع فلافل، ففي الحرب وخصوصا عندنا في شمال قطاع غزة من المعجزات أن تشتهي طعاما وتجده بسهولة إن لم يكن قد انقطع، ككون الطعام أصبح من النادر وجوده!

خرجت مستودعة نفسي لله داعية أن أجد الفلافل التي اشتهته نفسي البشرية وآكله من دون أن تصيبني رصاصة طائشة من تلك "الكواد كابتر" المنتشرة حولنا في كل شبر من غزة أو تقذف نحوي قذيفة من الدبابة أو أن يباغتني صاروخ من الجو من تلك الطائرات الحربية التي تحوم فوقنا باستمرار بلا توقف.

هه! حقا ما هذا الهراء، لكي أأكل شيئا يجب أن أستمر بالدعاء لله أن أعيش لكي آكله! مضيت بالسير ويدي على قلبي بخوف حقيقي، إلا أن وقفت وكأن صعقة كهربائية سرت في جسدي، من ذهولي وتعجبي مما رأيت، رفعت رأسي عاليا والتقطت صورة لـ "برج الإذاعة والتلفزيون "، أن تقف على أطلال بناية مليئة بذكريات طفولتك الجميلة، نصفها قد دمر وتتأمل مدينتك الحبيبة -غزة- ستجد أن عينك لا إراديا تتفتح وتغلق من هول حزنها بصمت على ما ترى وصدمتها بالحبيبة بما كانت وبما صارت، تأخذ الروح تنهيدة مجوفة في الأعماق، لتخرج متقطعة بتنهيدات مصغرة على مراحل بألم قانط في النفس وحديث داخلي يقول: هل أعيش الآن في وطني؟ حقا.. هل هذا هو وطني؟ أو كأنني جننت حين شعرت بكوني إنسانة مغتربة عن وطنها بداخل وطنها! تساءلت: غزة الجميلة الصبورة، أين رحلت؟ كيف يشعر المرء فينا بالإغتراب عنها وهو فيها؟ أحسست أن الجميلة تخبرني أنها تفتقد أناسها الذين نزحوا عنها في الجنوب رغما عنهم، تفتقد معالمها، بنيانها، شوارعها، أطفالها، نساءها، شيوخها، ورجالها.

أتساءل هل بقي بنا عقل لاستيعاب ما يحصل بنا وحولنا وإن بقي عقلا بالأصل، هل يعدوننا أناسا طبيعيون بكامل قواهم العقلية؟

غزة.. غربة الروح، كلالة الجسد المتعب، حزينة بصمت موحش يطابق نفس كل من يتنفس فيها، لم نزرع يا الله في أرضها سوى الحب، فكيف حصدنا هذا الخراب كله؟

تنفست مرة أخرى بنشوة ذكريات حب وتطرق رأسي عاليا كما تحب هذه المدينة لسكانها أن يكونوا دوما

مرفوعين الرأس – ورددت كمن فاق من غيبوبته. "حنين أفيقي، هذا حقا هواء مدينتي الحبيبة غزة "، صاروخ من حولي قاطع وقفتي أمام البرج

ولم أجد نفسي بعد دقائق إلا هاربة نحو أمان الإنسان، حضن من يحب أمه، فيما بعد، لم أحزن لأنني لم أأكل الفلافل أو لأنني رأيت البرج هكذا، ما أحزنني حقا فيما بعد، تفكيري بمن هم مثلي في غزة، الذين قد نجوا بأُعجوبة حين باغتتهم الصواريخ ومضوا هاربين نحو الاحتماء بمن يحبون، لكن الحرب أفقدتهم من يحبون وخافوا كثيرا ولم يجدوا حضنا يخفف عنهم وطأة الخوف، وبقوا بدونِ أحباء، بدون حب، بدون حضن، وبدون حياة.

في كل أوقات الحرب الصدمات تتغلغل بك تباعا فوهة الموت صوبك في كل وقت، وكل مكان، وفي كل مرة أعمل على زيادة جرعة استمرارية الحياة، مجبرة نفسي على تنشيطها بكثافة، يصفعني خبر رحيل أحد من أحبتنا ومن جديد تتخير قواي، وترجع نفسي للحضيض من سوء الحال تحاصرني التعاسة، وتلف حول عنقي أسراب أوهام الموت، في كل مرة أعيش حدثا لموت أحدهم، أرتمي طريحة الفراش بصمت مخيف هول ما رأيت من أشلاءهم بعدما كانوا في نظري الأجمل، أي عذابٍ نفسي يمارسه علينا هؤلاء؟

أتساءل هل بقي بنا عقل لاستيعاب ما يحصل بنا وحولنا وإن بقي عقلا بالأصل، هل يعدوننا أناسا طبيعيون بكامل قواهم العقلية؟

  • لا!

نحن أرواح ماتت حقا في جسد خيل للناظرين عيشه، لا عقل لنا لا روح لنا لا قلب لنا لا فكر لا حياة، لا دموع حتى قد بقيت لنا.

ليلا أحدق بالسماء المليئة بالطائرات الحربية، وأتساءل مع نفسي: هل علي أجد النجدة، وأخرج من حفرة الحرب العميقة؟ التي لا أرى لها نهاية من ضبابيتها وسوداويتها، فكل ما أرجوه ألا يعتريني الخوف، في المكان الذي من المفترض، أن يشعرني بالأمان، أن ينتهي هذا القلق باكرا، أن تتوقف هذه المعارك والحروب والدماء المتناثرة، ألا تدعني الأيام في مواجهة حروب دائمة، فجل ما تتمناه شابة مثلي أن تحيا فقط!، وستبقى تنبذ الموت وفكرة أن تحيا بلا شعور، وستجاهد لأن تحصل على الحياة وستذكر نفسها دوما: حنين إن لم تحيك الحياة، خذي الحياة من الحياة عنوة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.