شعار قسم مدونات

الدولة المستحيلة

مساحة دولة فلسطين تراجعت من وثيقة الاستقلال إلى اتفاق أوسلو ثم المفاوضات مع إسرائيل لاحقا (الجزيرة)

عند قراءة عنوان المقالة، قد يذهب تفكير بعض الذين يقرؤونها أنها تتناول موضوع كتاب البروفيسور وائل حلاق صاحب كتاب "الدولة المستحيلة" الذي يناقش  قضية الإسلام  والحداثة؛ ولكن موضوعنا، هنا، ليس لمناقشة هذه المسألة، رغم أهميتها، إنما لمناقشة موضوع الساعة الذي يتصدر النقاشات السياسية والإعلامية وهو قيام دولة فلسطينية بجانب إسرائيل أو ما يعرف، في الأديبات السياسية، بحل الدولتين، وهي قضية شغلت بال الكثيرين من النخب السياسية والثقافية، ولعقود طويلة من الزمن، من دون أن تتحقق؛ لا بل كانت تقبع في غياهب  النسيان لولا شلال الدم الذي أجبر الغرب على فتح الملف مجددا وبجدية على ما يبدو، انطلاقا من أن هذا الطرح هو أفضل الحلول وأكثرها منطقية؛ حيث يتم تداوله في أروقة السياسة العالمية.

بدأ الرأي العام العالمي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية بنفض الغبار عن هذا الملف والتسويق له، رغم معارضة إسرائيلية غير مسبوقة تعبر عن ندمهم على  اتفاقية أوسلو، رغم أنها كانت، في السابق، كاذبة ولكنها اليوم تبدو صادقة في طرحها لاعتبارات عديدة تبقى ضمن الرؤية الأميركية والإسرائيلية الخاصة بطبيعة هذه الدولة وشكلها، فالكثير من الدول الغربية أصبح مقتنعا بضرورة هذا الحل؛ وكانت إسبانيا، على سبيل المثال، من أكثر الدول حماسة ومجاهرة بهذا الطرح الذي أثار انزعاج الجانب الإسرائيلي، حتى ألمانيا الداعم الأكبر لإسرائيل والأكثر تطرفا وتحيزا لأسباب متعلقة بعقدة الذنب في قضية الهولوكوست أصبحت هي أيضا مقتنعة بضرورة هذا الطرح.

السؤال الذي نطرحه من خارج الإطار التنظيري الذي تؤطره عواصم القرار والمثقفون وكل من يطرح تلك النظرية، هل هناك حلول للعنف القائم في الأرض المقدسة فلسطين؟

في الظاهر، هي خطوة متقدمة من قبل الغرب الذي يراوغ  في تنفيذ هذه الفكرة، منذ  اتفاقية أوسلو التي نصت على قيام دولة فلسطين إلى جانب دولة إسرائيل، رغم أن الأيام أثبتت، على لسان الزعيم الراحل الفلسطيني ياسر عرفات، أن أوسلو كانت غلطة لا بل خطيئة تاريخية تم ارتكابها ولن تمحى من صفحات التاريخ ولا من الذاكرة السياسية إلا في حال إعلان المقاومة تحرير كامل الأرض والتاريخ من براثن الصهاينة الذين لن يقبلوا بفلسطين الحالية إنما بفلسطين التاريخية كبداية أولى، وصولً إلى وجودهم التاريخي مثل العراق وسوريا والمملكة  العربية السعودية "المدينة ومكة" ومصر، فهذه دولتهم المزعومة وما منطق التطبيع إلا  لتخدير الشعوب بعد أن تم تدجين السلطات السياسية لصالح مصالحهم.

بادرت الأقلام والمثقفون الذين يسبحون في فلك النخب السياسية العربية بالترويج للدولة الفلسطينية ولمرحلة ما بعد الحرب في غزة، في تطابق مع الرؤية الأميركية التي أصبحت مقتنعة بضرورة وجود هذه الدولة ليس حبا بالفلسطينيين وإعطائهم حقوقهم في إنشاء دولتهم الخاصة، إنما لأسباب أخرى متعلقة بمصالحهم العليا؛ فهم أصبحوا يبحثون عن حلول دائمة ومستدامة من أجل استقرار الشرق الأوسط والتفرغ للملف الصيني والخوف من صعود التنين، وهذا يتطلب منهم مجهودا كبيرا وتفرغا شبه كلي، خصوصا إذا ما  اعتبر الأميركيون أن  إسرائيل  أصبحت دولة غير منضبطة وتتسبب بأذى كبير للمصالح والسمعة الأميركية بشكل لافت، ليس لأنه قتل ودمر، وهذا ضمن الأدبيات والمنطق الغربي والشواهد التاريخية كثيرة وعديدة، إنما لأن الرأي العام العالمي.

