شعار قسم مدونات

وهم الثقافة والإلهاء المبرمج!

1-الفكر المادي عند شخص ما هو هيمنة التفكير المالي عليه في تقييمه للأشياء والأشخاص-(بيكسلز)
يمكنك أن ترى أن مجتمعاتنا العربية مقيدة مضغوطة أكثر من غيرها هشة المكونات متمزقة الوشائج (بيكسلز)

كما ينبني العالم فيزيائيا على جسيمات أولية تلتحم وتتفاعل فيما بينها مكتسبة خصائص متجددة توظفها وتطورها ثم تتخطاها لتصنع هذا الزخم الهائل من التنوع اللامحدود من حولنا كذلك هو المجتمع؛ حين تلتحم عناصره ومكوناته بواسطة ثقافات، قيم، شعائر ومفردات "هويته الأولية" المستقرة، وما يستمده من انفتاحه على غيره من المجتمعات وتأثره بها ليتخطاها فيبني عليها تصورات جديدة وقرارات وسلوكيات، تتعدد بتعدد الأطر الفلسفية التي ينطلق منها لتكون محركا لتطوره أو عائقا أمامه.

إلا أن العالم الاجتماعي يبدو مقيدا مضغوطا مقارنة بعالمنا الحيوي -إن صحت التسمية-، لأنه مناخ محكوم بحسابات السياسة والسلطة والاقتصاد والمؤسسات المهيمنة، أضف إلى ذلك أن المادة التي نتعامل معها هنا هي حياة الناس، علاقاتهم وتفاعلاتهم، لا معادلات نظرية أو مواد كيميائية، وبالتالي لا يمكن أن يكون تجريبيا بحتا.

تحاصرنا مجتمعاتنا المنومة هذه بالأسئلة التي غالبا لا تكون بهدف الحصول على معرفة تدفع الجهل وإنما بهدف السخرية: ماذا صنعت لكم الثقافة في حين يجلس على المقاعد الأمامية أهل التفاهة؟

ومن هذا المنظور يمكنك أن ترى أن مجتمعاتنا العربية مقيدة، مضغوطة أكثر من غيرها، هشة المكونات، متمزقة الوشائج، محاولة إنجاز التغيير فيها أو الإتيان بالإبداع أشبه بمن يلقي بحجر في ماء التفكير الآسن، تتصدر له الحركات الاجتماعية والنقاشات العامة وغيرها من الأدوات بالمصادرة، طبعا هذا في أفضل حالاته.

أما الأسوأ فهو أن يقابل بالتهميش البائس، أن لا يلقى من حوله منصتا واحدا. فالصراعات الأيديولوجية، والحروب والديكتاتوريات، وسياسات دولنا الممنهجة التي تعتمد أسلوب الإلهاء بشكل صريح، قد أحجمت الرأي العام عن التفكير العميق في القضايا الحيوية، وصرفته عن الاهتمام بالتطور؛ وقد تحدث الفيلسوف الفيزيائي باسكال عن فكرة الإلهاء في كتابه "تأملات باسكال" كأسلوب يلجأ الإنسان إليه لتشغيل ذهنه وتجنب مواجهة الأسئلة الكبيرة والتحديات الواقعية، بالانغماس في الملهيات والأنشطة التافهة أو الالتفات إلى الأمور السطحية، أو كما قال: "عندما يكون العقل غير قادر على العمل بشكل مفيد، يبدأ بتحويل انتباهه إلى التفاهات".

بل تجاوزت هذا الأسلوب إلى تحديد توجهاته وأحلامه ومساعيه لعقود طويلة في سبيل واحد: الحصول على الحاجات الأولية من أجل البقاء على قيد الحياة! حتى لا يمتلك رفاهية الالتفات إلى العالم الخارجي المتنعم بالاكتشافات المتجددة. ليصبح كائنا محتجزا في حظيرة الحياة البدائية التي تثبّط العقل، فتجعله يسلم لكل الترهات التي تروى له، ويذعن لما يمليه عليه المتسلطون على حياته بنوع من الاتكالية المقيتة والبلادة المستفزة والانصياع المذل والجهل الأبله، مشكلا مجتمعات مغيبة عن ركب الحياة والثورات العلمية والفكرية، غارقة في وهم المعرفة والحياة العبثية (كمثل مباريات كرة القدم، الألعاب الإلكترونية والانتخابات..).

