شعار قسم مدونات

الإسلام بين الاعتدال والتطرف!

تراث - التاريخ الإسلامي - ميدجيرني
لا يمكن تفسير ظاهرة الإسلاموية إلا كظاهرة اجتماعية طارئة لم تكن موجودة في المجتمعات الإسلامية في العصور الوسيطة الإسلامية أي ما قبل الحداثة وتوحشها (ميدجيرني/ الجزيرة)

لقد بات واضحا وجليا للذي يتابع التحولات التي تحصل في القارة العجوز، صعود تيار اليمين في أرجاء أوروبا. هذا اليمين ليس حبيس النخبة الحاكمة وخطابها السياسي حصرا، إنما أصبح حالة شعبوية منتشرة بشكل كبير ولافت بين فئات المجتمع كله، وهذا الانتشار له أسباب كثيرة، فالمبررات الاقتصادية وبرامج اليمين السياسية أصبحت أكثر حضورا عند الجمهور الذي بات أكثر اقتناعا باليمين من اليسار الذي أصبح بحسب رؤيتهم أقرب للمثالية المزيفة، وأصبح من الضروري وصولهم إلى السلطة.

الحضارة الإسلامية الحية في عقل المسلم رغم غيابها عن المشهد الحضاري العالمي ما زالت قادرة على الاستنهاض مجددا وبشكل سريع.

وفي هذا السياق، لا يمكن لنا إلا أن نربط خطابات الرئيس الفرنسي ماكرون أو الرئيس الأسبق والمرشح الحالي لرئاسة الولايات المتحدة الأميركية دونالد ترامب اللذين يمثلان اليمين بشكل لا يقبل أي شك بتلك التحولات التي تشهدها أوروبا والولايات المتحدة الأميركية؛ فإنهما يشنان هجوما باستمرار على الإسلام وعلى المهاجرين.

هذان النموذجان لا يعبران عن حالة طارئة أصابت أوروبا من ضمن سياق سياسي معين، إنما هي ظاهرة متأصلة في العقل الغربي، ولا يمكن عدم ربطها بالحركة التنويرية والفكرية التي ظهرت في أوروبا في أثناء العصور الكلاسيكية، أمثال هيغل وماكس فايبر وألكسيس دو توكفيل، وفي العصر الحديث؛ أمثال برنارد لويس وفوكوياما وغيرهما من الباحثين الذين وصموا الإسلام بالجمود والرجعية وبأنه غير قابل للاندماج في الحداثة الغربية وقطاره سريع، وهذه الأفكار لم تبق حبيسة الأوساط النخبوية والمفكرين الغربيين؛ إنما تسللت إلى النخب العربية والإسلامية التي أصبحت تعيد المصطلحات الغربية، وهكذا تم تقسيم الإسلام إلى قسمين: الأول وهو الإسلام المعتدل والثاني وهو الإسلام المتطرف.

يستند هؤلاء إلى أن الإسلاموية كظاهرة فكرية وتنظيرية تحولت، في ما بعد، إلى حالة حركية وتنظيمات سياسية ظهرت في القرن العشرين تحمل السلاح، وتمارس العنف كطريق للتغيير؛ حيث تستند رؤيتهم إلى التأويل النصي لبعض الآيات والأحاديث النبوية التي تؤصل حركتهم السياسية وخطابهم الديني، لذلك، شاعت، وانتشرت الحركات الإسلاموية؛ كحركات دموية تثير الرعب والخوف بين الناس، ولا تفرق بين المسلمين والمسيحيين، متأثرين بالجاهلية كالمصطلح الذي أطلقه وناقشه سيد قطب في كتابه "معالم في الطريق".؛ ولكن لا يمكن تفسير ظاهرة الإسلاموية إلا كظاهرة اجتماعية طارئة لم تكن موجودة في المجتمعات الإسلامية في العصور الوسيطة الإسلامية أي ما قبل الحداثة وتوحشها ولا يمكن تفسيرها كحالة دينية أو نتاج نصوصٍ دينية.