على المستوى الشعبي، بدأ يتبلور ويتغير وأصبح طامحا إلى معرفة الحقيقة والبحث عنها، فلقد ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي غير المقيدة بالإعلام التقليدي الخاضع كليا للقوى السلطوية في توصيل الوجه الحقيقي لطبيعة الصراع،  وفي تعرية القيم والأخلاق الغربية التي كانت تتغنى بالديمقراطية وبحقوق الشعوب وبالرأي الحر والليبرالية وبأعمدتها  المتعددة؛ مثل الفردانية والحرية والفردية وغيرها، فضلا عن إلحاقها الكثير من الأذى بسمعة حلفائها في المنطقة وعلى وجه الخصوص الأنظمة العربية التي تسير في قطار التطبيع.

السؤال الذي نطرحه من خارج الإطار التنظيري الذي تؤطره عواصم القرار والمثقفون وكل من يطرح تلك النظرية، هل هناك حلول للعنف القائم في الأرض المقدسة فلسطين؟

إن طبيعة السؤال قبل الخوض في الإجابة خاطئة  ولا يمكن طرحه بهذا الأسلوب، ولقد تعمدت طرحه بهذه الطريقة  كي أقول للقارئ إن الغرب استطاع  أن يزرع في النظام المعرفي العربي، على وجه التحديد، أن ما يحصل هناك هو عنف وليس مقاومة ضد محتل، فالعنف، في العادة، يكون بين قوى محلية، أما المقاومة فهي ظاهرة حتمية تنطلق وتتفاعل مع مجيء محتل من خارج الأرض الجغرافية والمكونات الثقافية والدينية،  وهذه هي الحال في فلسطين، لقد أوهمتنا تلك الأقلام الموجهة أن ما يجري في  فلسطين هو صراع؛ ولكنه، في الواقع، حرب تاريخية وحتمية ولا خلاص منها إلا بخروج المحتل.

إن التاريخ ظاهرة أساسية في فهم الواقع واتخاذ القرارات الجيوبوليتيكية المناسبة، فلا يمكن أن يتم اتخاذ أي قرار إلا من خلال البحث في السياق التاريخي

خيار الدولة الواحدة

بعد أن صححنا صيغة طرح السؤال، ننتقل إلى الإجابة عن السؤال، هل الحل يكمن في إقامة دولة واحدة أو دولتين؟

الخيار الأول هو خيار طوباي يشبه المدينة الفاضلة التي نظر إليها أفلاطون وكتب فيها الفارابي وغيرهما، ولا يمكن أن تتحقق لأن الحرب الأهلية حتمية ولا يمكن الدمج الاجتماعي والانصهار فيها، ولا بشكل من الأشكال، وسوف تتحول البلاد إلى كانتونات منعزلة بشكل تلقائي ودويلات ضمن الدولة تتنازع اجتماعيا واقتصاديا، إضافة إلى أمر مهم جدا، ففي فلسطين اليوم ليس هناك يهود متطرفون وغير متطرفين، إنما هناك يهود يكرهون العرب اليساري منهم أو اليميني على حد سواء، فمصطلح متطرف صنعته النخب السياسية كي تبرئ  السلطات السياسية نفسها عندما يتصاعد صوت الرأي العام تجاه جرم معين قامت به إسرائيل ولم يعجب دوائر القرار العالمية، وهذا أيضا يعطي الصورة الديمقراطية عن إسرائيل وعن مبدأ تداول السلطة وأنها واحة للديمقراطية.

مع أن الديمقراطية التي تنتج سلطة فلسطينية وإسلامية على وجه التحديد، لا تقبل بها إسرائيل ولا بهذا النموذج من السلطة، لذلك، فإن شكل السلطة السياسية والتداخل الاجتماعي لهذه الدولة الواحدة تسيطر عليها تناقضات جوهرية تمس جوهر الدولة والبنية التحتية السياسية والاجتماعية فتولد صراع هوياتٍ متفجرا غير قابل للاحتواء.

خيار الدولتين

أما حل الدولتين، فهو الخيار الأكثر شيوعا وتداولا في عواصم صناع القرار، والآليات المطروحة كثيرة لقيام هذه الدولة على حدود الدولة الإسرائيلية؛ حيث  بدأت الإدارة الأميركية بطرح خطة إعادة إحياء منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية وإيقاظها من نومها السريري  وتدجينها وتحويلها  إلى شرطة أمن لحماية المصالح الإسرائيلية بعد أن كانت عصب المقاومة الفلسطينية التي جمعت الشتات الفلسطيني تحت مسمى الشعب الفلسطيني، ولكن الأيام أثبتت أن كل حركات الثورة والمقاومة تموت ويتم تدجينها عندما تتحول إلى حالة سلطوية.

إن التاريخ ظاهرة أساسية في فهم الواقع واتخاذ القرارات الجيوبوليتيكية المناسبة، فلا يمكن أن يتم اتخاذ أي قرار إلا من خلال البحث في السياق التاريخي، وبالعودة إلى السياق التاريخي وفيما يعود إلى الوعود الغربية تجاه قيام الدول فلقد منينا نحن العرب بالخيبة وعلى رأسها تجربة الدولة العربية الكبرى التي وعد بها الإنكليز الشريف حسين من خلال رسائل الحسين مكمهون.