بل الأسوأ من ذلك أنها حيدت عقولهم ووظفتها في التنافس الوحشي على لقمة العيش والمال؛ لتسهل الهيمنة عليهم كقطيع مجوع محروم من كرامته الإنسانية وأحلامه، يسعى للفوز بفرص البقاء على حساب حرمان غيره وموتهم. مجتمع كهذا يفتقر إلى أبسط مقومات الحياة، لا يبدي اكتراثا للقيم الأخلاقية أو الفكرية، سعيد بحاله، يمارس الاستهلاك المفرط ويُعنى بصورته ورشاقته الجسدية عبر عمليات التجميل والنحت، كيف له أن يأتي بمنجز ثقافي منشود على مستوى العلوم أو الهندسة أو العمارة، مع تقدم الآلة والمعمل في الفيزياء والبيولوجيا، والذكاء الاصطناعي، إلا في القليل النادر الذي لا يمكننا القياس عليه.

بل وتحاصرنا مجتمعاتنا المنومة هذه بالأسئلة التي غالبا لا تكون بهدف الحصول على معرفة تدفع الجهل وإنما بهدف السخرية: ماذا صنعت لكم الثقافة في حين يجلس على المقاعد الأمامية أهل التفاهة؟ حسنا، هؤلاء تعينهم هشاشة التفكير المجتمعي وافتقاره إلى العمق المعرفي والمصالح وسياسة الخنوع وغياب الوعي العام على التصدر، حتى وإن كنت لن تسمع منهم سوى التبجح بالمنجز والتباهي الأجوف والكلام العام الذي لا يؤدي إلى معنى ولا يمنح رؤية للمتلقي بل ويحيله إلى عماء ضارب وانبهار ساذج.

وطبعا لا أحد سيتوجه إليهم بسؤال: ماذا صنعت لكم التفاهة؟ فالإجابة بالنسبة لهم واضحة. وهكذا يحسم المجتمع أمره في معايير النجاح والفشل ضمن ثقافة "افتراضية" تفتقر إلى أسس رصينة، تنضح بالعاطفة الجارفة ووهم المعرفة. وبهذا نصنع معطيات ثقافية ثانوية متحجرة جديدة نصفها إلى جانب معطياتنا القديمة لتعزلنا عن العالم أكثر وتحول دون التحاقنا بركب التطور.

 

عقل لا يتوقف عند منحنى زمني أو أسلوب صياغة محدد أو رؤيا مستقرة فهو وعي متجدد مبتكر، كما لو أنه يعمل ضمن "ميكانيكا الكم" في إطار العمل العقلي وعلاقته بالزمن.

إن العقل البشري الحر دائم البحث والتساؤل والتجريب والشك والتأمل، لا يأخذ الأمور مأخذ التسليم، ولا يصادر رأيا لمجرد اختلاف فكري، عرقي أو ثقافي أو أيديولوجي، ولا يقعده وجود حقائق ونظريات ثابتة ونهائية في العالم، بل يدرك أنها أفكار متأتية من اجتهادات بشرية، وبالتالي فهي قابلة للجدال والنقاش، أو حتى للتغيير أو النفي المطلق.

عقل لا يتوقف عند منحنى زمني أو أسلوب صياغة محدد أو رؤيا مستقرة فهو وعي متجدد مبتكر، كما لو أنه يعمل ضمن "ميكانيكا الكم" في إطار العمل العقلي وعلاقته بالزمن. وتحضرني في هذا السياق مقولة صلبة لسيدة العمارة لما بعد الحداثة زها حديد، تقول فيها: "علمتني التجارب أن علينا تغيير أسلوب تفكيرنا بين الفينة والأخرى لتناسب اللحظة التي نعيشها"، إذ لولا سعيها المتواتر لتطوير فكرها بين برهة وأخرى ومثابرتها لتوائم كل آونة مع اللحظة المتزامنة معها، وخروجها عن الإطار الفكري المألوف لما حققت ما حققته من مشاريع ابتكارية أشبه بالخط العربي في انسيابها وفي الفضاء في لامحدوديتها في واقع محتشد بالتحديات والعوائق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.