شعار قسم مدونات

يوميات مراسل حرب في البلقان.. تغطية حرب صربيا – كرواتيا (2)

الجسر القديم فوق نهر نيريتفا في موستار بالبوسنة والهرسك يعود تاريخه للقرن 16 ودمر خلال الحرب عام 1993 وأعيد بناؤه عام 2004 (غيتي)

أن تعلم الآخرين، فإنك بذلك تقوم بتكليف إلهي، فالتعليم يقوم على الإبلاغ بالحقيقة قدر ما تحريتها – وتحراها من سبقوك – بإنصاف وصدق. ولعل ذلك هو ما جعل الصحافة حلما منذ الصغر، كما جعل صحافة الحرب هي قمة الأحلام الصحفية. وصحافة الحرب تتطلب- ضمن ما تتطلب- وجود الصحفي في قلبها، وهو ما يجعلها من أصعب ألوان العمل الصحفي على الإطلاق.

وبالرغم من أن البداية الباكرة في منتصف ثمانينيات القرن العشرين تمثلت في الصحافة السياسية، إلا إنه لم يخطر على بالي أن تتحقق أمنيتي بممارسة صحافة الحرب عن طريق الصدفة في ربيع العام 1991 وأن تمتد منذ ذلك الحين – ومن دون توقف تقريبا – حتى العام 2010.

يقولون في الأمثال "رب صدفة خير من ألف ميعاد". إلا أن هذا القول المأثور لا ينطبق على إطلاقه ولا طوال الوقت على العمل الصحفي. فقد كانت بداية علاقتي بمنطقة البلقان، ويوجوسلافيا في القلب منها، اهتمام باكر في فترة الصبا بموضوع ظواهر ما وراء الطبيعة.

لم يقف الاهتمام عند حد القراءات الخفيفة لمجرد التسلية، وإنما تخطي ذلك إلى ما يقرب إلى الدراسة والبحث. وحيث إن الباحثين الجادين في هذا المجال في كثير من الأحيان يكونون على تواصل مع بعضهم البعض، ولكوني صحفيا مهتما بهذا الشأن، تلقيت دعوة في منتصف العام 1990 لحضور المؤتمر الرابع للمجلس العالمي لدراسات ظواهر ما وراء الطبيعة. وجهت الدعوة لي للحضور بصفتي مهتم وباحث، ولكن السبب الأهم من وراء الدعوة كوني صحفيا لتغطية أعمال المؤتمر.

على مدار ما يقرب من أربع ساعات هي زمن الرحلة بالطائرة من القاهرة إلى بلغراد عصفت برأسي العديد من الأفكار، وأهمها ما يمكن أن يحدث في حال اندلاع الحرب. قبيل هبوط الطائرة كنت قد اتخذت القرار بألا أضيع الفرصة، وبدء أولي خطواتي في عالم صحافة الحرب.

المؤتمر كان مقررا أن يعقد في جزيرة بريونى الساحرة التي تسبح في مياه بحر الأدرياتيك والتي تتبع جمهورية كرواتيا.

كان من الصعب اقناع إدارة التحرير في صحيفة الأهرام بالموافقة على منحي إجازة لحضور المؤتمر وكانت الحجة أن القضايا التي ستبحث فيه ليست من بين اهتمامات إدارة التحرير.

ولهذا السبب، كان على أن أبحث عن صيغة مناسبة تلبي احتياجات واهتمامات إدارة التحرير كي يسمحوا لي بالسفر لحضور المؤتمر، فكان مقترحي: أن أبكر في السفر وبدلا من الذهاب إلى بريونى مباشرة أن أذهب إلى بلجراد العاصمة الاتحادية ليوجوسلافيا لتغطية ما بدا أزمة سياسية حادة تهدد سلامة جسد الاتحاد.

والاتحاد اليوغوسلافي في ذلك الوقت كان مكونا من ست جمهوريات هي: صربيا- كرواتيا-سلوفينيا-البوسنة – مقدونيا- الجبل الأسود. بالإضافة إلى هذه الجمهوريات الست ضم الاتحاد إقليمي حكم ذاتي هما: فايفودينا والسنجق.

وبالرغم من نذر الحرب التي كانت تلوح في سماء يوغوسلافيا بصفة خاصة، وعلى منطقة البلقان – وهي المنطقة التي تبدأ من حدود يوغوسلافيا مع كل من المجر والنمسا، وتمتد شرقا وجنوبا لتشمل كل من ألبانيا واليونان – بصفة عامة، إلا إنني صممت على حضور المؤتمر الذي أعتذر عن حضوره عدد كبير من المدعوين تحسبا لانفجار المنطقة.

على مدار ما يقرب من أربع ساعات هي زمن الرحلة بالطائرة من القاهرة إلى بلغراد عصفت برأسي العديد من الأفكار، وأهمها ما يمكن أن يحدث في حال اندلاع الحرب. قبيل هبوط الطائرة كنت قد اتخذت القرار بألا أضيع الفرصة، وبدء أولي خطواتي في عالم صحافة الحرب.

