شعار قسم مدونات

قوة الغيب!

غزة الدامية الجزيرة
هناك في مدينتهم المنهكة يتعلقون بالقوة العظمى والإرادة الجبارة يتعلقون بالقاهر فوق عباده من بيده ملك السماوات والأرض (الجزيرة)
  • شيء ما مختلف عن كل ما يمكن أن يخطر ببال بشر، إنها المحرقة!

هناك في مدينة صغيرة مكتظة بالبشر تشتعل النيران لتلتهم قوانين الإنسانية جمعاء معلنة أن البقاء للأقوى، وأن القوة هي الغاية العظمى التي ترقى إليها المجتمعات البشرية، فهي ترقى في سلم المال والأعمال والصناعات، وتزداد شغفا بالماديات ثم تزداد وتزداد، ويفتح الله لها أبواب كل شيء فتتلقى الأعطيات بكبر قاروني معلنة أنما "أوتيته على علم عندي"، فإذا تمت لها القوة قدمت الدليل العملي على أن "الإنسان يطغى" إن هو استغنى أو ظن أنه استغنى.

هناك في مدينة مدمرة يسقط الأطفال موتى من الجوع، وتتهاوى أجسادهم الصغيرة متهالكة من الإعياء الذي خطه البرد والفقد والدمار

  • شيء ما مختلف لا يمكن أن يكون إنسانيا ولو انطفأت كل القلوب، إنها المحرقة.

هناك في مدينة مدمرة يسقط الأطفال موتى من الجوع، وتتهاوى أجسادهم الصغيرة متهالكة من الإعياء الذي خطه البرد والفقد والدمار والحزن والبؤس ورائحة الموت والظمأ والجوع، وتخلع الإنسانية جبتها وتنكشف سوأتها فإذا هي كذبة كبرى لا يخلع عليها ثوب الحقيقة إلا أن تنضوي تحت العبودية لله، ولا يمنحها صبغة الخير إلا أن تكون في صبغة الله، وهناك أمام تنهيدة يتيمة طاوية البطن يصرخ العالم المتجبر "من أشد منا قوة؟"

من ذا الذي يملك أن يصدق أن كل هذه الأمم لا تستطيع منع لقمة واحدة أمر بها الله أن تكون في فم طفل هناك، وأن كل تلك الأمم أيضا لا تستطيع منحه هذه اللقمة ولو اجتمعوا

  • شيء ما مختلف لا يمكن أن يكون عقلانيا ولا منطقيا، إنه اليقين.

هناك في ذات المدينة المدمرة التي تعج بسكان بلا مأوى، تعصف بهم الريح بلا جدران، ويتساقط أطفالهم هلكى من حولهم، وقد ذاقوا لباس الخوف والجوع، وأدركوا معنى النقص في الأموال والأنفس والثمرات، هناك في قلوبهم نور مستبين لكل ذي بصيرة، نور يمسك بالقلب أن ينفطر، وبالنفس أن تنقهر، وبالإيمان أن يستكين، فتصعد أرواحهم في سماء الثبات، ويعرفون أن "الذي أطعمهم من جوع" قادر على أن يطعمهم من بعد ولو تكالبت أمم الأرض جمعاء، وأمسك عنهم العدو والصديق.

ولكن من ذا الذي يملك أن يصدق أن كل هذه الأمم لا تستطيع منع لقمة واحدة أمر بها الله أن تكون في فم طفل هناك، وأن كل تلك الأمم أيضا لا تستطيع منحه هذه اللقمة ولو اجتمعوا، ربما لا تملك أمم الأرض أن تصدق وقد ملكت الأسباب، وأغلقت الحدود وأمسكت الأرزاق، وأخرست الأفواه، وظنت أنها ملكت وقدرت واستعلت.

ولكنهم هناك في مدينتهم المنهكة يملكون ما لا تملكه كل تلك الأمم من القوى، إنهم يتعلقون بالقوة العظمى والإرادة الجبارة يتعلقون بالقاهر فوق عباده من بيده ملك السماوات والأرض ويثقون بالقوة الحقيقية الفاعلة، إنها القوة التي تجعل لكل تلك القوى معنى، إنها القوة الغائبة الحاضرة، تلك التي تجعل من يوقن بها ملكا ولو فقد كل شيء، وتترك من لا يعرفها عبدا ذليلا ولو ملك كل شيء.

متاع قليل، حقيقة لا يستطيع أن يراها إلا من مسحت قوة الغيب على قلبه، فكشفت غشاوة الدنيا وزخرفها وبينت معناها ومآلها، ثم غرست جذور الثبات في الروح فما ثم إلا السكينة وما ثم إلا الرضا وما ثم إلا اليقين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.