شعار قسم مدونات

العلمانية بين الأيديولوجيا والحيادية (1)

blogs العلمانية
العلمانية عند هوليوك هي الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية دون التصدي لقضية الإيمان (مواقع التواصل الاجتماعي)

مع أن عددا من المثقفين العرب والمسلمين لا يزال يصر على أن العلمانية مجرد أداة فنية وإجرائية وإدارية حيادية، وليست منظورا فكريا وأيديولوجيا؛ فإن عددا غير قليل من كبار المفكرين الغربيين والعرب يقر أن العلمانية تحمل أيديولوجيا، قل ذلك أو كثر، أو على حد تعبير المفكر اللبناني علي حرب أن " لا خطاب يبرأ في النهاية من الأيديولوجيا"(على حرب، نقد النص، ص 194).

وسنستعرض -بعون الله- في هذه السلسلة رؤية عدد من المفكرين والفلاسفة حول العلمانية بين الأيديولوجيا والحيادية، مع مناقشة ذلك، والتعليق عليه.

هوليوك زعم بأنه أتى بتعريف محايد للعلمانية، حيث لا علاقة له -عنده- بالإيمان أو الإلحاد، بعد أن عرف العلمانية بأنها الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان، من خلال الطرق المادية، دون التصدي لقضية الإيمان، سواء بالقبول أو الرفض

العلمانية بين هوليوك والمسيري وبشارة وضاهر

يعد الكاتب الإنجليزي جورج هوليوك (1817-1906م). أول من تبنى مصطلح العلمانية، وذلك في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، بمعناه السائد اليوم، وصار خطابا سياسيا وفلسفيا واجتماعيا. ومع أن هوليوك زعم بأنه أتى بتعريف محايد للعلمانية، حيث لا علاقة له -عنده- بالإيمان أو الإلحاد، بعد أن عرف العلمانية بأنها" الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان، من خلال الطرق المادية، دون التصدي لقضية الإيمان، سواء بالقبول أو الرفض" ( عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الكلية، ج1، ص54)؛ لكن يختلف معه في هذا الزعم بعض الفلاسفة والمشتغلين بالفكر العرب أمثال عبد الوهاب المسيري وعزمي بشارة وعادل ضاهر، مع اختلاف أيديولوجيات هؤلاء كذلك.

وبرغم كون المسيري -مثلا- أضحى فيلسوفا مسلما ملتزما، مع كونه يقبل -بما لا يخلو من الاضطراب والتلفيق- بما يسميه العلمانية الجزئية، وهي عنده  تلك التي تقتصر على الفصل بين الدين والدولة، ويفترض فيها- وفق المسيري- أن لا تحمل بالضرورة عداء للدين، ومع ذلك فإنه يرى أن هذا التعريف لهوليوك مشكل وغير حيادي إذ "الحديث عن إصلاح حال الإنسان ليس حديثا بريئا، كما قد يبدو لأول وهلة، فهو يفترض وجود نموذج متكامل، ورؤية شاملة، ومنظومة معرفية قيمية يمكن إصلاح حال الإنسان وفقها". (المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الكلية،ج1، ص54)

وبعد إيراد المسيري لجوهر مفهومي العلمانية الجزئية والشاملة؛ نراه ينتقد بشدة من يحسب العلمانية مجرد إجراء إداري أو أداة فنية، مغفلا تلك الأطر المرجعية، لذلك يستهجن المسيري من يظن أن تبنيه حتى لما يسمى العلمانية الجزئية، بمعنى فصل الدين عن الدولة، يعفيه من الحمولة الأيديولوجية، أي المرجعية الكلية والنهائية للعلمانية إذ يقول:" ومع هذا حصر البعض نطاق العلمانية في هذه الدائرة الضيقة، دائرة فصل الدين عن الدولة وحسب، واستبعدوا الدائرة المعرفية المرجعية الأشمل. وتعريف العلمانية على هذا النحو يتجاهل قضية المرجعية والنموذج الكامن وراء المصطلح، إذ لابد أن نسأل عن الإطار المعرفي الكلي والنهائي الذي تتم في إطاره عملية الفصل. وقد أدّى هذا إلى خلل كبير، إذ إن مصطلح " علمانية" عزل عن أية مرجعية نهائية، وأصبح يشير إلى مجموعة من الإجراءات، وكأن الأمر حسم بهذه الطريقة، مع أن هذه الإجراءات يختلف مدلولها باختلاف مرجعيتها، ولا يتحدد معنى المصطلح إلا بالعودة لها.

وقد أصبح هناك من يستخدم مصطلح "علمانية"، مشيرا إلى فصل الدين عن الدولة في إطار غير مادي، وهناك من يستخدمها للإشارة إلى عملية الفصل باعتبارها تجليا لمنظومة مادية نسبية، وكلاهما يستخدم الكلمة نفسها وكأنها تعني الشيء نفسه. والأسوأ من هذا أن هناك من يبدأ متصورا أو "زاعما" أنه يتحرك داخل الدائرة الصغيرة الجزئية، وأنه لا شأن له بقضية المرجعية، وينتهي به الأمر إلى الدائرة الأشمل، حيث يتصدى للأمور الكلية والنهائية المرجعية".