ما خططت له أوروبا الغربية من إنهاء وجود يوغوسلافيا بشكلها السياسي- الجغرافي الذي بدأ منذ نهاية الحرب العالمية الأولى واكتمال شكلها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حرمني من البدء في ممارسة صحافة الحرب التي حلمت بها.

السياسة والطريق المسدود

في اليوم التالي لوصولي بلغراد، بدأت اتصالات مع عدد من كبار المسئولين لتغطية الأزمة السياسية المستحكمة. إلا أن ما حدث من تداع سريع للأحداث أثبت لي صحة مقولة الأديب الكبير باولو كويلو: "عندما تريد شيئا بحق، فإن الكون بأسره يتآمر على حدوثه".

ففي غضون أربعة أيام من وصولي، وصلت السياسة إلى طريق مسدود بين جمهورية سلوفينيا من جانب وبين كل من الحكومة الاتحادية وحكومة جمهورية صربيا، وهي أكبر الجمهوريات المكونة للاتحاد من جانب آخر.

ففي حين أعلنت جمهورية سلوفينيا عزمها على الانفصال عن الاتحاد وإعلان الاستقلال اعتبارا الأول من شهر يونيو من العام 1991، أصرت كل من الحكومة الاتحادية وحكومة جمهورية صربيا على عدم دستورية هذا الانفصال.

وبوصول الجانبان إلى طريق مسدود سياسيا، تحركت قوات ضخمة من الجيش اليوغوسلافي الاتحادي – ومعظمها من الصرب – للسيطرة على الحدود الدولية الفاصلة بين سلوفينيا وبين كل من النمسا والمجر، وما عنا ذلك من سيطرة الجيش على السلطة السياسية في الجمهورية الراغبة في الانفصال.

إلا أن ما خططت له أوروبا الغربية من إنهاء وجود يوغوسلافيا بشكلها السياسي- الجغرافي الذي بدأ منذ نهاية الحرب العالمية الأولى واكتمال شكلها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حرمني من البدء في ممارسة صحافة الحرب التي حلمت بها.

فسلوفينيا هي أقرب الجمهوريات اليوغوسلافية إلى قلب أوروبا الغربية جغرافيا وثقافيا واقتصاديا واجتماعيا ومذهبيا، وبالتالي لم تكن أوروبا لتسمح للصرب بانتهاك كل تلك "المحرمات".

في أعقاب التدخل الأوروبي لضمان استقلال سلوفينيا ومنع صربيا من شن الحرب ضدها، تواصلت إدارة التحرير في صحيفة الأهرام معي طالبة مني العودة إلى القاهرة باعتبار أن الأزمة قد انتهت، ومن إنه لم يعد في ظل تلك الظروف معني لحضور مؤتمر ظواهر ما وراء الطبيعة.

وبناء على ذلك، فإن المجموعة الأوروبية – لم تكن قد تحولت بعد لاتحاد أوروبي – عقدت قمة طارئة بعد يومين فقط من تحرك القوات الاتحادية ووجهت إنذارا للقيادة اليوغوسلافية بضرورة سحب هذه القوات، وإلا فإن المجموعة ستقرر الرد المناسب على هذه الخطوة.

وقد تعمدت المجموعة الأوروبية أن يكون الإنذار مفتوحا يتسع لجميع الإجراءات، بما في ذلك العسكرية منها. وعلى الفور بدأت قوات الجيش اليوغوسلافي في الانسحاب مفسحة الطريق لاستقلال سلوفينيا.

إلا أن المتابع لشئون البلقان – ويوغوسلافيا في القلب منه- في ذلك الوقت كان سيدرك أن تلك الأزمة لم تكن نهاية المطاف. فقد حل الدور على جمهورية كرواتيا التي تبعت سلوفينيا الواقعة إلى شمالها في إعلان استقلالها عن الاتحاد اليوغوسلافي.

في أعقاب التدخل الأوروبي لضمان استقلال سلوفينيا ومنع صربيا من شن الحرب ضدها، تواصلت إدارة التحرير في صحيفة الأهرام معي طالبة مني العودة إلى القاهرة باعتبار أن الأزمة قد انتهت، ومن إنه لم يعد في ظل تلك الظروف معني لحضور مؤتمر ظواهر ما وراء الطبيعة.

وبالرغم من أن إدارة التحرير لم تقتنع بالحجج التي سقتها لضرورة البقاء عدة أيام لاستشعاري انفجارا وشيكا للأوضاع مع كرواتيا، إلا إن إلحاحي دفعهم للموافقة في النهاية.

في غضون أيام قليلة، صدق حدسي. فالمحرمات الجغرافية والتاريخية والسياسية التي أحاطت بكرواتيا، كانت أقل بكثير من تلك التي أحاطت بسلوفينيا، والتي حدت بالمجموعة الأوروبية التدخل لمنع الاعتداء عليها.

فالقوى الغربية الكبرى – بريطانيا وفرنسا – لم تنس لكرواتيا أنها ساندت ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية، حتى من قبل تدخل الزعيم النازي هتلر عسكريا في يوغوسلافيا.