لقد علق جيرارد بورينغ في كتابه "مدخل في الفكر السياسي الإسلامي" ؛ حيث يقول نقلا عن المؤرخ البارز برنارد لويس قائلا: (لا يوجد في التاريخ الإسلامي ما يقارن بالمذابح وعمليات الطرد والتحقيقات والاضطهادات التي مارسها المسيحيون، عادة، على غير المسيحيين، واستمر بعضها بصورة أكبر من بعضهم تجاه بعض)." ولكن الغرب وصناع القرار استطاعوا استغلال تلك الظاهرة من أجل توظيفها سياسيا وإيديولوجيا. بعد سقوط جدار برلين وسقوط الاتحاد السوفياتي لم يعد هناك عدو بالمعنى الإيديولوجي للغرب الرأسمالي والليبرالي  يستطيع أن يواجههم، فانتهى التاريخ وكتابته كما يصف فوكوياما، إلا أن الحضارة الإسلامية الحية في عقل المسلم رغم غيابها عن المشهد الحضاري العالمي ما زالت قادرة على الاستنهاض مجددا وبشكل سريع.

كتاب صدام الحضارات لصموئيل هنتنغتون كان قد تنبأ بالصراع والصدام التالي الذي سوف يحصل بين الإسلام والغرب، فالغرب بحاجة دائمة إلى وجود عدو دائم بحسب الإستراتيجية الغربية ونخبها السياسية والفكرية من أجل تعزيز خطابهم الإيديولوجي وبقاء الجمهور في حالة استعداد وتوتر دائمين لمواجهة العدو، فهذا يسهل تمرير صفقات بيع الأسلحة وعملية الغزو هنا وهناك. فالعراق وأفغانستان نموذجان لدعم الانقلابيين بحجة مواجهة الأخطار مثل ما حصل في كثير من دول أميركا اللاتينية.

خرج مصطلح الإسلام المتطرف، وأصبح من ضمن لائحة أدبيات الخطاب السياسي الغربي والنخب العربية الحاكمة من أجل الهجوم على الخصوم عند اللزوم بحجة الإرهاب، فأصبحت كل حركة سياسية شرعية وحركة مقاومة تحارب الاحتلال هي حركة إسلامية متطرفة

إن التصنيفات التي أطلقها الغرب على الإسلام تحولت، في ما بعد، إلى فعل إرادي للغرب الذي يطالب الأنظمة العربية والإسلامية التي تدرس المناهج الإسلامية بأن تقوم بتعديلات حاسمة في كثير من المناهج وتجريد الخطاب والنصوص من الآيات التي تفضح اليهود والتي تتكلم على الجهاد. في هذا السياق، لقد صرح نتنياهو عن رؤيته لمرحلة ما بعد الحرب في غزة؛ حيث طالب بأن يتم تغيير المناهج الإسلامية ومراقبة خطب الجمعة؛ وهذا يعني تجريد الإسلام من كينونته الأصلية التي تحث المسلمين على الدفاع عن أنفسهم وعن مقدساتهم وعن الأرض والعرض. هذا التصور والتوجه هو جزء لا يتجزأ من الرؤية الأميركية التي  تطلب من الأنظمة العربية في الخليج أن تقوم بالخطوات نفسها، وهذا ما صرح به الدكتور عبدالله النفيسي سابقا.

إن الحرب المعلنة على الإسلام ليست فقط في السياق والسباق العسكري والتكنولوجي، إنما تتعدى هذه الهجمة إلى حدود أبعد من هذا بكثير، فالمعركة الثقافية هي جزء أساسي تقوم على تغليب الرؤية الأميركية على الثقافة الإسلامية وتهذيبها، ومن هذا المنطلق كان لا بد من إكمال مسيرة الاستشراق الفج الاستعماري الذي كرس تشويه التاريخ الإسلامي وحقله المعرفي؛ أمثال شاخت وإجناتس جولد تسيهر وغيرهما، وهذا أدى، بطبيعة الحال، إلى القطيعة المعرفية والتراثية لكل ما يمت إلى الإسلام بصلة، مما ساعد كثيرا على تغليب الإسلام وبنيته وثقافته تحت الرؤية الغربية.