كانت تحتوي هذه الرسائل على وعودٍ إنكليزية للعرب لإقامة دولة عربية مستقلة بديلة من السلطنة العثمانية، وفي الوقت نفسه كانت قد أبرمت اتفاقيتين "وعد بلفوروسايكس بيكو"، فلقد تم تقسيم الدول العربية بحسب الرؤية الغربية ضاربة بعرض الحائط الوعد المقطوع للشريف حسين، وما أشبه التاريخ بواقعنا اليوم؛ حيث أقرت اتفاقية أوسلو، منذ ثلاثين سنة، واعترفت بدولة فلسطين ولكن هذه الدولة لم تولد وبقيت حبرا على ورق.

إن الدولة المطلوبة تخالف كل المعايير المبدئية للدولة من الناحية الفلسفية والتقنية على حد سواء، من الناحية الفلسفية أي تحديدا مفهوم الديمقراطية، فإن استطلاعات الرأي بشكل مبدئي تشير إلى أن شعبية فصائل المقاومة ازدادت بشكل غير مسبوق، فلقد تحولت من ضمن البيئة الفلسطينية داخل فلسطين إلى خارجها كالطوفان الجارف، أما بالنسبة إلى السلطة الفلسطينية فلقد دخلت في أزمة حقيقية، وخسرت شعبيتها بشكل كبير.

فالمحاولات الأميركية بإعادة إحياء السلطة الفلسطينية تعني قتل أي نوع من الديمقراطية خصوصا أن هذه الديمقراطية سوف تعطي فصائل المقاومة المشروعية والشرعية في تشكيل سلطة جديدة للدولة الجديدة، وهذا يعني أن الدولة الجديدة كيان مقاوم جديد للكيان الصهيوني وهذا ما لن ترضى به القوى الغربية والعربية والإسرائيلية، فالجميع متفقون على أنه لا يمكن السماح للمقاومة أن تتولى زمام السلطة في حال إنشاء دولة فلسطينية.

في ذاكرتنا الإنسانية والسياسية بوجه خاص، الكثير من الشواهد التاريخية التي تعيد لنا شواهد مليئة بالخيبات والتجارب السيئة مع الوعود الكاذبة، فمتى تدرك النخب العربية أن إقامة الدولتين هو تحقيق المستحيل الذي لا يمكن أن يتحقق؟

وماذا عن السيادة؟ هي من أهم القضايا التي تمس جوهر الدولة التي طرحها جان بودان الفقيه والفيلسوف السياسي الفرنسي، فالطرح ينص على تشكيل دولة غير مسلحة على حدود دولة، تمتلك كل أنواع الأسلحة المتطورة والإستراتيجية وهي الدولة الوحيدة التي تمتلك السلاح النووي، وهذا يعني أن هذه الدولة كبيت مشرع الأبواب والنوافذ مستباح للجار المدجج بالسلاح أن يدخل ويعيث فسادا.

فكلما اعتبرت إسرائيل أن أمنها مهدد بحجج غير منطقية فلسوف ترسل طائراتها ودباباتها للقتل والدمار؛ والدولة الفلسطينية الجديدة عاجزة عن الرد لا بل ممنوعة من حق الدفاع عن النفس. هذه هي الصورة والنموذج الواضح عن شكل الدولة التي تسعى لها الولايات المتحدة الأميركية لطرحها، فهي دولة فاشلة وديكتاتورية غير قادرة على إنتاج سلطة منتخبة تتمتع بالمشروعية والشرعية الشعبية كما يجب، وغير قادرة على الحفاظ على سيادتها في المجالات كافة، فهي دولة ميتة قبل أن تولد.

في ذاكرتنا الإنسانية والسياسية بوجه خاص، الكثير من الشواهد التاريخية التي تعيد لنا شواهد مليئة بالخيبات والتجارب السيئة مع الوعود الكاذبة، فمتى تدرك النخب العربية أن إقامة الدولتين هو تحقيق المستحيل الذي لا يمكن أن يتحقق؟ قد يتساءل البعض ما هي إذا الحلول لهذه المشكلة الكبيرة والمعقدة؟ الخيار الوحيد لهذه المشكلة هو مقاومة هذا الكيان حتى زواله وعودة رعاياه إلى بلادهم الأصلية؛ مثل ألمانيا وبريطانيا وهنغاريا وغيرها من الدول، فكل الحلول السياسية المطروحة غير قابلة للتطبيق والتحقيق والتنفيذ وسوف يبقى الشرق مشتعلا حتى انتهاء ذلك الكيان المصطنع ذي  الهويات المتناقضة، فالحل يكمن في العودتين وليس في الدولتين مع السماح لجميع  الملل بزيارة الأراضي المقدسة وممارسة طقوسهم الدينية وحفظ هذا الحق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.