فعقب بدء ألمانيا هجومها على تشيكوسلوفاكيا في افتتاحية الحرب العالمية الثانية في العام 1939 أعلنت كرواتيا وقوفها بجانب ألمانيا، بل وتم تشكيل حكومة نازية كرواتية ظلت مسيطرة على الحكم حتى سقط النظام النازي بهزيمة ألمانيا في الحرب.

في الوقت ذاته، فإن السماح لصربيا المسيطرة على الاتحاد اليوغوسلافي بشن حرب ضد كرواتيا كان يمثل مبررا قويا لأوروبا الغربية لتفكيك يوغوسلافيا – أحد موروثات الحربين العالميتين الأولي والثانية – وإعادة تشكيل أوروبا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.

كان هذا الظرف الدولي – الذي استشعرته في ذلك الوقت – هو الذي أتاح لي الفرصة في بدء عملي كمراسل حرب.

بمجرد بدء العمليات القتالية التي تركزت في إقليم سلافونيا الواقع شرقي جمهورية كرواتيا، سعيت مرارا للذهاب إلى ذلك القطاع من الجبهة وكان هو الأهم والأعنف من حيث ضراوة القتال، إلا أن السلطات "الاتحادية" الصربية قابلت تلك المساع بالرفض القاطع.

كان الرد على الطلبات المتكررة بأن المتاح هو متابعة العمليات العسكرية من خلال مركز صحفي تابع لوزارة الإعلام اليوغوسلافية في العاصمة بلغراد، وهو الأمر الذي لا يعدو أن يكون عملية تضليل إعلامي ممنهجة، ناهيك عن محاولة التغطية عن انتهاكات واسعة النطاق ضد المدنيين الكروات.

الانتقال من صربيا إلى كرواتيا في ذلك الوقت لم يكن متاحا، حيث توقفت حركة الطيران وتم تفجير الطرق البرية، ناهيك عن قطع خطوط السكك الحديدية. كانت الخطوط الوحيدة التي لم تقطع بعد هي خطوط الهاتف الأرضي، فلم تكن الهواتف النقالة قد استحدثت بعد.

 

وعلى الرغم من الضغوط التي مارسها علي السفير المصري لدي يوغوسلافيا في ذلك الوقت الدبلوماسي المخضرم حسين حسونة – سليل عائلة الدبلوماسيين ونجل الدبلوماسي القدير عبد الخالق باشا حسونة – بالتنسيق مع الملحق الصحفي المصري للبقاء في بلجراد وعدم الذهاب إلى مناطق القتال، إلا إنني بيت النية على الذهاب.

المشكلة أن الانتقال من صربيا إلى كرواتيا لم يكن متاحا، حيث توقفت حركة الطيران وتم تفجير الطرق البرية، ناهيك عن قطع خطوط السكك الحديدية. كانت الخطوط الوحيدة التي لم تقطع بعد هي خطوط الهاتف الأرضي، فلم تكن الهواتف النقالة قد استحدثت بعد.

وحيث إنني توقعت أن يتم قطع خطوط الهاتف سريعا، فقد بادرت بالتواصل مع دوبرافكا مومتشيلوفيتش المنسق العام لمؤتمر ظواهر ما وراء الطبيعة الذي كان قد ألغي بسبب الحرب.

كانت الأنسة مومتشيلوفيتش هي التي بادرت بالتواصل معي في صحيفة الأهرام قبل رحلتي إلى يوغوسلافيا بستة أشهر لتوجيه الدعوة لحضور المؤتمر، وذلك قبل أن تعدد الاتصالات للترتيب للتغطية الإعلامية. كانت دوبرافكا متحمسة لانتقالي من صربيا إلى كرواتيا للكشف عن حجم الانتهاكات البشعة التي ترتكب ضد المدنيين الكروات.

في هذه الأيام لم أطلع السفير حسونة بمحاولاتي التسلل من صربيا إلى كرواتيا حتى لا يزيد من ضغطه، ناهيك عن اتخاذ أي إجراء يعرقل خططي.

بعد يومين من تواصلي مع الصديقة الكرواتية، أبلغتني بالخطة التي تمثلت في التواصل مع شاب في بلغراد اسمه ميشا وهو صربي كرواتي، ومن أن هذا الشاب سيدبر سيارة وسائق لإيصالي إلى جمهورية كرواتيا عبر مناطق أحراش غير مطروقة تصل إلى جانب من حدود الجمهوريتين لا يغطيها حرس الحدود، وذلك نظير مبلغ من المال.

كانت الخطة تقضي أن أوقف أي سيارة على الطريق الرئيسي بمجرد عبور الحدود، وأن أطلب من سائقها أن يقلني إلى مدينة بيلوفار أحد المدن الرئيسية في إقليم سلافونيا الشرقية التي تشهد أعنف قتال، حيث تعيش دوبرافكا وعائلتها.

وفى غضون 24 ساعة من إبلاغ دوبرافكا لي بخطة الهروب ، كنت أجلس بجوار سائق صربي في الطريق إلى كرواتيا.

 

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.