إن الحركات الإسلاموية هي ظاهرة اجتماعية بحتة تطورت وتحورت وفقا للمعطيات السلطوية وسلوكها الأوتوقراطي والديكتاتوري، ولكن هذا لا يبرر أفعالها التي قامت بها  داعش وأخواتها، ولكن هذه الظاهرة تنمو وتزدهر في أنماط اجتماعية معينة وفي بيئات تتعرض إلى الاضطهاد السياسي والقمعي والتسلط والزج في السجون، فرأت أن خلاصها يكون في اللجوء إلى العنف كوسيلة للخروج من مأزقها.

نتيجة لذلك خرج مصطلح الإسلام المتطرف، وأصبح من ضمن لائحة أدبيات الخطاب السياسي الغربي والنخب العربية الحاكمة من أجل الهجوم على الخصوم عند اللزوم بحجة الإرهاب، فأصبحت كل حركة سياسية شرعية وحركة مقاومة تحارب الاحتلال هي حركة إسلامية متطرفة، فعلى سبيل المثال، كل  من يعارض الاحتلال الإسرائيلي ويقاومه هو إرهابي وهو من فريق الإسلام المتطرف، وكل من يكافح في سبيل التحرر السياسي، ويتطلع إلى رؤية ديمقراطية تشاركية ومساواة وتعددية سليمة فهو في خانة الاتهام، ويقع ضمن نطاق الإسلام المتطرف أيضا.

أما على المقلب الآخر، فكل من يقبل الهوية الحداثية ومفهومها الفلسفي المادي، ويحصر الإسلام كمنظومة حضارية  ضمن العبادات الدينية؛ مثل الصوم والصلاة هو إسلامي معتدل، وكل من يبقي حدود الدين  ضمن المسجد كمساحة تعبدية، مما  يحوله إلى معبد مجرد من القيم الإسلامية الاجتماعية فهو معتدل، وكل من يحرص على عدم تحويل المسجد إلى جامع يحمل خصائص مختلفة تختص بالأمور السياسية والعامة فهو ضمن مفهوم الإسلام المعتدل. فهم يريدون إسلاما مقيدا ومقلم الأظافر؛ مثل أسد بدون أنياب ومخالب.

نادى الإسلام بالتعددية كمفهوم فطري أصيل لا يقبل التفاوض، وهذه التعددية الثقافية هي عدوة الحضارة الغربية وحداثتها التي لا تقبل إلا رؤيتها العالمية وتصوراتها المادية البحتة

ليس هناك إسلام معتدل ولا هنالك إسلام متطرف، الإسلام هو الإسلام، فهو منظومة تكرس التسامح والرحمة كبنية مجتمعية ولبنة أصيلة للعقد الاجتماعي بين الأفراد  والجماعات والدولة، ولكن الإسلام، في الوقت ذاته، يدعو للدفاع عن القيم والأرض والعرض، فالإنسان قيمة ثابتة عنده لا يمكن المساس به؛ فهو أهم من الكعبة الشريفة نفسها وهذا ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لهدم الكعبة حجرا حجرا، أهون من قتل المسلم".

نادى الإسلام بالتعددية كمفهوم فطري أصيل لا يقبل التفاوض، وهذه التعددية الثقافية هي عدوة الحضارة الغربية وحداثتها التي لا تقبل إلا رؤيتها العالمية وتصوراتها المادية البحتة، ووفقا لذلك المنظور كان لا بد لهم من تقسيم الإسلام من أجل خلق فرقٍ متصارعة ضمن المجتمعات ومن أجل تطويع الإسلام تحت رؤيتهم، لذلك، علينا أن نتنبه إلى هذا الخطر الداهم، وعلينا أن نقدم رؤية حضارية جديدة تقوم على استنهاض الثقافة وبناء هوية سليمة وطرح قضية محقة وربط الهوية بالقضية عبر تعزيز العصبية الخلدونية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.