العلمانية حتى بمفهومها الجزئي وفق مصطلح المسيري؛ لا تعني عدم وجود هوية للدولة، تحددها مرجعيتها، إذ أن العلمانية ليست مجرد أداة فنية أو إجراء إداري ترتيبي محايد، غير مرتبطة بالهوية الكلية للمجتمع، والمرجعية والدلالة والواقع والمآل، كما يريد أن يقنعنا هوليوك

ثم نرى المسيري في موضع تال يؤكد بصراحة أكثر فكرته تلك بقوله: "كثير من الأفكار التي تبدو محايدة، بريئة تماما، لا علاقة لها بأية أيديولوجية، تضمر في الواقع الرؤية العلمانية، ففكرة الإنسان الطبيعي، والعودة إلى بساطة الطبيعة (التي عادة ما يتم الخلط بينها وبين مفهوم الفطرة)، والقول بوَحْدة العلوم، وتبني النماذج الموضوعية أو العقلية أو المادية( التي عادة ما يتم الخلط بينها وبين العقل ذي المرجعية الدينية)، وفكرة نهاية التاريخ، والمنظومات الحلولية، وخطاب التمركز حول الأنثى، هي في تصوري الأساس الصلب للرؤية العلمانية الشاملة (ومن أهم تجلياتها في الوقت نفسه). ومع هذا فإن كثيرين ممن روج لهذه الأفكار ولغيرها لم يدركوا النماذج الكامنة وراءها".

أي أن العلمانية حتى بمفهومها الجزئي -وليس الكلي فحسب وفق مصطلحي المسيري-؛ لا تعني عدم وجود هوية للدولة، تحددها مرجعيتها، إذ إن العلمانية ليست مجرد أداة فنية أو إجراء إداري ترتيبي محايد، غير مرتبطة بالهوية الكلية للمجتمع، والمرجعية والدلالة والواقع والمآل، كما يريد أن يقنعنا هوليوك، وكما يردد بعضهم اليوم، من غير تمحيص.

أما عزمي بشارة فيرى أنه إذا كان ثمة من ينازع في حقيقة أول من استعمل مصطلح العلمانية كتعبير عن موقف أيديولوجي على وجه الدقة فإن من المؤكد أن جورج هوليوك أكثر من استخدم اللفظ بشقيه (السيكيولارزم والسيكيولار)، وذلك في سنة 1851م، للدلالة على علمانية وعلماني كمفهوم للدلالة على توجه فكري معين، كما نستخدمه اليوم. ومع أن هوليوك لم يكن مؤمنا؛ لكنه كان يعتقد أن الإلحاد موقف لا يرتبط بتنظيم المجتمع وعملية المعرفة، ولهذا كان يصنف على من كانوا يدعون بفئة " المثقفين الأحرار"، كتعبير عن تحررهم من قيود الخطاب الديني ومسلماته (راجع: عزمي بشارة، الدين والعلمانية، مرجع سابق، (الجزء الثاني/المجلد الأول)، ص 72-73، وانظر ص 97).

ذكر ضاهر أنه قد يوجد بين العلمانيين من لا يختلف مع الدين والمتدينين في القول بحرمة الخمر، لكن الفارق الجوهري بينهما أن مرجعية العلماني هنا لا علاقة لها بالدين من أي وجه، بل المرجعية النهائية هنا في التحريم للعقل وحده وليس الدين

ويذهب بشارة إلى أن إعجاب هوليوك بـ" أوجست كونت" مؤسس الفلسفة الوضعية؛ دفع هوليوك ليستخدم مصطلح اللا أدرية، للتعبير عن العلمانية، وأمّا الزمن الذي جرى فيه التعبير أيديولوجيا عن مواقف علمانية؛ فقد كان منتصف القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين الميلادي، ضمن نشاط الجمعيات المختلفة الهادفة إلى التنوير ومحاربة الجهل والخرافة (بشارة، الدين والعلمانية، مرجع سابق، (الجزء الثاني/المجلد الأول)، ص 73).

وأما عادل ضاهر فيعد من أكبر الأصوات الأكاديمية والفكرية العلمانية (الكلية) في لبنان والمنطقة العربية، مجاهرة منذ وقت مبكر بحتمية الحل العلماني الذي لا يلتقي مع الدين بوجه من الوجوه؛ ويقرر منذ الصفحات الأولى في كتابه "الأسس الفلسفية للعلمانية" الصادر في طبعته الثانية سنة 1988م أن العلمانية" موقف شامل ومتماسك من طبيعة العقل، وطبيعة الدين، وطبيعة القيم، وطبيعة السياسة" (عادل ضاهر، الأسس الفلسفية للعلمانية، ص 6). وأكد على ذلك بقوله:" من الأمور التي ينبغي ألا يحصل أي التباس حولها، أننا لا نحاول في هذا الكتاب التوفيق بين الدين والعلمانية". (ضاهر، الأسس الفلسفية للعلمانية، ص 6)

وفي سياق مناقشة مرجعية حق التحريم لتشريع أمر ما كالخمر- مثلا – ذكر ضاهر أنه قد يوجد بين العلمانيين من لا يختلف مع الدين والمتدينين في القول بحرمة الخمر، لكن الفارق الجوهري بينهما أن مرجعية العلماني هنا لا علاقة لها بالدين من أي وجه، بل المرجعية النهائية هنا في التحريم للعقل وحده وليس الدين، أي أنه لا سلطان على العقل إلا العقل، إذ لا إله ولا دين ولا رسول يمتلك حق فرض ذلك التشريع، ولذلك قال في سياق مناقشته مثال تحريم الخمر هذا:" إن المعيار لما إذا كان شخص علمانيا أم لا علمانيا، في هذه الحالة، هو ما إذا كان يتخذ من الاعتبارات العقلية، من خلقية وغير خلقية، أساسا أخيرا لهذا التحريم، أم أنه يتخذ من الاعتبارات الدينية أساسا أخيرا له" (ضاهر، الأسس الفلسفية، ص 60).

وسنعود -بعون الله- إلى الدكتور عزمي بشارة في الجزء الثاني لنستكمل وجهته المصرّحة بكون العلمانية أيديولوجيا وضعية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.